أول روائي جزائري باللغة الفرنسية لقد أعطى "محمد بن الشريف" الجلفة الكثير من إسهاماته الإنسانية والفنية، وبدورها الجلفة لم تمنحه غير صورة قاتمة عن محارب فرنسي، لم تمنحه قارئا ينصفه أو حتى محاميا يرافع عنه ولا حتى دليلا يرشد إليه ويعرّف به.! "محمد بن الشريف" قائد ورجل نبيل القلب، رجل تجلّت نبالته في تضامنه مع أبناء بلدته الجلفة سنة 1920، عندما انتشر وباء التيفوس في أرجائها، إنه لم يخش على نفسه من العدوى التي تنتشر كما النار في الهشيم. لم ينأ بنفسه وهو ابن السادة عن العامة، بل اختار لنفسه أن يكون واحدا منهم، يؤاكلهم ويجالسهم، ويحمل معهم ويسعى في حاجاتهم، والصادم حقا أن تتكوّن صورة قاتمة بطريق الخطإ في حقه، لأجل أنه انخرط في صفوف الجيش الفرنسي. لا شك أن هذا التصوّر الجاهز لدى الأغلبية بما فيهم المثقفين له ما يبرره، ومع ذلك فهو تصوّر يجني ويُحطم أكثر مما يُنصف ويرضي. في تصوّري ومن خلال اطلاعي المحدود، يمكن أن أشير إلى الوثيقة الأكثر أهمية في حياة محمد، وأقصد روايته "الخيّال". إنها الشاهد الوحيد إن لم نقل الأوحد في نقل صورة صادقة وشفافة عن محمد "الإنسان" ومحمد "المحارب" ومحمد "الفنّان". تجدر الإشارة إلى أن محمدا لم يحارب ضد أبناء وطنه كما قد يتوهّم الكثيرون، بل إنه حارب في صفوف الفرنسيين ضد الألمان، ولم يجعل منه انخراطه في صفوفهم مواطنا فرنسيا، بل إنه ظل متعهدا جزائريا في صفوف الجيش الفرنسي، إنها ضرورة تاريخية يصعب شرحها للمُترَفين. لا يمكن بحال تصوّر هذه الحالة إلا إذا عشنا التجربة، ونحن نعلم أننا لا نتعلم من التاريخ ولكن من التجربة. والتجارب لا تستعار لسبب وجيه هو أنها لا تتشابه لدى الأشخاص، إنها متغايرة تتسم بالخصوصية، فحالة "محمّد" لا يمكن إسقاطها على حالة المعرّبين مثلا في تلك الفترة، وإن تشابهت المنطلقات والروافد الثقافية والثوابت الوطنية، ومع ذلك فإن شخصية في حجم "الأمير خالد" بصيته الثقافي وحضوره السياسي ظل راسخا في وعي التلقي عبر أزمنة متعاقبة وهو الذي عاصر محمد بن الشريف، بل وتخرج كلاهما في الكلية العسكرية نفسها "سان سير" وكان كلاهما سليل بيت عُرف بالعلم والمقاومة، أقصد: الأمير عبد القادر الجزائري وخليفته الشريف بن الأحرش. وهنا يأتي التساؤل ملحا: لماذا يُنظر إلى الشريف بن الأحرش على أنه شخصية غير جديرة بالثقة، وهو الذي استخلفه الأمير، ووضع مقاليد الحكم بين يديه، وزوّجه، بل ورشّحه ليكون حقيقا بالقيادة. إن جناية التصوّر المتعلق بالجد "الشريف بن الأحرش" امتدت لتصل إلى الحفيد "محمد بن الشريف"، وهذا من المغالاة التاريخية وعدم الإنصاف الذي لم يطله وحده، بل لحق العديد من الرموز لاعتبارات شتى. لنتساءل: ماذا لو كان مؤلف "الخيال" هو "الأمير خالد"؟ كيف سيحاكم الوعي الثقافي العمل ومؤلفه؟ هل ستتغير إحداثيات التلقي فتتغير الأحكام تبعا لها؟ الواضح أن "محمد بن الشريف" لم يكن محظوظا، لأن الموت لم يمهله حتى يشهد ميلاد الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار ليكون عنصرا فاعلا فيها ومنفعلا بها، كما كان الأمر بالنسبة للأمير خالد. ونحن إذ نفترض ذلك إنما نؤسس افتراضنا على ما جاء في نص "الخيّال" الوثيقة الأوحد التي تنطق بصراحة كافية عن الحالة التصارعية التي يعيشها بطل الرواية بين إرادة التشبث بالثوابت والقيم الأصيلة وبين ما يمليه راهنه السياسي ووصفه كمجنّد جزائري في الجيش الفرنسي. لقد جاءت رواية "الخيّال" محمّلة بأبعاد إنسانية وفنية باتت تتجاوزها كل القراءات التي يُفترض فيها تلمّس الجانب الجمالي، والشحنات العاطفية، التي تملأ جوانح الإنسان، بوصفه إنسانا قبل أن يكون محاربا أو خصما لدودا. هذا فضلا عن أن رواية "الخيّال" يتضمّن مسرودها مصرع البطل الروائي لا الخوض في تفاصيل الحياة التي جرت عليها عادة السير الذاتية. وذلك نوع سلبي آخر من التلقي. إننا نخلص إلى نتائج يقينية أو شبه يقينية، حين تناولنا لعمل إبداعي بالحكم له أو عليه بعد قراءاتنا المتعددة في متنه، فماذا عن الأحكام الجاهزة لأعمال لم يُعرف منها سوى عنوانها؟ . بمعنى أي نتيجة يمكن للأدب أن يحتفي بها في ظل عدم القراءة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لرواية "الخيّال" التي غابت أو غُيّبت مدة تفوق الثمانين سنة، ثم يأتي الحكم هشا ومباشرا وغارقا في الانتصار لحالة سياسية بعيدة كل البعد عن الأدب وروحه الإبداعية التي تستند إلى التخييل والصنعة الفنية بالأساس. لم يترك محمد بن الشريف خلفا له سوى كتابين: "الخيّال" و"نحو المدن الإسلامية المقدسة"، ولكن الثابت أنه ترك أواصر وعلاقات ربطته برجال النخبة في عصره من أمثال الحاكم "جونار" وكذلك مفتي المالكية بالديار الجزائرية الشيخ الفقيه "أبي القاسم محمد الحفناوي الديسي" صاحب كتاب: "تعريف الخلف برجال السلف". في ذلك الحين شاع التراسل بين أصحاب الأقلام وكان "محمد بن الشريف" من هؤلاء، غير أن المُحيّر في الأمر أنني لم أعثر على رسالة واحدة بينه وبين الأمير خالد مثلا أو غيره ممن كان له باع في الكتابة، وكان الدرب مسدودا أمامي في توثيق هذه القضية ودعمها بالشاهد الحسي والدليل المادي، وأنا أذكر هذا للأمانة والمسؤولية التاريخية والأدبية إذ إنني لم أقرأ حرفا واحدا من تلك الرسائل التي سمعت عنها كثيرا ولم تقع عيني على نسخة منها. لقد كانت الدواعي كثيرة، تلك التي تحملني على الخوض في عوالم هذا الرجل، غير أنني وأنا ابن المنطقة لم أفلح في غير عمل واحد عملت جاهدا رفقة الأستاذ الشيخ شعثان على توثيقه وإخراجه إلى القراء والمثقفين وهو نصه "الخيّال". إنني إذ أخوض في عملية بعث لهذا الإرث ضد النسيان والنكران، أكاد أحسّ أحيانا وأجزم أحايين أخرى أن هناك حلقة مفقودة في حياة هذا الكاتب الذي اكتنف وجوده وكينونته بعض الغموض والتكتم والحذر الذي لم أجد له مسوّغا بين يديّ إلى يوم الناس هذا، ومن عجيب ما لا يتفق أن هذا النكران يؤسس له أهل منطقته التي خلّد تفاصيل حياتها وعاداتها وإنسانها في أدبه. ملاحظة: صورة الواجهة لمنزل الروائي محمد بن سي أحمد بن شريف -رحمه الله- بالقرب من حجر الملح (*) كاتب ومترجم