هذه مشاركة بسيطة مني لمن يدرس علم تاريخ الكلمات (etymology) و لديه رغبة في تأليف قاموس ايتيمولوجي حول تاريخ معاني الكلمات في الجزائر و تغير سياقاتها المعنوية (semantics) عبر السنين بفعل نظرية ابن خلدون التيهرتي "المغلوب مولع بتقليد الغالب" ، و الغالب الذي اقصده هنا هو فرنسا بالأمس و أذنابها اليوم لأن جميع كوارثنا بما فيها اللغوية كانت و مازالت و ستبقى تأتينا من الضفة الشمالية للبحر المتوسط. و بما أننا في شهر رمضان الذي يسارع فيه الناس إلى فعل الخيرات فإنني قد قررت أن أتطوع بدراسة تاريخ بعض الكلمات بدءا بمعانيها الأصلية و وصولا إلى السياقات التداولية لها اليوم،كما أني أضع هذه الدراسة وقفا لكل من يريد الخوض في هذا الموضوع و لا داعي للإشارة إلي في قائمة المراجع و المصادر فهي حبوس لله ، فقط لا تنسونا بصالح الدعاء. و لكي نستطيع الإلمام بهاته الدراسة فإننا بحاجة لكي نستذكر إحدى ثنائيات عالم اللسانيات السويسري فرديناند دي سوسير و هي الدال (رسم الكلمة أو اللفظ) و المدلول ( التصور - concept - الذي توحيه الكلمة في الذهن) حيث يرى ذات العالم أن العلاقة بين الدال و المدلول (signifier-signified) هي علاقة اعتباطية (arbitrary) أي لا يوجد سبب معين مثلا لتسمية فاكهة التفاح بالحروف ت - ف - ا - ح كون التسمية جاءت اعتباطا. فأما الكلمة الأولى محل دراستي الإيتيمولوجية فهي كلمة "مسؤول" و هي من الفعل سأل و اسم الفاعل هو سائل و اسم المفعول هنا الذي يقع عليه فعل الفاعل هو "مسؤول" أي أن المعنى اللغوي لهاته الكلمة هو الشخص الذي يُسأل عما فعل بنفسه و عما اجترحه فيما استرعي فيه. و هذا هو المعنى الذي فهمته العرب قديما و لا أدلَ على ذلك من قول رب العباد سبحانه و تعالى "و لا تَقفُ ما ليس لك به علم إنّ السمعَ و البصرَ و الفؤادَ كل أولئك كان عنه مسؤولا". ننتقل الآن إلى المعنى المعاصر لكلمة "مسؤول" ، و لنفرض أنك تدردش مع صديقك عن فلان الذي لم تره منذ وقت طويل و عن السبب الذي يجعله لا يرد على مكالماتك الهاتفية و هل صحيح انه طلق أم أولاده و تزوج بفتاة في سن إحدى بناته ... فيبادرك صديقك بالقول بأنه قد صار "مسؤولا كبيرا في الدولة"... ترى ماهو التصور (concept) الذي سيرتسم في ذهنك في تلك اللحظة بعد سماعك لكلمة مسؤول؟ حسنا ...سأساعدك في الإجابة ..."فلان مسؤول كبير" و "فلتان مسؤول مهم" ما يتبادر إلى الذهن صورة شخص يرتدي بذلة أنيقة )كوستيم بالعربية) و بطنه تتدلى بين يديه و يحمل سيجارا كوبيا و يجلس في مكتب فخم وسط محيط ترف و بذخ لا يرى فيه شمسا و لا زمهريرا و في إحدى زواياه ثلاجة فيها من كل فاكهة زوجان، و عند المدخل تجد سكرتيرة فاتنة تستقبلك بكلمة "بونجوغ موسيو" ...هل هذه هي الصورة التي ارتسمت في ذهنك أم تراني جانبت الصواب؟ فالدال هنا هو كلمة مسؤول و المدلول لدى الكثيرين هو سكرتيرة البونجوغ و لا ندري إن كانت العلاقة بين السكرتيرة و المسؤول هنا اعتباطية أي السكرتيرة تم توظيفها لكفاءتها و ليس بسبب مدلولات و تصورات أخرى (...). كما لن أحدثك في هذا المقام عن التصور الآخر الذي يتبادر إلى ذهني – عن تجربة و ليس قيل و قال – فيما يتعلق بالامتيازات التي يستفيد منها المسؤولون من تعويضة النقل و دفاتر البنزين و الترقية في رتبته الأصلية إذا كان منتدبا في مهمة سامية أو عهدة نقابية و اقتسام منحة الأرباح السنوية التي ينالها المسيرون المسؤولون و التي تصب بعشرات الملايين في رواتبهم في حين المتسببون في هاته الأرباح ينالون منها النزر القليل من مليون أو مليوني سنتيم فقط، هذا زيادة على المنح الشهرية التي يستفيد منها المسؤول مثله مثل الموظفين البسطاء كمنحة الخطر مثلا رغم أنه لا يغادر مكتبه الوثير و لا يأكل في مطعم العمال (la cantine) حتى لا يرى ملابسهم المتسخة و وجوهم المغبرة فينسى وجه حسناء البونجوغ. و بما أنني صاحب السبق في البحث في ايتيمولوجيا كلمة "مسؤول" في الجزائر فإنني أقترح على أصحاب الرسائل و العرائض و الصحفيين و كاتبي المساهمات أن يكتبوا كلمة مسؤول مرتين و هو ليس توكيدا لفظيا بقدر ما يكون القصد منه تذكير المسؤولين أنهم مسؤولون أمام الله. فمثلا لا نقول "استقبل المسؤولون المواطنين" و إنما نقول "استقبل المسؤولون المسؤولون المواطنين" و لا نقول "قرر المدير الفلاني" بل نقول "قرر المدير المسؤول " و لا نقول "فخامة الرئيس" و "معالي الوزير" هكذا - حَرْفي – بل نضيف لها كلمة مسؤول لتصبح "ألقى فخامة رئيس الجمهورية المسؤول خطابه السنوي في البرلمان كالعادة" أو " قرر معالي وزير التربية المسؤول تحديد عتبة الدروس لأقسام النهائي كل سنة و أضاف ذات المسؤول المسؤول أن الوزارة المسؤولة ستحقق نسبة نجاح 99% في الباكالوريا هاته السنة". نتحول الآن إلى الكلمة الثانية و هي "العفسة" فقد كانت لي معها قصة طريفة في ولاية شمالية - الولاية التي نزل بها قائد الحملة الفرنسية المارشال دي بورمون في 1830- فبينما كنت في أحد محلات الأكل الخفيف أتناول غدائي - زعمة- رأيت أحد الشباب يتناول غداءه مثلي ثم يلتفت إلى صاحبه و يقول له "كول كاشما عفسة راني عاردك شريكي". و أنا أستمع إلى هاته الدعوة الكريمة و "السخية" من لدن ذلك الشاب،تذكرت أحد أساتذتي في الرياضيات - حفظه الله- عندما كان يعطينا أحيانا تمارين تحتاج إلى الذكاء و يزيد على ذلك بالقول بأن ذاك التمرين فيه "عفسة" و حدث ذات مرة أن ذهب إليه صديقي مسرعا بالإجابة و بعد تفحص الإجابة بادره الأستاذ بالقول " لقد وجدت الحذاء و لَمَّا تجد العفسة بعد". و لا ننسى أن بعض سكان هاته الولاية الموقرة كان لهم السبق في تطوير ايتيمولوجية الكثير من الكلمات مثل كلمة "شريكي" التي صارت تعني صديقي و تقولها لأي كان حتى للأشخاص الذين لا تعرفهم بل و سمعت من مصدر موثوق أن إحدى الطالبات في كلية الحقوق بجامعة نفس الولاية - فيها تم تصوير مسلسل عيادة الحاج "يهدر" - نادت رئيس قسم هناك بكلمة "شريكي" فكاد الدكتور المسكين أن يغمى عليه بعدما أيقن إلى أين وصل مستوى طلبة الجامعة. كما لا يمكننا في هذا المقام إغفال كلمة "شتاء" التي صار معناها المطر عند سكان هاته الولاية - بعضهم تجمعهم الكرة في الملعب و تفرقهم هراوة الشرطي - و يروى في هذا الموضوع أن أحدهم دخل إلى محل في إحدى الولايات التي يقول أهلها المطر عن المطر و الشتاء عن فصل الشتاء و كان صاحبنا يريد أن يبقى داخل المحل حتى يحتمي من الأمطار – أو الشتا- فقال لصاحب المحل "ماعليش نجوز الشتا عندك" فاعتقد صاحب المحل أن هذا المخلوق يريد أن يبقى عنده فصل الشتاء بأكمله فقال له "فوت عندي المطر يا وليدي و كي تَصْحَ الحالة أحكم طاكسي و ولّي لداركم جوز فيها الشتا". أخيرا لمن يريد التبحر في مجال الإيتيمولوجيا الجزائرية فسوف لن يجد صعوبات و الميدان مازال عذريا و لا شك أن النظرية الملحدة حول التطور لداروين (Charles Darwin-Theory of evolution) تصلح للتنظير حول المسخ و التشويه الذي طال و يطال لغتنا الجميلة سواء عن غباء أو عن قصد ... سؤال: كلمة "التضحية" قبل 1962 كانت تعني فداء الحرية بالنفس و النفيس و منذ بضعة سنوات صارت تعني تلبية الدعوة للعب في المنتخب الوطني لكرة القدم مقابل "لا شيء". - حلل و ناقش. (*) facebook: Nomad-Of Tastara