توقفنا سابقا عند جموع المناقم التي أفردها الثوار ضد الخليفة عثمان بن عفان و لعل من أهمها تولية عثمان عددا من أقاربه لكل من الكوفة و البصرة و مصر ، حيث عين عثمان كلا من الوليد بن عقبة بن أبي معيط إمرة الكوفة و عبد الله بن عامر إمرة البصرة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح إمرة مصر ، هنا وجب لنا أن ندرك لماذا كانت الأمصار الثلاث مراكز قوية للثورة ضد عثمان و بؤر إستراتجية للتأثير في عواطف الناس و تهيجهم ، وكان من السهل جدا أن يقاد جمع من الدهماء بدغدغة حماستهم و زعزعة إدراكاتهم بأدنى شبهة .و هذا ما نسميه بقابلية الثورة غير المدعمة والتي تكون ضامرة في أنفس الكثيرين وقد تجدهم ينافقون في كل مجلس بأن تلهج ألسنتهم بمدح الحاكم وسرد جملة من محاسنه و قد يصل الأمر إلى حد المبالغة ، و قد لا تفتر ألسنتهم بهذا الذكر الصباحي المسائي ، ثم ما إن تظهر في الافق دعاوى مناهضة لهذا الحكم و تأخذ الدعم الإعلامي و التعبوي إلا و ترى هذه النخب التي تسترت طيلة فترة السكون حتى أخمرت مضمرة نيتها و دسائسها ضد النظام الحاكم تخرج من شرنقتها مظهرة الوطنية تعلو أصواتها النزعة الثورية ضد حكم استبدادي معرية عنه كل جوانب الإحسان مبينة المساوئ ، حتى إذا جنحت أركان التغيّر – وليس التغيير- إلى النصر سارعت الخطى لاقتناص فرصها و حظوظها لأخذ موقعها في بنية النظام الجديد. فعذر الثوار ضد عثمان بن عفان كونه ولى أقاربه عذر واه خال من أي تهمة تشوب قرار الخليفة فمثلا توليتة الوليد بن عقبة بن معيط قام لأمرين هما : الأمر الأول إن عمرا الخليفة الراشد رضي الله عنه كان قد إستعمل الوليد على عرب الجزيرة ومما عرف عنه رفقه برعيته. الأمر الثاني أن تولية الوليد جاء نتيجة لعزل سعد بن أبي وقاص لما جرى بينه وبين عبد الله بن مسعود خصومة حول مال لبيت المسلمين مما أدى إلى غضب عثمان بن عفان عليهما و عزل سعد عن ولايته. ثم نرى أن الخليفة عثمان يعزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولى عليها سعيد بن العاص وسبب عزله أنه صلى بأهل الكوفة الصبح أربعا و إلتف فقال " أزيدكم" ، فولد سلوكه نفرة لدى القوم حتى شكاه جماعة منهم يقال أنه كان بينهم وبينه شنآن و شهد عليه بعضهم أنه شرب الخمر و شهد أخر أنه رآه يتقيؤها ، فأمر عثمان بإحضاره و أمر بجلده بل هناك رواية تذكر أن علي رضي الله عنه نزع حلة الوليد و أن سعيد بن العاص جلده بين يدي عثمان بن عفان . بعد الذي ذكرنا لا يتصور البتة أن الذي يولي لأجل غرض حزبوي ثم يعزل من ولاه من أقاربه بل و يقيم عليه الحد و يولي غيره أن يسيئ السلطة التي بويع لأجلها ، و عليه تسقط شبهة الثوار القائلين بأن عثمان يستخدم سلطويته لخدمة الصالح الخاص . إن عثمان لم يقف مشدوها مما بلغه من أراجيف الثوار فقد ثار أهل الكوفة على سعيد بن العاص و نالوا منه و من عثمان و راسلوه مغلظين له في القول طالبين منه عزل عماله و استبدال بهم غيرهم من الصحابة من غير آل مروان ، وقد شق كل هذا على عثمان فسارع إلى مشورة أمراء الأجناد فأجتمع عنده معاوية بن أبي سفيان أمير الشام و عمرو بن العاص أمير مصر و سعيد بن العاص أمير الكوفة و عبد الله بن عامر أمير البصرة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب فاستشارهم فيما حدث من تفرق الكلمة فكان أن أشار عليه عبد الله بن عامر أن يشغلهم بالغزو و أشار عليه سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين و أشار معاوية أن يرد عماله إلى أقاليمهم و أن لا يلتف إلى مطالبهم لأنهم أضعف و أحقر و أشار عبد الله بن سرح بأن يتألفهم بالمال حتى يأمن غائلتهم وأما عمرو بن العاص فقد أشار بأن يقدم عثمان على أحد أمرين فإما أن يقدم على موافقة الثوار إلى مطلبهم أو الحفاظ على الموقف ذاته ، و ما كان من عثمان إلا أن جمع بين جميع المصالح التي أشار إليها عماله . ../... يتبع (*) طليبي محمد / دراسات عليا في التاريخ