يُثار باستمرار موضوع العلاقة بين السلطة والمثقف، وبين المثقف وممارسة السياسة ككل. وبقدر ما كان هذا الموضوع قديما، إذ تناوله الفلاسفة والمفكرون بطرق مختلفة، فإنه سيبقى في تصوري يثير الجدل باستمرار لا في الوقت الراهن ولكن في المستقبل كلما وقع احتكاك أوتصادم بين أهل الحكم وأهل الفكر والثقافة . وإن ما أعتقده شخصيا أن ابتعاد المثقف عن ممارسة حقه للمشاركة في الحكم وفي إبداء الرأي وفي السياسة عموما يُعد هروبا بل وجبنا من المثقف للمساهمة في بناء بلاده والتسيير عموما، ذلك أن دور المثقف في اعتقادي ليس الاكتفاء بوضع الدساتير والقوانين وفي إعداد البحوث العلمية وغير العلمية والتنظير الذي قد يكون أحيانا بعيدا عن الواقع المعيش، بل إن دور المثقف إضافة إلى كل هذا استشرافه للمستقبل والمساهمة في الحكم وفي تسيير الشأن العام . فالمثقف الذي يكتفي بالتعبير عن آرائه في الأوراق وفي الوسائل المعاصرة من كمبيوتر وفي وسائل التواصل الاجتماعي وبين طيات الكتب وأمام طلبته في الجامعة دون تحويل أفكاره إلى تطبيق يبقى مسكونا بالخيال حتى لوكان هذا الخيال خيالا علميا وهويقدم تلك الأفكار التي يمكن أن تكون جميلة ولكنها لا تجد من يعمل على تجسيدها في الميدان، لأن التطبيق هوالمحك الفعلي عن نجاح المثقف في تمرير أفكاره وطروحاته ورؤاه . وقد تناولت هذا الموضوع بالذات في أكثر من كتاب، ومن بينها كتابي «التعفن السياسي ولعنة الكرسي» الصادر في 2013، وكتابي «لصوص» التاريخ الصادر في 2007، وكتابي « فن العبث بالتاريخ : الصادر في 2016، وكتابي كي لا تكون قنبلة موقوتة الصادر في 2018 وغير ذلك من الكتب، وفي عديد المقالات والمحاضرات والنقاشات الفكرية بما فيها تلك الحوارات الإذاعية والتلفزيونية . قال أحد تلاميذ العالم الشهير غاليليولأستاذه بعد خروجه من السجن إثر المحاكمة الشهيرة التي أجريت له بشأن نظرية دوران الأرض حول الشمس : يا أستاذي إن البلد الذي ليس لأبنائه وعلمائه خصوصا شجاعة المجاهرة بقول الحقيقة هوبلد بائس أشد البؤس . وإذا بالعالم غاليليو) فلكي وفيلسوف ووفيزيائي اتهم بالهرطقة 1564 1642 (يرد على تلميذه بالقول : لكن البلد الذي يحتاج فيه الإنسان إلى إبداء الشجاعة لقول كلمة الحق هوأيضا بلد بائس وخاسر أشد الخسارة . لقد أبديت تفاؤلي منذ بدء الحراك وخصوصا بعد الانتخابات الرئاسية التي وعد فيها الرئيس تبون الشعب برؤية جديدة لجزائر جديدة تعتمد على الخبرة والكفاءة وتستند إلى العقل والحكم الراشد. وفي اعتقادي أن الكفاءة والحكم الراشد لا يوجد إلا في ظل متلازمة العدل والحرية. حرية الفكر وحرية الرأي التي لا تمس بحرية الآخرين ولا بمقومات الأمة وتسعى لأن تجعل من الأفكار وسيلة للبناء والقوة لا وسيلة للهدم والقدح وتشويه الحقائق . وقد استعدت منذ أيام قراءة بعض الأفكار التي تطرق لها المثقف المميز الأستاذ الجامعي الصديق الراحل محمد سعيدي الذي توفي في 2014 رحمه الله في كتابه: من الحرية إلى الاستقلال . وتنطلق الفكرة الرئيسية التي دافع عنها هذا المناضل الذي تقلد عدة مناصب سامية أننا استعدنا استقلالنا حقا ولكننا في حاجة ماسة إلى الحرية التي نفتقدها حسب رأيه، لأن الحرية هي العنصر الأساسي في تفتق الفكر وبروز الإبداع وتحقيق التنمية والمنافسة التي لا تترك مجالا للرداءة لكي تتغول كما حدث عندنا للأسف، إذ أصبح العديد من الرديئين المدعومين بالمال الفاسد وبالأكتاف الغليظة يتصدرون مختلف المظاهر العامة بما في ذلك في السياسة والثقافة، حيث أصبح بعض من لا يفرق بين مصطلحي الإعلام والإعلان ولا بين ميزانية التسيير والتجهيز يُنظر ويتولى أبرز المراكز والمسؤوليات ويقصي أكفأ الرجال والنساء، وهوأمر نتمنى أن يزول مع جزائر ما بعد الحراك والكورونا . والحقيقة أن جائحة كورونا قد جاءت لتغير كثيرا من المسلمات، فبالرغم من الحجر الصحي الذي جعلنا نقبع في بيوتنا، فإن العبقرية الجزائرية بينت أن الإبداع والاختراع وتفتق الفكر لا يظهر ولا ينموإلا في ظل الحرية والتشجيع من قبل المسؤولين في مختلف المواقع . والأكيد أن ما توصلت إليه الكثير من الكفاءات الجزائرية من اختراعات لمواجهة جائحة الكورونا وفي الإنتاج عموما تبين هذه الحقيقة التي كانت مغيبة . إن تقوقع المثقفين والعلماء على أنفسهم وانزواء الكفاءات والحجر على الأفكار الجامعية وجعل الجامعة مجرد وسيلة لتفريخ الشهادات وتخريج الدفعات تلوالدفعات هي من العناصر التي عرقلت تطور الوطن وأعاقت حركته الإبداعية والتنموية وجعلت الرداءة والانتهازية والمحسوبية والرشوة تطفوعلى جميع المجالات .. أتذكر أنني كنت أشارك في ندوة حوارية في إحدى القنوات التلفزيونية حول دور المثقف في الحياة السياسية، وكان من بين المشاركين الروائي رشيد بوجدرة. وقد فوجئت أن هذا المثقف الذي بقدر ما أختلف مع بعض أفكاره وآرائه فإنني أحترمه وأقدر مساهماته الإبداعية خاصة في الرواية راح يقول لي بأنه لا يشاطرني الرأي بخصوص مساهمة المثقف في الحياة السياسية، لأن يكره السياسة . وقد رحت أقول : يا سي رشيد إذا كنت أنت كمثقف رغم اختلاف ما بيننا من أفكار ورؤى تنأى بنفسك عن السياسة، فلمن نترك السياسة إذن ؟ هل نترك السياسة للدهماء والرديئين ولأصحاب المال الفاسد ليعبثوا بها كما يشاؤون . هل تريد للحياة السياسية وللأحزاب السياسية أن يركبها الفاشلون والرديئون والفاسدون ماليا ليصبح البرلمان في أغلبه من هؤلاء وليكون الجهاز التنفيذي بعد كل انتخابات تشريعية من هؤلاء . لقد حان الوقت ليتغير منظور المثقف للسياسة بأنها هي الفساد وأنها مجرد تلهية له عن دوره في البحوث والدراسات الجامعية وفي تأليف الكتاب والمشاركة في الحكم من دور المتفرج إلى دور الفاعل والمشارك والمؤطر . إن خلوجل الأحزاب من المثقفين والكفاءات العلمية والجامعية الذي كان بفعل فاعل من خلال إبعاد وتهميش الكفاءات والمثقفين وجعلهم مجرد محررين للتقارير والمحاضر هوالذي أدى في النهاية إلى تصحر الحياة السياسية وإلى جعل الأحزاب مجرد أبواق للسلطة وبيادق يحركها أرباب العمل الذين كان نفوذهم يتزايد من فترة لأخرى وخاصة خلال العشرين سنة الماضية . صحيح أن هذه الحقيقة بدأت تتجسد منذ استعادة الاستقلال، ولكنها أخذت منحى تصاعديا منذ سنوات، بعد أن أصبح المال الفاسد يهيمن على مختلف المظاهر السياسية، إذ أصبح الوصول إلى المناصب الانتخابية وحتى التعيينات يتم عن طريق المال ولوبيات النفوذ التي لا تعير للكفاءة والخبرة أي اهتمام بقدر ما تسعى إلى تكريس الولاء بكل ما يحمله من تزلف ورداءة وسوء تسيير . لقد بات على المثقف المتشبع بالقيم الوطنية العامل على تقوية عناصر الهوية الوطنية الجامعة والمسنود بالخبرة والكفاءة والحامل لرؤية مستقبلية أن لا يبقى متقوقعا على ذاته يعيش في برجه العاجي بعيدا عن المجتمع . كم يحتاج البلد إلى مثقفين غير انتهازيين وغير نفعيين يهمهم الشعب والوطن قبل الجري وراء منصب، مثقفين يمتلكون جرأة المثقف كلما لاحظوا انحرافا في منظومة الحكم، مثقفين متشبعين في نفس الوقت بثقافة الدولة في مختلف المواقع الانتخابية أوالتنفيذية، مثقفين أصحاب مواقف، لا مثقفين انتهازيين انتفاعيين باحثين عن مواقع . صحيح أن البعض يحاول أن يجعل من السياسة مطية للوصول إلى الحكم ويبعد منها كل جانب أخلاقي مستندا إلى المكيافلية التي تجعل «الغاية تبرر الوسيلة»، لكن السياسة بلا أخلاق قد تؤدي في النهاية إلى مآلات غير محمودة بأصحابها، إذ تصبح حينها لعنة الكرسي متلازمة للحكم وللسياسة . لست مع نظرة الزعيم الإنجليزي تشرشل التي تعتبر أن الأخلاق شيئ والسياسة شيء آخر . فقد روي أن تشرشل راح يسخر من عبارة كُتبت على قبر الزعيم الهندي الراحل غاندي، مضمونها : « هنا يرقد رجل نبيل وسياسي عظيم» !! فقد أطلق تشرشل بعد أن قرأ تلك العبارة قهقهة ساخرة بشأن التقاء النبل والأخلاق بالسياسة !! عندما تكون نظرة الحاكم للسياسة مجرد عملية انتهازية للوصول للكرسي ومغلفة بالأخلاق المزيفة والشعارات المغلوطة والخطب الشعبوية والكلمات الرنانة تكون السياسة حينها عملية تلهية للشعب. لكن حال الشعب مثل البراكين الخامدة التي لا نعرف متى تثور، وعندما تفعل ذلك فإنها تقذف بحممها بعيدا كل من كان قريبا منها، وكذلك الأمر مع الباحث عن الكرسي المغشوش الذي تصنعه السياسات المبنية على الزيف والأخلاق المزيفة فإنه يزل بصاحبه ويسقطه حتى لوجمع حوله آلاف الانتهازيين والمصفقين والمهرولين . بلدنا مقبل بعد الحراك الشعبي وجائحة كورونا على تغيير شامل في الأفكار والسلوكات، وهذا التغيير لا يجب أن يُترك أمره للاهثين والرديئين الذين أفسدوا على الناس مفهوم ثقافة الدولة وأساؤوا للسياسة .وربما يعاتبني بعضكم فيقول لي لماذا انسحبت من حزب دافعت عن أدبياته طيلة أربعين عاما، وأن هذا الحزب كان قد بوأك النيابة مرتين . لا أعتقد أن عاقلا يلومني أن أبقى في هذا الحزب في الفترة السابقة التي عرف الناس جميعا المنحدر الذي آلت إليه أدبيات هذا الحزب حيث وجدت أن قناعاتي لم تعد تنسجم مع كان سائدا . ولذلك فإن كل ما أتمناه الآن أن تؤول قيادة هذا الحزب وغيره من الأحزاب التي كانت تعتلف من السلطة إلى قيادات شبانية تخلق خطابا استشرافيا للمستقبل وتقدم برامج وأفكارا نوعية، وتؤمن بميلاد جزائر جديدة . كما أن قناعتي أنه لا وجود لحكم قوي دون أحزاب سياسية قوية تتنافس على الأفكار وتقدم رؤى وبرامج نوعية في ظل منافسة شريفة يكون صندوق الشعب هوالحكم فيها حتى يجد الرئيس نفسه في أريحية ليقدم للشعب حكومة أفكار وبرامج التي يصنعها خيرة الرجال والنساء من هذا الحزاب أوذاك أومن مجموعة أحزاب تتنافس على مصلحة الوطن والشعب وليس على التموقع المغشوش الذي يفرز رجال المال الفاسد والرداءات التي تنفر الشباب من الوطن ومن الحكم .