الثورات الحقيقية لا تصنع في المخابر الغربية بل تنتجها النخب الطلائعية المجتمع العربي كالثور يهيجه الغرب مثلما يشاء قال عنه الشاعر عزالدين ميهوبي أنه الكاتب الذي يتنفس الكلمات كما لو أنها هواؤه الوحيد. وينغمس في عوالم اللغة والتراث والحداثة بحثا عن جواهره المفقودة بأناة وسعادة.. كما وصف حضوره الأدبي بالقوي والمتميز فابتلع الزمن كما لو أن عقارب الساعة تتراجع أمام كتاباته النابعة من خجل الذات المندفعة نحو فضاءات أكثر خصوبة وأوسع إدراكا و بصورة تدعو إلى الإعجاب والتأمل. في حين صنفه الدكتور يوسف وغليسي على أنه واحد من أبرز كتاب الجزائر المعاصرة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو من أغزرهم نتاجا إن لم يكن الأغزر على الإطلاق , فهو قطعا الوحيد من أبناء جيله الذي تجاوزت إصداراته العشرين كتابا، بمعدل أكثر من كتاب واحد في العام ..نعم ..إنه عز الدين جلاوجي الذي تحاوره جريدة الجمهورية لأول مرة على صفحاتها و تنفرد بأهم تصريحاته حول قضايا أدبية وسياسية راهنة تتابعونها في الحوار التالي : الجمهورية: تنقلت بين أجناس أدبية متعددة من القصة والرواية والمسرح، لكن تراءى لنا أنك تميل بكثرة إلى الكتابة المسرحية، فما سر ذلك؟ جلاوجي : فعلا تنوعت إجناسيا ، فكتبت القصة والمسرحية والرواية ، وهي أجناس بقدر ما تأتلف تختلف ، كانت بدايتي مع القصة ، وكان أول إصدار لي مجموعة قصصية بعنوان “لمن تهتف الحناجر؟”، ضمت محاولاتي القصصية الأولى التي نشرت في الصحف آنذاك ، ورغم أني واصلت كتابة القصة بين حين وآخر ولكن باحتشام كبير ، إذ يممت وجهي مطلقا إلى المسرحية و الرواية ، وأصدرت ثلاث عشرة مسرحية للكبار ، منها أحلام الغول الكبير ، و التاعس و الناعس ، وهستيريا الدم ، والبحث عن الشمس ، والأقنعة المثقوبة ، وفي الرواية أصدرت خمس روايات ، منها سرادق الحلم والفجيعة ، الرماد الذي غسل الماء ، راس المحنة 1+1=0 ، حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر ، ويمكن أن أؤكد أنني أجمع بينهما بمحبة كبيرة ، بمثل ما تستهويني الرواية ، تستهويني المسرحية أيضا ، والخائض غمارهما يدرك الفرق الجوهري بينهما ، قد يكون الموضوع واحدا ، غير أن تقنية كل منهما تمتلك خصوصية ، ولذلك لا يمكن الانطلاق من العدد 13 مقابل 5 للحكم على هذا الميل ، فما تقوله في رواية واحدة قد تقوله في مسرحيات ، الرواية أوسع أفقا وأعمق غورا ، أما المسرحية فتراهن على اللمحة السريعة لأنها محكومة بالزمان والمكان ، وقد خضت تجربة جديدة في كتابة المسرحية ، سترى أعداد منها النور في مقبل الأيام ، لعلها تؤسس لرؤية جديدة. أصبح الشعر يتيما يعلوه الغبار على رفوف المكتبات الجمهورية :أين موقع الشعر الآن من اهتماماتك المتنوعة ؟ جلاوجي : أنا لست شاعرا بمفهوم الشكل للشعر، رغم أن كل نقادي يتفقون على حضور الشعر في كل كتاباتي رواية وقصة ومسرحا ، ولقد جربت الشعر في بداية مسيرتي الإبداعية ولم يستقم لي أو لم أستقم له لست أدري ، فهجرته للسرد والمسرح وهما أرحب أفقا ، بل لعل زمان الشعر قد ولى ، فلم يعد له أنصار وأتباع وغواة ، وأصبح يتيما يعلوه الغبار على رفوف المكتبات، لقد صار سلعة بائرة، إلا ما سلس منه على أيدي ملوكه وهم قلة نادرة ، ومازلنا نحن في الجزائر نعاني من إنجاب شاعر فحل، يقف ندا لنزار أو درويش، ولذلك لاحظنا هذه الهجرة “الحرقة” القسرية للشعراء من جزرهم البائسة إلى جزر الرواية، وكل هؤلاء الذين خاضوا هذه المغامرة فشلوا شعراء. وعودا على بدء أؤكد أن الرواية جنس ديمقراطي يفتح ذراعية برحابة صدر لكل الأجناس الأخرى ومنها الشعر، ويمكن للمتلقي أن يقرأ لوحات شعرية غاية في الروعة داخل الرواية، ولقد أصبح الرهان الآن قويا على شعرية اللغة داخل الرواية، فاللغة الشاعرة هي روح النص السردي، ومن دونها يغدو هيكلا إن لم يكن ميتا فهو مريض، مع وجوب التوكيد على الفروق بين شعرية الشعر “الصوت الواحد” وشعرية السرد “تعدد الأصوات”، وهو ما وقع فيه بعض كتاب الرواية ، وجعلنا نقرأ نصوصا أقرب إلى الخاطرة منها إلى الرواية، ينتصرون فيها للغة الشعر، مضحين بكل ما تبقى، إن شعري حاضر دوما في نصوصي الروائية والمسرحية والقصصية. الجمهورية:قلتم منذ سنوات أن المسرحية كانت مطلبا داخليا ملحا، في حين أن الكثير من الأدباء وجدوا أن الرواية هي التي باتت المطلب الداخلي الأكثر إلحاحا، فما تعليقك ؟ جلاوجي : فعلا ، أجد في نفسي نزوعا شديدا وميلا كبيرا إلى النص المسرحي، ولي نصوص كثيرة قيد الكتابة أيضا، غير أني لم أقل أنها المطلب الوحيد، بل تقف معه الرواية موقف الند، وقلمي قادر على أن يخوض الميدانين معا، الرواية والمسرحية هما عشقي الأبدي، وهما يعيشان داخلي بكثير من الألفة والمحبة، ويتداولان على عرش خيالي بكثير من الديمقراطية، ولذلك أعتقد أني سأخلص لهما فيما تبقى من حياة ، ساعيا أن أقدم المختلف والمتميز، الذي يحقق إضافة للأدب الجزائري والعربي ، ولا يمكن أن نقارن أديبا بآخر، فلسفة الإبداع مازالت حتى الآن عاجزة عن أن تقول قولها الفصل، هناك من كتب في جنس واحد وتأخر فيه، وهناك من كتب في أجناس مختلفة وتفوق فيها جميعا أو في معظمها. المسرح الجزائري يعاني الإهمال ويحتاج إلى حركة نقدية معاصرة الجمهورية: ألا يمكن القول أن ميولك هذه تظهر على مستوى النقد أيضا ؟ جلاوجي : أصدرت في النقد ثلاثة كتب هي : النص المسرحي في الأدب الجزائري، وشطحات في عرس عازف الناي، والمسرحية الشعرية في الأدب المغاربي المعاصر ، وهي جميعها تركز على المسرح، وبالتالي فهي على حساب الأجناس الأدبية الأخرى ، والحقيقة أن هذا الانتصار للمسرح جاء بدافعين اثنين، أولا اندفاع كل النقاد والدارسين إلى السرد والرواية بشكل خاص منذ الثمانينيات، بعد أن كان اهتمامهم منصبا أكثر على الشعر، فأردت أن أغرد بعيدا عن السرب، وثانيا ما يعاني منه المسرح الجزائري من إهمال شديد على مستوى النقد، نحن في الجزائر نحتاج إلى حركة نقدية تقارب المسرح نصا وخشبة بأدوات نقدية معاصرة، وهو الغائب الأكبر في مسرحنا للأسف الشديد ، في حين نرى بعض الدول العربية كالمغرب مثلا قد قطعت مسافات متقدمة ، ولعل السبب هو عدم إدخال المسرح في مناهج التدريس العامة والجامعية، ومازالت مجتمعاتنا تنظر إلى المسرح على أنه وسيلة للترفيه أو التهريج، الواجب يدعونا الآن مؤسسات ومبدعين إلى غرس ثقافة المسرح وتقريبها من المتلقين، والخطوة الأولى تبدأ من المدرسة. الجمهورية :هناك تداخل الأشكال الأدبية في أعمالك وخاصة في رواية “سرادق الحلم والفجيعة”، لماذا هذه التداخلات الأدبية في العمل الواحد، هل هي إثراء أم تنويع ؟ جلاوجي : أشرت سابقا إلى أن الرواية قد أشرعت بواباتها للتعايش السلمي بين الأجناس، وأصبح تداخل الأجناس يمنح النص شعريته ، وأنت تلاحظين ذلك في كل نصوصي، ومنها سرادق الحلم والفجيعة التي يحضر فيها الشعر والمسرح والرسالة والأسطورة...، والأمر ذاته تكرر في روايتي “ حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” ، والتي تداخلت فيها الأجناس بشكل لافت، حتى أني اضطررت إلى كتابة نصوص شعرية عامية “الشعر الملحون” لكي أسندها لشخصية العربي الموسطاش، وهذا التداخل يجعل النص السردي خاصة إذا كان طويلا حديقة متنوعة تغري بالتجوال بين جنباتها دون ملل ، ورغم أن رواية حوبه في 560 صفحة إلا أن كل من قرأها وجد فيها هذه الإنسيابية والجاذبية بل إن منهم من أعاد قراءتها. أنا مسكون بالتجريب حد النخاع الجمهورية :أدرج النقاد رواياتك في خانة التجريب أو الروايات التجريبية، فما رأيك؟ جلاوجي : التجريب قرين الإبداع ، فلا إبداع دون تجريب ، وإلا صار تكرارا مملا مقرفا ، الإبداع هو أن تأتي بشيء على غير نمط سابق، وإذا كان على المبدع أن يتجاوز غيره من المبدعين أو على الأقل يختلف عن تجارب سابقة عليه، فالأولى أيضا أن لا يكرر نفسه، وأن لا تكون كتاباته التالية ظلا للسابقة، وهو ما سعيت إليه، ليكون لكل نص طعمه، ولونه، وشكله، والأمر لا يقتصر على رواياتي فحسب، بل هو موجود على مستوى قصصي القصيرة، بين مجموعة لمن تهتف الحناجر؟، وصهيل الحيرة، ثم ما كتب بعدهما، كذلك نلاحظ الأمر على مستوى نصوصي المسرحية، والتي أنتظر صدور سلسلة منها ذات طعم خاص مختلف البتة عما سبق، ويمكن ملاحظة ذلك بين رواياتي، أنا مسكون بالتجريب حد النخاع، كونه هو ما يعطي للإبداع شرعية البقاء. الجمهورية: ما الذي تثيره الثورات العربية فيكم ؟ وهل على الأديب أن يكون ملتزما، وما هي برأيكم الحدود المعقولة بين الحرية والالتزام؟ جلاوجي : اسمحي لي أن أعترض على كلمة ثورة، أو على الأقل في تعميمها على الدول العربية، وقد صرت أتصور أن المجتمع العربي اليوم صار كالثور، يهيجه الغرب متى شاء ذلك، وللغرب فينا مطايا ذللا على رأي الإبراهيمي، هو الذي نصب منذ عقود علينا حكاما طواغيت، وسخرهم لقمعنا وخدمة مصالحه ، مستبدلا بهم ما سمي بالاستعمار التقليدي، وحين بدأ شيء من الوعي يدب في مجتمعاتنا بفضل وسائل التواصل الحديثة، وبفضل تكون نخبة طلائعية ستقود حتما بعد عقود من الزمن إلى التغير الإيجابي ولكنه تغير سلمي، خلق موازاة معها طوائف أحيا بها رمما بالية نخرة ، وأفكارا تغوط عليها الزمان، حتى صار إراقة الدم والتكفير عبادة يتقرب بها إلى الله ، وحتى صرنا نسمع فتاوى لا يقول بها حتى المجانين كإرضاع الكبير، وجواز أكل لحم الجن، فشجع بدعم من عملائه على الثورة ضد الحكام ، وهي كلمة حق أريد بها باطل ، لأنه يدرك أن هذه المجتمعات لا تملك مشروعا نهضويا موحدا، فما يفرقها أكثر مما يجمعها، وستدخل في تطاحن لا يعلم نهايته أحد، إن الثورة على الظلم لا تعني أبدا تدمير بلد كامل كسوريا، ولا تعني طرد حاكم مفرد ليبقى زبانيته مندسين في كل زاوية ، ولا تعني أبدا استبدال جور بجور كما وقع في العراق، ولا تعني أبدا تسليم الحكم لطوائف تقوم على الإقصاء والفردانية الصارخة وحكم ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، والفرقة الناجية، ولا تعني الاستقواء باستعمار الأمس ولا بأتباعه المجتمعات لا تملك مشروعا نهضويا موحدا ولا تعني مواجهة الواقع بشعارات أو أنصاف مشاريع مجتمعية، ولنا أن نتعلم من الثورات الكبرى التي وقعت في العالم، وعلينا أن نقدم النخب المثقفة المستنيرة لتقود سفينة المجتمع إلى بر الأمان، بعيدا عن الدهماء والغوغاء التي لا يأتي من ورائها إلا الخراب، ومعنى ذلك أنه لا وجود لمثقف خارج الالتزام، فذلك يعد هرطقة لا معنى لها، ودون أن أخوض في الجانب النظري لهذه النظرية، فإن الالتزام الحقيقي هو عين الحرية أيضا. الجمهورية: هل الرواية الجزائرية لا تزال تراوح بين السقف والقمة ؟ أم لها اليوم شأن آخر خاصة ونحن نشهد جيلاً هاما من الروائيين؟ جلاوجي : فعلا نشهد موجا عاتيا من كتاب الرواية حتى لا أقول الروائيين، وهو جيل من حقه أن يكتب ومن حقه أن يختلف، لكن ليس من الصواب أن نحكم عليه الآن ، لأن كثيرا منه سيكون زبدا رابيا، وهذا ليس مقصورا على هذا الجيل فحسب، بل هي طبيعة الإبداع، نحن الآن نعرف امرأ القيس وأبا تمام والمتنبي و السياب ونجيب محفوظ مثلا ، ولكن حتما قد بدأ المسيرة معهم آلاف المبدعين، تساقطوا جميعا في الطريق، بالنسبة للأدب الجزائري مثلا نعتبر ابن هدوقة و وطار من الروائيين الكبار ، بعد أن ثبتوا في مواجهة الأعاصير، والمتصفح لتاريخ الأدب الجزائري يكتشف أن معهما قد نهض العشرات ثم اختفوا إلى غير رجعة، وكذلك الأمر في الشعر، وتاريخ النقد العربي يؤكد ذلك من خلال كتب الطبقات، لذلك أتصور أنه من السابق لأوانه الحكم على تجربة هذا الجيل سلبا أو إيجابا، مهمتنا فقط هي تشجيعه بعيدا عن كل وصاية وعن كل أستاذية. الجمهورية :ماهو الجديد الذي يعكف على تحضيره الأديب عزالدين جلاوجي؟ جلاوجي : أنهيت من أسابيع كتابا نقديا، وقدمت مجموعة مسرحيات للطبع لعلها ترى النور قريبا، وأنا عاكف هذه الأيام على كتابة رواية جديدة ، قد تصدر آخر هذا الصيف، وأرجو أن يتقبلها قرائي ونقادي قبولا حسنا كما فعلوا مع كل نصوصي ، وشكرا لك ولجريدة الجمهورية