الحروب الجديدة تُديرها الشاشات وتُطلق صواريخها منصّات التواصل الاجتماعي من خلال التجارب التي وقفنا عليها في السنوات الأخيرة، اكتشفنا وجها جديدا للإعلام الذي غيّر الكثير من شكله الخارجي بعد أن استفاد من الطفرة التكنولوجية الحديثة وما وفرته من وسائل اتصال خارقة، فتحت السموات أمام المعلومة الصحيحة التي يراد بها الخير، والمغلوطة التي تقذف هنا وهناك كالصواريخ الحارقة والقنابل الذكية. عن واقع الاعلام في أيامنا هذه، حاورت «الشعب» الدكتور حجام الجمعي، أكاديمي وباحث في علوم الإعلام والاتصال بجامعة العربي بن مهيدي بأم البواقي، الذي ثمّن مزايا «الميديا» الجديدة، لكنّه بالمقابل حذّر من وجهها القبيح، خاصة بعد أن أصبحت الهوية الصحافية مستباحة عند الجميع ما أدى – كما قال – الى تلوّث الفضاء الاعلامي بالمعلومة المزيّفة التي توظّف لخدمة أجندة معيّنة أومصلحة خاصة، كما أشار الى أن الحروب الجديدة، هي حروب رقمية ناعمة، تدار عبر الشاشات ومن قاعات التحرير التي باتت كغرف عمليات عسكرية تطلق صواريخها عبر منصّات التواصل الاجتماعي. « الشعب» لن نجانب الحقيقة بقولنا إن الإعلام أصبح بالنسبة للبعض بمثابة الترسانة العسكرية لضرب هذه الدولة أوزعزعة استقرار الأخرى، وقد وقفنا على حملات إعلامية شرسة زجّت بشعوب في حروب مدمرة، كما حصل في سوريا، ما تعليقكم؟ د. حجام الجمعي: نعم هذه الحقيقة أصبحت جلية للعيان في عالمنا اليوم، فالقوة أصبحت تقاس إضافة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية، بالقوة الاعلامية أوكما يسميها الأكاديمي الأمريكي «جوزيف ناي» بالقوة الناعمة، أي بما تمتلكه الدول من ترسانة إعلامية ومنظومة اتصالية قوية، فهي الدرع الواقي والداعم للحصانة والمناعة الداخلية، وهي أقوى سلاح لدعم التغلغل والنفوذ ولحراسة المصالح وافتكاك الامتيازات في الخارج. نعم الإعلام اليوم مصدر كل سلطة ويستعمل لإخضاع الدول والشعوب لنظام الهيمنة الذي تفرضه القوى الكبرى، ولتدمير أي مناعة أومقاومة داخلية، كما حدث في الكثير من الدول التي تبذل جهودا للتحرّر التام من التبعية في صياغة وصناعة القرار السياسي والاقتصادي والثقافي، فهذه الدول التي تنزع نحو استكمال قراراتها السيادية تنعتها دول المركز القوية بالدول المارقة أودول محور الشرّ فتشوهها إعلاميا وتفكّكها عبر حملات اتصالية مركّزة تستهدف هدم نواتها الصلبة المتمثلة في الكتلة الشعبية وتكريس تشظّيها تمهيدا لتحطيمها اقتصاديا وعسكريا. - الحروب الإعلامية حلّت محل الحروب العسكرية، وهي ليست أقل فتكا منها، كيف تحوّل الإعلام إلى هذا الدور وما السبب في ذلك ؟ الحروب الجديدة هي حروب رقمية ناعمة تدار من خلف الشاشات وتطلق صواريخها الفتاكة عبر منصات التواصل الاجتماعي، فقد تطورت الحروب وعرفت تحولات جذرية في العدة والعتاد وفي أساليبها الدعائية القاهرة وإكراهاتها الاتصالية ذات الغزواللين، وأصبحت اليوم أكثر فتكا من أي وقت مضى، فأصبحت حروبا ناعمة تعصف بالذهن الفردي والجماعي وتخلق فيه القابلية للنسف والتدمير وتخترق الذكاء الفردي والجماعي عبر آليات الغزواللين والإكراه الذكي، فشبكات «الميديا « الاجتماعية اليوم تعرّي حياتنا وتكشف عن مشاعرنا وتشيع عواطفنا تحت غطاء دمقرطة الاتصال، بينما الحقيقة أنها توفر للآخر المترصد لنا والمتآمر على أمننا وجغرافيتنا العقلية والفيزيائية معلومات جاهزة وترسم له خرائط تفكيرنا وتضع مخططاتها أمامه، لتختصر له الوقت والجهد والانفاق الضخم الذي كان تكلفه الحروب التقليدية. - هل من أمثلة عن دول دمّرها الإعلام لا السلاح؟
التاريخ القديم والحديث حافل بالشواهد والنماذج فالمستدمر الفرنسي احتل الجزائر بدعاية مسبقة بانتشال الجزائر من التخلف والحياة البدائية، والاحتلال الأمريكي المدمّر للعراق بحضاراته العريقة المترامية في الذاكرة الإنسانية، سبق غزوه بحرب إعلامية تبشر بإحلال الديمقراطية وحقوق الانسان محل الاستبداد والاستعباد، ولجأت القوى الكبرى لسلاح الإعلام واستغلال قدرتها التدميرية الهائلة لتفادي التدخل العسكري المباشر وإشعال فتيل حروب بالوكالة، كما يحدث في سوريا وليبيا حيث يتقاتل فيها أبناء الوطن الواحد فينقسمون إلى ميلشيات متناحرة، تديرها مخابر الشرّ التي تتحكم فيها القوى العالمية الكبرى، وفي النهاية تفكيك للأوطان وتشريد للإنسان وهدم للحضارة والعمران.
- كثيرا ما نلمس تراجعا عن المهنية الإعلامية،حيث استبدل الحياد والموضوعية في علاج القضايا بتحريف وتزييف الحقائق، فما الذي يجبر الصحفي على الانسياق وراء هذا الانحراف الإعلامي، هل المادة أم أشياء أخرى؟ الصحافة، اليوم، تعيش أسوء لحظاتها في أسوء مراحلها عبر التاريخ، ونعيش ما يشبه حالة الموت الدماغي للصحفي، الذي تحول إلى مجرد آلة لتكريس أنظمة الهيمنة السائدة سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، ونتجه بسرعة نحوالتجرّد من القيم المهنية التقليدية المتجلية في الصدق، الدقة، الحياد، الموضوعية والنزاهة... إلخ، فهذه القيم تحوّلت إلى إرث أخلاقي يغمرنا الحنين لاسترجاعها ولممارسة الصحافة في كنفها. الصحافة والإعلام اليوم تجنّح نحو المزيد من التسطيح والمادية والسذاجة والعبثية بفعل سيطرة المصالح الانتهازية والأنانيات الفردية لمالكي هذه الوسائل الإعلامية التي توجّهها بدورها قوى سياسية واقتصادية داخلية وأحيانا خارجية رغم محاولات تجريمها قانونيا، بل والغريب اليوم وخاصة في ظل الانتشار الواسع والاستخدام الكاسح لشبكات الميديا الجديدة وفي ظل التدفق الاتصالي الحر للمعلومات، وتقمص المواطن للهوية الصحفية مع جهل في التحكم في أبجديات الممارسة الإعلامية، نشهد الميلاد القسري للإعلام الكاذب والمعلومات الزائفة التي تلوث الفضاء العمومي وتعمق من أزمة الصحافة والصحفيين والغريب أن تقابل هذا بالصمت من طرف الأنظمة السياسية وكل الفاعلين لتلافي المخاطر المدمرة لهذا الانحدار المهني السحيق. لذا في تصوري المجتمع الأكاديمي، اليوم، مطالب بإعادة النظر والصياغة والبناء للقيم المهنية في الحقل الصحفي والإعلامي وتكييفها مع الواقع الراهن المتجرد من الحتميات القيمية والأخلاقيات التواصلية والمنصرف نحوقيم أكثر براغماتية وربحية. - أكيد أن الإعلام أصبح صناعة تدرّ أموالا كثيرة، هل من تعليق؟ بالتأكيد تحّول الإعلام إلى صناعة بالمفهوم الاقتصادي لأنها تدرّ أرباحا طائلة بالنظر لحجم استقطاب الاستثمارات الثقافية وغير الثقافية في هذا الحقل،وبالنظر لأشكال وأساليب التحوّل في أنماط الإنتاج الإعلامي، لكن والأخطر من هذا تحول الإعلام إلى صناعة الحقيقة، فكل دولة توظف وسائل الإعلام لإنتاج الحقيقة التي تخدم مصالحها وتدعم نفوذها وسيطرتها، وكل مالك لوسيلة إعلامية ينتج الحقيقة التي تخدمه وتضاعف أرباحه وتراكم ثرواته وتدعم نفوذه لدى مراكز صناعة القرار، فانتقلنا في الممارسة الإعلامية التقليدية من مبدأ الحقيقة مقدسة إلى مبدأ لك حقيقتك ولي حقيقتي.
- كيف يمكن مواجهة وإفشال الحملات الإعلامية التي تشنّها دولة أودول ما ضد أخرى؟ المواجهة تكون ببناء المجتمع المفتوح وتحرير الإعلام الوطني وإطلاق العنان لكل القدرات الاتصالية الوطنية القديمة والحديثة، وبتوفير البيئة الحرة والتنافسية لصناعة الأفكار وتبادلها والمناقشة الحرة للقيم والمبادئ التي ترسّخ قيم التماسك والأنسنة داخليا، وهي القادرة على إنتاج الأنساق الفكرية والمعرفية التي ستنتج المناعة والتحصين الخارجي من كل أشكال الاختراق الثقافي والإعلامي، والاستثمار الأمثل في بناء جيل منفتح بدون وصايات أبوية سلطوية فكرية وثقافية جيل مدّجج بترسانة وأساليب الحرب الناعمة وتربيته على حسن استخدامها في البناء الداخلي وتوجيهها لكل تهديد أوعدوان خارجي. - شهدنا كيف شنّ الاعلام الفرنسي حملة مسعورة على الجزائر في محاولة يائسة لإفشال عرسها الانتخابي، لماذا كانت هذه الحملة، وكيف تغلبت بلادنا عليها؟ أبدأ من حيث انتهيت، فحين تقولين كيف تغلبت الجزائر عليها؟ فهذا السؤال لا يزال مستمرا في الزمان والمكان باعتبار أن هذا الإعلام الفرنسي ذوالنزعة البراغماتية مستمر وأهدافه غير البريئة مستمرة أيضا، ولنكون واقعيين لم نتغلب عليها بعد وربما نجحنا في تجاوز مخاطرها وشرها المدسوس في عسل المادة الدسمة التي ظاهرها إعلام وباطنها دعاية مستندة لإرث كولونيالي، فالإعلام الفرنسي المعروف بأجنداته الخبيثة شن ويشن حملات عدائية واستعلائية ضد الجزائر والجزائريين عبر افتعال نقاشات موجهة للتشكيك في كل مخرجات وقرارات السلطة الحالية بإذكاء الحقد والكراهية بين الشعب وجيشه الوطني، والتهجم عليه باتهامات خطيرة تفطن لها الشعب وأيقن أن التلاحم بين الجيش وشعبه عقيدة أزلية مقدسة وثابت راسخ في المخيال الجزائري جسّده شعار «جيش شعب خاوة خاوة». لكن يجب التأكيد في هذا السياق، أن الردّ على حملات التشويه والتضليل التي يقودها الإعلام الفرنسي والتي تنفخ في الخلافات الداخلية للجزائريين وتذكي نار الفتنة على خلفيات سياستها الماكرة فرق تسد وبدواعي جهوية أوهوياتية، يكون ببناء نظام إعلامي قوي مرتكزه الحرية ودعائمه القواعد المهنية الاحترافية والرصيد الأخلاقي ونزعته البناء الموضوعي للحقيقة الجامعة وبممارسة تشاركية ديمقراطية دون إقصاء ولا تزييف للحقيقة، فاليوم نعيش في ظل السماوات المفتوحة والبيئة الاتصالية المكشوفة الكينونة فيها مضمونة للأقوى والأكثر إقناعا وتأثيرا، وفي تصوري إعلامنا الوطني العام والخاص يعاني من الكثير من المشاكل ومن أزمة بنيوية وهيكلية، تقتضي الضرورة المهنية والمصلحة الوطنية إعادة بناء سياساته التحريرية لتصبح أكثر واقعية وأكثر إقناعا حتى نسترجع الجمهور الجزائري الذي تتلقفه وسائل الإعلام الأجنبية. - كلمة أخيرة يجب أن ندرك أن حرية الصحافة والإعلام ليست غاية في حد ذاتها، ولكن وسيلة لبلوغ غاية أسمى، وهي المجتمع الحر المفتوح القادر على الحماية والتحصين الذاتي لجزائر قوّية وآمنة.