هي جملة رهانات وتحدّيات منوطة باللّغة العربيّة الفصيحة قدﹸما، كي لا يرغب عنها القارئ أو يحدث عزوفا؛ فالأمر لا يقف على المجالات التّقنية والتّكنولوجية فحسب، بل يتعدّاها إلى كلّ شقّ معرفيّ يعاني قصور الإنتاج في المجتمعات العربيّة ويحفل بالتطوّر في غيرها، أين توفّر أريضة خصبة لإنتاج المفاهيم تماشيا وعجلة التقدّم؛ إذ أنّ العلاقة بين الدّال والمدلول الّتي أتى بها اللّساني فرديناند ديسوسير Ferdinand De Saussure ليس من الهيّن نقلها من نظام لغويّ إلى نظام لغويّ آخر في النصّ الفكريّ الفلسفيّ. تروم طبيعة الإنسان إلى النّهل من تجارب الآخر، فإمّا أن يطّلع عليها بلغة الأخير، أو أن يسعى لضمّها للغته هو، ومن هذا النّقل تبرز جملة رهانات استنادا إلى الأبعاد الفكريّة الّتي يعكسها الفعل التّرجمي ذاته. يعرف عن اللّغة العربيّة الفصيحة زخرﹸها بالألفاظ والمصطلحات الممتدّة إلى مجالات لا حصر لها، وقد ساهمت في ذلك عوامل الإنتاج العلميّ والتّثاقف ومظاهر التّعايش عبر أزمنة خلت، غير أنّه أمام الرّهانات الّتي غدت تشهدها بعد عصور من الازدهار، أضحى حريّا بها مراجعة مواطن القصور لاستعادة وهجها. ولأنّ النصّ الفكريّ الفلسفيّ من أصعب النّصوص ترجمة وتعريبا، كان من الضّروري إحداث وقفة بهدف مساءلة القوالب الّتي تتّخذها ظاهرة هجرة المفاهيم وفلول الأفكار إلى العربيّة، وبالتّالي البتّ في قضيّة التّأصيل والاغتراب. بين التّأصيل والاغتراب كثيرا ما يشعر القارئ بضرب من الاغتراب وهو يقرأ نصّا فلسفيّا أجنبيّا بلسان عربيّ، للزّخم الهائل من المصطلحات الّتي قد يكتفي فيها المترجم بالاقتراض والمحاكاة أمام غياب البديل في اللّغة الهدف، أو يعمد إلى الاجتهاد الشّخصي سعيا إلى التّأصيل، وفي الحالتين لا غنى عن الإشكالات! فالتّرجمة إلى العربيّة ثقافة حضاريّة ترمي إلى تحقيق التّواصل الأمثل والتّأثير عينه الّذي تتركه اللّغة الأصل في ذهن المتلقّي، كما أنّ لها تقنيّاتها وحقلها الدّيداكتيكي، وصحيح أنّ الأمر يتعدّى كونه قضيّة لغويّة محضة، إنّما القالب الّذي يحمل تلك الشّحنات الثقافيّة هو لسانيّ بحت ويخضع لعامل الإنتاج بالدّرجة الأولى، ولذا يقتضي صقله العناية البالغة. رهانات وإشكالات.. إنّ من ضمن رهانات اللّغة العربيّة في هذا العصر مواكبة التطوّر العلمي الهائل الّذي ينبثق أغلبه من محيط غريب عن محيطها ويتمّ التّنظير له، بطبيعة الحال، بلغة أجنبيّة ينتعش معجمها بشكل متكرّر؛ وإن قلنا الجانب المعجمي، فنحن نتحدّث عن وفرة المصطلحات الجديدة في لغة أو لغات دون أخرى، الأمر الّذي يحيل إلى الدّور المنوط بالتّرجمة والمترجم. إنّما الإشكال البارز هنا هو كيف يحلّ للمترجم أن يستوفي ما عليه بأمانة في ظل غياب المصطلحات البديلة؟ إذ يبيّن الواقع، في حالات كثيرة، أنّه يضطرّ للقيام بدور اللسانيّ وواضع المصطلح، على سبيل الاجتهاد، كتوليد ونحت واشتقاق المصطلحات لاستيفاء صلاحيّاته باعتباره أوّل من يستقبل المصطلح الوافد، ورغم ذلك يبقى الإشكال مطروحا. فالأمر لا يرجع للاختلافات الحاصلة بين المجامع اللّغوية الشّرقية والغربيّة في التّواضع على المصطلح فحسب، وإنّما يتعدّاها إلى خصوصيّة بعض النّصوص كالنصّ الفكريّ الّذي ليس من السّهل استيعاب مفاهيمه. تفيد عبارة «هجرة المصطلح الفكريّ إلى العربيّة بين التّأصيل والاغتراب» في مضمونها إشكاليّتين اثنتين؛ تُعْنَى الأولى بإيراد بدائل للمصطلحات الجديدة في اللّغة العربيّة، ولو لم تحقّق التّأثير الّذي يحدثه المصطلح الأجنبي، سواء لندرة التّداول أو لعدم التّواضع عليه، وتفيد الثّانية اللّجوء إلى نظريّات الشّكل في التّرجمة، كاعتماد التّرجمة الحرفيّة والمحاكاة والاقتراض، فيخيّل للقارئ أنّه غريب في لغته، ولو تحقّق قدر أسمى من الأمانة ونقل الأثر. نجد من أوجه ذلك طبيعة النصّ الفكريّ الفلسفيّ، ذاته الّذي يتمتّع بميزة خاصّة وهي التّناص، وإلّا فقد بريقه وأصبح مجرّد توليفة لغويّة لا تحدث أثرها المنشود؛ فنلاحظ مثلا أنّ مصطلح «ميتافيزيقا» «métaphysique» تقابله في العربيّة الفصيحة ترجمات متعدّدة كالقول: «ما وراء الطّبيعة»، «ما بعد الطّبيعة»، «تجريدي»، «ما ورائيّ»، «غيبي» أو «مطلق»؛ وهو ما يوضّح إشكاليّة توحيد المصطلح، تلك الّتي تتّجلّى أكثر لو بحثنا عن مقابل كلّ كلمة ممّا ذكرنا في اللّغة الأصل. يبيّن هذا المفهوم الّذي عرّفه الفيلسوف إيمانويل كانط Kant Emmanuel بجملة الموضوعات الخارجة عن نطاقي التّجربة والزّمكان، تباين التّرجمات للمفهوم الواحد، ما بالك لو تمّت ترجمة كتاب قديم بعض الشّيء قبل تطوّر ذلك الأخير؟ لاسيّما أنّ مدلول لفظ «ميتافيزيقا» اختلف عبر العصور؛ فنجد «معجم جميل صليبا الفلسفيّ» يشير لاختلاف مدلول اللّفظ تدريجيّا؛ أي أنّ موضوع هذا العلم عند أرسطو والمدرسيّين اشتمل على البحث في الأمور الإلهيّة والمبادئ الكليّة والعلل الأولى، أمّا موضوعه عند المحدثين، أمثال كانط، فقد اقتصر على البحث في مشكلتي الوجود والمعرفة. الأمر نفسه يبرز بالنّسبة لمصطلح «إبستيمولوجيا» «épistémologie» الّذي تعرّض بخصوصه الفيلسوف أندريه لالاند، في موسوعته الفلسفيّة، إلى مسألة الخلط بين مفهومين اثنين هما «علم المعرفة» (تبعا لتركيبة المصطلح) و»نظريّة المعرفة»، منوها إلى أنّ هذه الأخيرة تفيد «دراسة العلاقة القائمة بين الذّات والموضوع»، وبأنّ هذا المصطلح لم يكن موجودا في فرنسا وألمانيا مثلا إلى غاية منتصف القرن التّاسع عشر أين تعلّق أصل استعماله بالفيلسوف راينهولد Reinhold . ولا يخفى عنّا هنا اختلاف تعاريف الإبستيمولوجيا بين الفلاسفة من أمثال ديكارت وهيوم وكانط وبوبر، بعد أن ظهر أوّل ما ظهر لدى فيرييه Ferrier في كتابه «Institutes of Metaphysics»، ممّا يفتح المجال لاختلاف التّرجمات، فيفقد المصطلح صفة الدقّة وبالتّالي العلميّة، أو لربّما تمّت أدلجته عوض التحلّي بالموضوعيّة. يحدث هذا في حين قد يفي الاقتراض بالغرض ومن دون تشتيت للذّهن؛ حيث يكتفي القارئ باستنباط مفهوم المصطلح الأصلي من نسق الخطاب، لاسيّما وأنّ العربيّة تتميّز برحابة كبيرة في استقبال المصطلحات وتوطينها، ومنه، وعلى خلاف ما تعهده التّرجمة حيال النّصوص الأدبيّة مثلا، يحدث أن تثبت نظريّة الشّكل في النّصوص الفكريّة أحقيّتها بالدّور تفاديا لمجانبة المعنى، وهذا عبر تقنيّات كالنّقل الحرفي والاقتراض والمحاكاة الّتي تصبح ضرورة حتميّة في فلسفة العلوم، كالقول «كيمياء الفلوجستون»، أين يغيب المصطلح الّذي يحمل صبغة عربيّة أصيلة لغياب البديل. زيادة على هذه القضيّة الّتي تربط اللّغة بالفكر وعلاقتها بتمثّل العالم، لا يجدر أن يغيب عنّا عامل نسبيّة اللّغات (نظريّة سابير / وورف)، هذا الّذي يقف على الاختلاف الحاصل بين البنيات الفكريّة والأنظمة اللّغوية؛ فهل يمسي الاقتباس الحرفي، بشيء من الشّرح، الحلّ الأمثل الّذي يحفظ استقرار المفهوم حسب زمن ومكان صدور الخطاب، مع عدم إغفال ظروف إنتاجه؟ يعمد المترجم إلى النّقل بإخضاع الصّيغة الأجنبيّة لقواعد اللّغة الهدف (العربيّة) كي تماثل وظيفتها في اللّغة المتن، وقد يحتاج، في الآن ذاته، لتوضيح تركيبة مصطلحات اللّغة المنقول منها، ما يساهم في خلق نسق متكامل ومتناغم ذي صبغة فلسفيّة متّحدة مع طبيعة اللّغة العربيّة الّتي ترحّب بالغريب وتستوعبه لتحتويه وتوطّنه، ومثال ذلك لفظ «Almagest» الّذي قوبل بالمجسطي؛ وهو وصف يونانيّ الأصل غير مألوف لغير المشتغلين بالفلسفة أو العارفين بكتاب الفيلسوف كلاوديوس بطليموس الّذي يفيد «التّصنيف العلميّ العظيم». ولعلّ المفكّر «محمد سيّد عيد» أوضح جانبا من الإشكال، لدى حديثه عن جدليّة العلاقة بين رغبة الوفاء وشكوك الخيانة في التّرجمة وسبيل هجرة المصطلح الفكريّ، مستشهدا بمثال ترجمة كتاب «فينومينولوجيا الرّوح» للفيلسوف هيغل الّتي قام بها الدّكتور ناجي العونلي، أين رمى إلى المحافظة على طبيعة اللّغة العربيّة وإظهار إمكانيّاتها ومصطلحاتها من دون أن يكون لتلك المصطلحات مردود لدى هيغل نفسه، فنجد المترجم يبرز طبيعة هذه اللّغة أكثر ممّا يبرز المعاني الأصليّة الّتي تعنيها اللّغة الألمانيّة الخاصّة بالكتاب الأصليّ، وذلك رغم الرّجوع إليه طبعا. يتّسم ما ذهب إليه أمثال «سيّد عيد» بعدم تشجيع الخروج عن طابع النّص الفلسفيّ الّذي لطالما تميّز بإرث مصطلحيّ يجعل منه نسقا فريدا يسهّل عمليّة تفرّده عن غيره، وإلّا قد تفضي التّرجمة إلى انسلاخ عمّا اعتاد عليه القارئ فينفر ببساطة!إنّما، رغم ذلك، لا يخلو الأمر من بعض الإبهام المقترن بالمصطلحات المشفّرة أحيانا؛ ممّا يخلق بحقّ سجّالا فكريّا بين هذا الحلّ أو الانتهاء إلى نصوص محكّمة من ناحية التّراكيب لكن فقيرة دلاليّا. كنافلة للقول، لعلّ أنسب ما يمكن إضافته هو ما ذهب إليه اللّساني أنطوان برمان Antoine Berman في قوله إنّ المعنى والحرف متّصلان ومنفصلان في الوقت عينه، ولا يهمّ إن كان الانفصال مشروعا من النّاحيتين الفلسفيّة والثيولوجيّة؛ لأنّ ما تظهره التّرجمة شيء غير قابل للاختزال. هي جملة رهانات وتحدّيات منوطة باللّغة العربيّة الفصيحة قدﹸما، كي لا يرغب عنها القارئ أو يحدث عزوفا؛ فالأمر لا يقف على المجالات التّقنية والتّكنولوجية فقط، بل يتعدّاها إلى كلّ شقّ معرفيّ يعاني قصور الإنتاج في المجتمعات العربيّة ويحفل بالتطوّر في غيرها، أين توفّر أريضة خصبة لإنتاج المفاهيم تماشيا وعجلة التقدّم؛ إذ أنّ العلاقة بين الدّال والمدلول الّتي أتى بها اللّساني فرديناند دي سوسير Ferdinand De Saussure ليس من الهيّن نقلها من نظام لغويّ إلى نظام لغويّ آخر في النصّ الفكريّ الفلسفيّ، كما يتعيّن هنا التّشديد على أنّ ضعف الإنتاج الفكريّ لا يمسّ أرومة اللّغة ولا يعيبها في شيء، بل يحثّها على التّثاقف الّذي يقيها الضّمور في مجالات بعينها؛ ويبدو أنّ تلافي مكامن القصور وتقليص الشّروخ أحسن من إطالة أمد الأزمة، وسبيلﹲ لاتّقاء المزيد من العزوف. رحابة اللّغة سجلّ للتّعايش لا يخفى على العارفين باللّغات مدى رحابة تلك العربيّة الّتي استقطبت الكثير وأعطت الكثير؛ فاللّغة الّتي تعتبر سجلّا لتاريخ من التّعايش الثّقافي لا يأفل وهجها طالما تميّزت باستساغتها للمصطلحات الوافدة وطواعيّة تراكيبها؛ فقد عرفت اللّغة العربيّة الفصيحة، الّتي تعدّ أكثر اللّغات السّامية انتشارا،أوجّها وقت أدرك العالم العربيّ الإسلاميّ ذروة ازدهاره العلميّ والمعرفيّ، وأمسى تبعا لذلك مقصدا للقوافل من فرس وروم وغيرهم، إلى أن شهد نهضة فكريّة وثقافيّة قلّ مثيلها آنذاك، فحدث أن انتعش المعجم العربيّ أكثر فأكثر مثلما ساهم في إثراء لغات الغير. وإزاء الرّكود العلميّ الحاصل حاليّا في العالم النّاطق بهذه اللّغة، يتكرّر التّساؤل حول قضايا عدّة أضحت تشكّل رهانا أمام لغة الضّاد؛ كأن تطفو إلى السّطح مسألة ترجمة النّصوص الفكريّة وتداول مصطلحاتها بين التّأصيل والشّعور بالاغتراب من توافد مصطلحات جديدة.