لقي مصطلح الانزياح استقبالاً كبيرًا في الآونة الأخيرة، وشكّل محورا أساسيًا ضِمن مباحث الدرس النقدي المعاصر، عندما اقترن وجوده مع الأسلوبية المنهج النقدي النصاني، والتي يقصد بها «بلاغة حديثة ذات شكل مضاعف: إنّها علم التعبير، وهي نقد للأساليب الفردية، وقد كان نوفاليس أول من استخدم هذا المصطلح، والأسلوبية بالنسبة إليه تختلط مع البلاغة، وإذا عدنا للقواميس فسنرى أنّها تقترح علينا مالا يقل عن عشرين تعريفا لهذه الكلمة، يذهب أهمها من طريقة التعبير عن الفكر إلى طريقة العيش، مرورا بالطريقة الخاصّة لكاتب من الكتاب أو الفنان أو الفن...فالأسلوبية هي دراسة التعبير اللّساني أما كلمة أسلوب إذا أردت تعريفها الأصلي فهمي تعني رقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللّغة». (1) فالأسلوبية مصطلح حديث يرى البعض أنّه صورة محدثة للبلاغة القديمة، تبحث في مواطن التميز والتفرد لدى المبدع، فكما هو معلوم أنّ المبدع دوما نلمح في أساليبه نوعا من التمرد على ما هو متعارف عليه وكسر النمط المعتاد باللجوء إلى أساليب مبتكرة من صنع خياله، وهنا يتميز كل مبدع عن الآخر، وقد تكون للظروف الخارجية والتجربة دور في صقل هذا الأسلوب، فانحراف الشاعر عن النمط العادي للجملة هو ما يسمى بالانزياح كونه ينزاح عن المعهود. يقصد بالانزياح من الناحية اللّغوية: «زَيَحَ وهو زوال الشيء وتنحيه، يقال: زاحَ الشيء يزيح: إذا ذهب وقد أزحتُ علته فزاحت وهي تزيح» (2) فالانزياح هو الخروج عن المألوف. شهد لفظ الانزياح جملة من المفاهيم والتعريفات تتمحور جميعها في أنّه انحراف عن الطريقة المتعارف عليها عادة «استعمال المبدع للغة مفردات وتراكيب وصور استعمالا يخرج بها عما هو معتاد ومألوف يؤدي ما ينبغي له أن يتصف به من تفرد وإبداع وقوة وجذب وأسر» (3)، فلكلّ مبدعٍ معجمه اللّغوي الخاص، فالقاموس اللّغوي يختلف من شاعر لآخر ولكلّ واحد طريقته المتفردة في البناء وهندسة الكلمات واختيارها، وهذا ما يجعل النصوص الأدبية تتمايز، وهو المحور الذي تصب فيه الأسلوبية كما ذكرنا سابقا اهتمامها»، بحثا عمّا يتميز به الكلام الفنّي عن بقية مستويات الخطاب أولا وعن سائر أصناف الكلام بالتركيز على جانب فنّي مهم، ألا وهو الانزياح، فعادة ما يلجأ الشاعر إلى استراتيجية الانزياح، فالزيغ والمخاتلة هما أسلوب الشاعر ولغته المفضّلة، وعلى إثر هذا أردنا الغوص في تجربة أحد الشّعراء الجزائريّين المعاصرين الذي وجدوا في الهروب من النمط المعروف ملاذا للبوح بما يختلج في نفوسهم، وهو الشاعر سليم دراجي في دراسة موسومة ب «شعرية الانزياح في ديوان علم ودم وحمام (4) للشاعر سليم دراجي». غير أن دراستنا ستقتصر على الانزياح على المستوى الدلالي، فيا ترى ما شعرية الانزياح؟ شاعرية الإدهاش في الديوان: سليم دراجي صوت شاعري يتقن لغة الترميز، شاعر يمتطي صهوة قلم متيم بالحياة والوطنية والرومنسية أحيانا، يراوح في كتاباته بين أغراض عديدة، العاطفية والاجتماعية والسياسية، إنّه الشاعر الذي يحاول نقل قضايا بيئته بكلّ تفاصيلها لاسيّما فترة العشرية السوداء التي عانت من ويلاتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي. شعرية العنوان
علم ودم وحمام: جملة مركبة، تتكون من ثلاثة أسماء متتالية مبتدأ ومعطوفات بعده، جملة تثير العديد من التساؤلات حتى يشعر القارئ بنوع من الحيرة والدهشة ، فنادرة جدا العناوين التي تأتي على هذه الشاكلة، وكأن الشاعر من خلال عنوانه يحاول كسر النمط المعتاد من البداية فيخرق أفق توقع القارئ من البداية، العلم والدم والحمام ثلاثية مترابطة منسجمة: علم: هو رمز الوطنية، مقوّم من مقومات الهوية الوطنية ورمز من رموز الدولة، العلم ليس مجرد راية أو إكسسوار يزين مؤسسات الدولة وإنّما رمز من رموز الدولة وشعار لها في الأفراح والأتراح، له أبعاد ثقافية وسياسية واجتماعية مستمدة من تاريخ البلد، وهنا استحضر الشاعر العلم الجزائري وأعطاه حضورا مكثفا بداية من الغلاف أين احتل مساحة كبيرة في غلاف ديوانه. الدم: يشير هذا المصطلح إلى فترة عصيبة مرّت بها الجزائر وما تكبّدته من خسائر، هدرت من جرّائها دماء زكية طاهرة، إنّها فترة العشرية السّوداء. الحمام: وهو نتيجة لتلك الفترة أي تخلّلته دماء وكفاح ورغبة جامعة في إثباث الذات هذا من جهة، وقد يكون طائر الحمام ودلالاته المعروفة كونه رمزا للسلام والأمان، وهذا انطلاقا من قرائن الانتصار التي انتهت بها القصيدة. فالمتمعّن في العنوان وترتيب المسميات: علم دم حمام يلمح وطنية وعنف ودماء كثيرة..وهو ما نلتمسه في قصيدة التي تحمل العنوان ذاته إذ يقول فيها: «على ضفّة العمر يلهو بنا عطش قاتل منذ ألفيّ عام علم يا أبي، ودم وحمام على سور قريتنا يزرع الخوف فينا الظلام وصوت الكلام هل يعود إلى الأرض رونقها هل تعود إلى الطير أصواتها.. ليس إلا الخراب، ولون الكآبة يغزو السماء من تراهم يريدون أن يخرجوا الأرض من جسدي؟ من تراه يحول مجرى الطّريق ويصنع من جوعنا طربا.. شاعر وكفى أعشق الورد والحلم لي رغبة في الغناء ولي رغبة في البكاء وأصنع معزوفة الحب من كمدي شاعر، لي وفقط» (5) هو المشهد التراجيدي الذي بني عليه حوار القصيدة، حاول الشاعر من خلالها تصوير الوضع المزري الذي دخلته الجزائر ومرحلة الفساد التي وقعت فيها. 1 - الانزياح على المستوى الدلالي: أ - المعجم الشّعري: تناول الشّاعر في ديوانه جملة من الموضوعات، فطرح العديد من القضايا محاولا من خلالها التعبير عن قضايا ماضية ومعاصرة، وفيما يلي جملة الموضوعات الأكثر حضورا في النص الشعري: معجم الحب: العاشق، النهم، الفرحة، الاحتراق، البسمة، النشوة، معزوفة، الغناء، الحلم. معجم الوطنية: علم، السلام، الشهداء، الصحاري، وطن أخضر، الأوراس، نوفمبر، الخبز. معجم الحرب: الجرح، الموت، الحزن، الخراب، ديغول، معجم الطبيعة: الورد، الزهر، النخل. غير أن الملاحظ في المجموعة الشعرية يتلمس أن الشاعر حاول الخروج عن الدلالة المعجمية للكلمة، وصبغها بدلالة جديدة من صنع خياله ومن أمثلة ذلك نذكر مايلي: «ما أوسع البحر يا صاحبي غير أنّي أحوله غرفة في يدي، أقلصه.. ثم أزرع في وجهه مسحة الاكتئاب..» (6) فالبحر عادة يوحي بالسعة والهدوء والحرية، غير أنّ الشاعر قلص من الدلالة المعجمية وشحنه بدلالات أخرى: الضيق، الغرفة، الاكتئاب، القيود.. ب - جمالية التّعبير بالصّور: يلجأ الشاعر دوما إلى أسلوب التصوير باستعماله لأساليب بلاغية تضفي حيوية وجمالية على النص، وهذا ما لجأ إليه الشاعر في ديوانه، فلاحظنا حضورا مكثّفا للصور البيانية ما ينمّ على رغبة الشاعر في تشويش ذهن القارئ، خاصة وأنّ هذا هو هدفه «فالخط المستقيم هو سبيل الماشي والناثر، والخط المنحرف هو سبيل الراقص والشاعر» (7) هي السكة التي يسير عليها الشاعر أثناء رسم كلماته، وفيما يلي رصد لبعض النماذج: «ونحن أشبه بالقطعان ليس لنا راع، يكون عفيف النّفس مؤتمنا» (8)، في المقطوعة تشبيه، المشبه: الأمة العربية، المشبه به: القطعان، أداة التشبيه: أشبه، وجه الشبه: غياب الراعي المؤتمن. نلمح في الصورة البيانية نوعًا من التشتت والضياع، والوضع السيئ الذي وصلت إليه الأمة، فهاهو الشاعر يناجي طارق ويشتكي له الحالة التي وصلت إليها الأمة. - في قصيدة « مقاطع للفرح» يقول الشاعر: «إن عضّني زمني» (9) استعارة حيث شبه الشاعر الزمن بحيوان مفترس، حذف الحيوان المفترس، وأبقى على قرينة تدل عليه هي الفعل: عض، وهو الأسلوب الذي يزيد من بلاغة المعنى وقوته وتأكيده. - «أوراس أرضعنا عزا..» (10) كناية على الشرف والعز والشموخ، استحضر الأوراس / الرمز التاريخي الذي تغنى به الجميع نتيجة للبطولات والانتصارات في هذه المنطقة، لتبقى الأوراس رمزًا للبطولة والانتصار والكفاح والوطنية. فكما يقال الشعر لمح تكفي إشارته، فالإخفاء أقوى من التصريح، للقارئ جلسة لمحاورة هذه المضمرات. ج - الرمز: استحضر الشاعر في ديوانه جملة من الرموز والشخصيات التاريخية، وظّفها توظيفا يتماشى وروح العصر، فلجوء الشاعر إلى الرمز ما هو إلا هروب من الواقع المرير، ومحاولة التخفي وراء رموز وأقنعة، إنّه الملاذ والمتنفّس الوحيد للذات الإنسانية التائهة نتيجة الحروب والنكسات والانتفاضات، وهو ما جعل من الشاعر يستحضر جملة من الرموز الأسطورية المحمّلة بدلالات ثقافية وفكرة إيجابية لعله يجد فيها الخلاص والأمل المفقود، ف «لأسطورة تعبر عن فلسفة الإنسان في الوجود وهي تعكس بداياته الفكرية ومحاولاته الأولى في معرفة الكون وما يتصل به، فهي عصارة تجاربه ومنطقه في التعامل مع الواقع، كما أنها جزء لا يتجزأ من تراثه» (11)، ومن بين هذه الرموز نذكر ما يلي: زنوبيا: وقد استحضر الشاعر هذه الشخصية في قصيدة موسومة ب «زنوبيا» أتيت هل سيعود العشق يدفعني نحو الحياة، وهل تحيين بي أثر؟ هل سوف ينصفنا التاريخ في مدن صماء تحتضن الأشواك والكدرا.. وتقتل الحب في الأطفال إن ظهرا هل نستعيد زمان الوصل يا وجعي..» (11) فالشّاعر هنا يلجأ لاستحضار هذه الأسطورة يضمنها محاولا الاقتداء بها والسير على خطاها مستذكرا خصالها، كونها رمزًا للبطولة والجمال والعفة والقوة لم تعرف الخسارة قط، صانعة أمجاد إنسانية وحضارية، فيرى فيها أملًا للنهوض بالواقع الحالي. يستحضر الشاعر أيضا جملة من الرموز والشخصيات المذكورة في التاريخ الإسلامي منها شخصية بلقيس وقصة هابيل وقابيل، يقول في قصيدة «أسئلة الجنون والطين»: «لكنّ خلف المهد اختصم الإخوة والشمس تشكّل فرحتها يسقط هابيل قتيلا يا قابيل من الخاسر؟ مسكون بالعشق وأحلامي ويراودني حب مختوم بالسم وتحاصرني أشياء لا أفهمها» (12) متفاعلا مع قصة هابيل وقابيل القصة المعبرة والمؤثرة في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {اتلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 27 - 32). استحضرها الشاعر تأكيدا على استمرار الجرائم وظواهر القتل هذا من جانب اجتماعي، ومن جانب أدبي فالتفاعل مع القصص الدينية قد يزيد النص حجاجية وبلاغة وتعطيه مصداقية أكثر. د - التكرار: ظاهرة متواجدة منذ القديم، هناك من يرى في التكرار عيبا وهناك من يرى فيه لذة جمالية ومسحة شاعرية لها إيقاع عذب على السامع وعلى نفسيته، وللتكرار حضور في الديوان الذي بين أيدينا منه الأمثلة الآتية: في قصيدة «لا تهربي» نجد تكرار كلمة لا تهربي ثلاث مرات، وكأنّ الشاعر هنا يترجّاها أو يستميلها للبقاء. وفي القصيدة ذاتها يختم الشاعر المشهد بتكرار لكلمة «وستفهمين وستفهمين»، وكأنّ في التكرار وعدا وتحدٍيا. نلاحظ أن اعتماد الشاعر على أسلوب التكرار ليس عيبا بقدر ما هو تقنية واستراتيجية بلاغية «يلجأ إليها ليوظفها توظيفًا فنيا، ويعود هذا لدوافع نفسية وأخرى فنية، أما الدوافع النفسية فهي ذات وظيفة مزدوجة تجمع الشاعر والمتلقي على السواء، فمن ناحية الشاعر يعني التكرار الإلحاح في العبارة على معنى شعوري يلازمه بين عناصر الموقف الشعري أكثر من غيره» (14)، فلظاهرة التكرار أبعاد نفسية وأخرى جمالية فنية محضة. خاتمة - الانزياح مصطلح حديث اقترن ظهوره مع الأسلوبية التي تبحث في مواطن تميز المبدع وتفرده. - يتمظهر الانزياح على ثلاث مستويات، مستوى دلالي وتركيبي وإيقاعي، تضمّنت دراستنا المستوى الدلالي والتركيبي والإيقاعي، غير أن دراستنا انصبت على الجانب الدلالي لما تزخر به المجموعة الشعرية. الانزياح على المستوى الدلالي / يمس جملة من النقاط: المعجم الشعري: فرأينا كيف أفرغ الشاعر بعض الكلمات من معناها المتعارف عليه وشحنها بدلالات جديدة تخدم موضوعه. الصورة الشعرية: عمد الشاعر إلى التصوير مستخدما صور بيانية: التشبيه، الاستعارة، الكناية. التكرار: أسلوب بلاغي يلجأ إليه الشاعر لدوافع نفسية وأخرى فنية جمالية محضة. الرمز: تقنية حداثية تميز الشعر المعاصر، يراهن عليها الشاعر في نظم حروفه، فرأيناه استحضر رموز شخصيات تاريخية مثل: بلقيس، زنوبيا، بلقيس، هابيل وقابيل طارق، ديغول ، الرموز التي لجأ إليها الشاعر لخلخلة حواس القارئ وتشويشها وإضفاء مسحة جمالية بلاغية على النص. للموضوع مراجع