لن أدخل معكم في جدليةِ التعريف بالمثقف و هو المصطلح الذي بدأ في الشيوع منذ ما عرف ببيان المثقفين الذي أطلقه مجموعة من المفكرين في فرنسا عام 1898 دفاعا عن ضابط فرنسي من أصل يهودي اتهم بالتجسس لصالح ألمانيا، و سواء كان تصورنا لهذا المثقف بأنه الشخص الذي يحوز قدرا كبيرا من المعارف و العلوم و التجارب التي تجعل منه موسوعيا في مختلف المسائل الثقافية، أو هو الذي يكتفي فقط بنشر أفكاره و كتاباته في كتب و محاضرات ودراسات و بحوث لا تتعدى مدرجات الجامعة و مراكز البحوث، أم لكون أن المثقف هو إضافة إلى كل هذا الخزَّان الذي يحوز مختلف ألوان الثقافة من علوم و معارف و من تجارب متراكمة و منتج أفكار، و أنه من هذا المفهوم مدعو للإسهام في صنع القرار لصالح مجتمعه بما يمكن بلده من التقدم في سائر المجالات دون أن يكترث بالنقد الذي يطاله ولا بعوامل الإحباط و التثبيط التي تعترض سبيله من قبل أي جهة كانت. منذ أزيد من عامين كنت أشارك في ندوة تلفزيونية بمعية عددٍ من الجامعيين و المثقفين من بينهم الصديق الوزير عز الدين ميهوبي والروائي رشيد بوجدرة حول دور المثقف في السياسة، وفوجئت حينها و أنا أدعو إلى ضرورة إسهام المثقف في الحياة السياسية بهدف أخلقتها ودوره البنَّاء في تنمية المجتمع و بناء الدولة ككل فوجئت بالروائي رشيد بوجدرة، و هو يقول لي بأنه يكره السياسة حتى العظم وأنه ينأى بنفسه عنها.
و كان ردي على رشيد بسيطا، و هو أن السياسة إذا خلت من الأفكار و الجدل المدعم بالأفكار من قِبل النخبة المثقفة ستؤدي إلى تصحر الحياة السياسية، و هو مبدأ بتُّ أومن به اليوم أكثر من أي وقت مضى بعد أن أكده الواقع المعاش، فلكم أن تطلعوا على معظم رؤوس قوائم الأحزاب و حتى الأسماء المنضوية في تشريعيات الرابع ماي المقبل لتجدوا هذه الحقيقة المرة، و هي خُلُوُّها من المثقفين عكس ما كان يتم باحتشام في السابق.
فإذا خَلتِ الأحزاب السياسية من وجود المثقفين، فمَنْ ننتظر أن يُمارس السياسة و مَنْ تنتظر أن يُمارسَ النضال في الأحزاب؟ هل سندفع بذلك شعبنا للانتخاب على أناس من الدهماء و رجال المال الفاسد ليتكون منهم البرلمان الذي يُفْترض أن تنبثق منه الحكومة؟. أنا أرفض منطقا بهذا الشكل الذي يُعد جبنًا من المثقف و تقوقعا منه على نفسه، و هروبا إلى الأمام.
المثقف لا يجب أن ينتظر هذا الحزب أو ذاك ليعرض عليه المنصب في وقت يُنَظِّر فيه المثقف للديمقراطية، و الديمقراطية لا تُبنى على التعيين بل تتم بالانتخاب، و قبل ذلك بالممارسة النضالية و السياسية داخل الأحزاب. ثم إن المثقف إذا كان يخاف من أن يقول رأيه صريحا و يلهث وراء المناصب و المكاسب، فلا أعتقد أنه جدير بأن يوصف بالمثقف. المثقفون و العلماء على مر الزمن مارسوا مسؤولياتهم في المجتمع، و تعرض عدد منهم للاضطهاد والتنكيل و حتى القتل، و لاقى بعضهم المنافي، وبعضهم أُعدِم لأنه قال الحقيقة و دافع عن قناعاته و أفكاره.
بالأمس كانت تتصيدهم الكنيسة و بعض الحكام المتسلطين إن خالفوهم الرأي، و اليوم تتصيدهم العصابات الإجرامية و الجماعات الإرهابية و أصحاب المصالح المالية إن خالفوهم الرأي و رأوا أنهم ضد أفكارهم و مصالحهم. و في تاريخنا المعاصر منه والقديم نجد أن المثقفين قاموا بدور إيجابي لصالح الوطن والمجتمع، و لم ينفصلوا عن همومه، عودوا إلى تاريخنا و كفاح شعبنا ضد المحتل وتمعنوا فيما كتبه و دَوَّنهُ العديد من الكُتَّاب و الشعراء و الفنانين و المبدعين عموما، لتدركوا أن المثقف لعب دورا هاما في إيقاظ الوعي الوطني و مواجهة المحتل بكل أشكال التعبير، و لنا المثل الخالد في شعر مفدي زكرياء صاحب نشيد قسما و غيره، و في الشيخ محمد الشبوكي صاحب رائعة جزائرنا يا بلاد الجدود نهضنا نحطم عنك القيود ففيك برغم العدا سنسود و نعصف بالظلم و الظالمين
و لنا في الفنان الشهيد علي معاشي أكبر الأدلة على دور الفنان لاستنهاض شعبه للثورة و التغني بكفاح الشعب الجزائري، و في نفس الوقت خطورة أفكاره و أعماله على العدو. و لنا حتى في عدد من المثقفين الفرنسيين الذين ساندوا ثورتنا العبرة من أمثال جان بول سارتر و فرانز فانون الذي لم يكتف بكتاباته المنددة بالاستعمار بل أصبح مناضلا في جبهة التحرير الوطني و بيير شولي و فرانسيس جونسون وجاك فيرجاس و غيرهم.
و قبل ذلك ألم يكن الأمير عبد القادر أول قائد للمقاومة الشعبية، و هو الذي أعاد التأسيس للدولة الوطنية الجزائرية أثناء الاحتلال، و كان مثقفا و شجاعا و شاعرا لا يُشَقُّ له غبار.
أليس هو القائل بعد أن حقق في إحدى معاركه الانتصار على أربعة جيوش فرنسية و انضمام العديد من العشائر إليه لمؤازرته في المقاومة ضد المحتل:
لنا في كل مكرمة مجال و من فوق السِّماك لنا مجال ركبنا للمكارم كل هول و خُضنا أبْحُرًا و لها زِجال
ثم إننا عندما نعود إلى مختلف المقاومات الكبرى ال46 التي خاضها شعبنا في كفاحه ضد المحتل طيلة الاحتلال و خلال الفترة التي سبقت ثورة أول نوفمبر، نجد أنه إن لم يقدها مثقفون، فقد كان وراءها مثقفون كتبوا عنها أجمل الشعر و تغنوا بها و بقادتها و ساهموا في إذكاء الروح الوطنية ضد المحتل. و لعل ما تعرض له عدد من المثقفين عندنا في العشرية الدموية من اغتيالات من قبل الجماعات الإرهابية يبين مدى الخطورة التي يحملها الفكر و الثقافة على تلك الجماعات الضالة التي لا تؤمن بالحوار وبالرأي الآخر حتى و لو كان صائبا.
لقد كان المثقف دوما يشكل حجر الزاوية في تقدم المجتمع والدفاع عن قضاياه و حقوقه المشروعة بالفكر و القلم و باللسان و البيان، ولذلك فإن المثقف الذي لا يجرؤ على قول الحقيقة يبقى في اعتقادي مجرد شخص حامل لوعاء فكري غير مكتمل ولا يحمل المعاني السامية للمفكر والمثقف الذي يجب أن يعيش مع المجتمع وللمجتمع وليس على هامش المجتمع.
وأتذكر هنا مقولة شهيرة في هذا الصدد، فقد قال أحد تلاميذ غاليليو لأستاذه بعد محاكمته الشهيرة بشأن دوَرانِ الشمس حول الأرض بعد خروجه من السجن: يا أستاذي إن البلد الذي ليس لأبنائه وعلمائه خصوصا شجاعة المجاهرة بقول الحقيقة بلد بائس أشد البؤس، فرد عليه أستاذه غاليليو:
لكن البلد الذي يحتاج فيه الإنسان إلى إبداء الشجاعة لقول كلمة الحق هو أيضا بلد بائس و خاسر أشد الخسارة.
وشجاعة المثقف ليست فقط المعارضة من أجل المعارضة، و ليست الشطط في استعمال الخيال، و لكنها في اعتقادي تقديم الأفكار و البدائل و المقترحات المفيدة دون تزلف للمسؤول من أجل نيل منصب أو التقرب من المسؤول. ما من شك أن بعضكم يتذكر المقولة الشهيرة والشجاعة للعلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس في معاداته للاستعمار:
والله لو قالت لي فرنسا، قُلْ لا إله إلا الله لَمَا قلتُها.
وهي تنطبق مع ما رُوِيَ عن النبي عليه الصلاة و السلام لعمه أبي طالب: و الله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته، ولذلك فالمثقف في اعتقادي ليس إمعة، و ليس صخرة جامدة، المثقف حامل رسالة في دفاعه عن القضايا التي يؤمن بها، لأنه صاحب فكر و عِلم، و صاحب موقف يستطيع من خلاله التأثير في الآخر بما يمتلكه من حجة و بما عنده من معلومات وبما يحوزه من رؤية استشرافية مستقبلية، و فوق هذا و ذاك فشجاعة المثقف و إيمانُه بالقضية التي يدافع عنها تجعلُه يبدي رأيَه للمسؤول من دون مواربة أو تزلف، مثلما يصارح المواطن بالحقيقة بعيدا عن الشعبوية التي يلجأ إليها المسؤول لتمرير بعض القرارات غير المدروسة، والتي قد تؤدي إلى أزمات في المجتمع إن لم يشارك في صنع تلك القرارات أهل الاختصاص من خبراء و علماء ومثقفين، ولذلك فإن رأي المثقف هو عبارةٌ عن صمَّام أمانٍ للمسؤول يَقيه من الأخطاء و حدوث التوترات، و هو عبارة عن رؤية مستقبلية للبلد في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية ومختلف القضايا الاستشرافية. و في المقابل، فإن انغماس المثقف في الملذات و تزيينه الأشياء للمسؤول في نفس الوقت يعد خيانة لما اكتسبه المثقف من معارف و علوم و لرؤيته الصائبة للأشياء كما يتوقعها بعقله و معارفه و تجاربه و دراسته بما فيها دراسته للتاريخ، لأن المثقف الذي لا يحسن قراءة التاريخ و لا يقوم بعمليات إسقاط لمعارفه و نظرياته على التاريخ يمكن أن يقع في الخطإ، و يمكن أن يقوم بتغليط المسؤول الذي يعتمد عليه في أفكاره و قراراته، و بالتالي فإن كل ذلك يمكن أن يُوقِع البلد في أخطاء كارثية و توترات و أزمات اجتماعية.
فتخلي المثقف عن دوره الريادي في صنع القرار و ترك المسؤول يستفرد بالرأي و بالقرار الأحادي قد يؤدي إلى انزلا قات و هزات كبيرة داخل المجتمع.
كما أن المثقف عليه ألا يتأدلج بإيديولوجية المسؤول، و حتى إن كان متأدلجا فعليه انطلاقا من موقعه كمثقف أن يطرح أفكاره بعيدا عن التأدلج و الذوبان في المسؤول حتى لا يسقط في الانحياز و يجانب الصواب.
كثير من المثقفين اندمجوا في بعض الأحزاب في شتى بقاع العالم و تخلوا عن أفكارهم و قناعاتهم و رؤاهم ،و راحوا يُنظرون بفهم المسؤول و يُصبغون عليه من أفكارهم لتصب في فهم الزعيم ، حتى غُيِّبَ دور المثقف و تحول إلى إمعة لا يقوم إلا بدور المقرر أو هو يبث طروحات المسؤول دون الاقتناع بها.
ويقول المفكر التونسي هشام جعيط بهذا الصدد، إن السياسي قد تحول في هذه الحالة إلى صفة المسؤول و رجل السياسة، وأنه أصبح هو المفكر و العالم و المجتهد، و هو المثقف والأديب، و هو بالتالي الذي يمنع المثقف من القيام بدور الزعامة الفكرية في المجتمع و التأثير فيه و في الدولة ..
و الحالة الثانية هي القطيعة بين المثقف و بين المسؤول، وبالتالي غياب المثقف عن دوره في صنع القرار الذي يفيد المجتمع و يؤطر الحياة في مختلف المجالات و يرسم معالم المستقبل.
و بالنسبة لحالتنا في الجزائر، فبالرغم من أن الدولة وضعت كثيرا من الأطر والنصوص القانونية لمساهمة جميع أبنائها في بناء الدولة و تطوير المجتمع، خصوصا الفئة الكفؤة والجامعية والمثقفة، إلا أن الواقع يُبين للأسف أن تغييب المثقف ليس راجعا لمؤسسات الدولة فقط ،بل إن الأمر يرجع أساسا للمثقف نفسه. صحيح أن المثقف يأتي للسياسة متشبعا بثقافة أخلاق الدولة وبالقانون و بالاحتكام لأخلاق السياسة فيصطدم و هو يمارس النضال السياسي خصوصا داخل الأحزاب بواقع جديد بدأ يتشكل في الظهور منذ 2002، و هو يزداد توسعا وانتشارا منذ انتخابات 2012، و أعني به المال السياسي الفاسد الذي أصبح يتفنن في شراء الذمم و جلب من هب و دب لممارسة السياسة و التموقع دون كفاءة و دون التزام بأخلاق الدولة و دون دراية بالتسيير.
و بدلا من أن يواجه المثقف هذا الواقع لتقويم الأمور نجده في معظم الحالات يتقوقع على نفسه أو ينأى بها عن السياسة تاركا الدهماء تتغول و تفرض نفسها في شكل لوبيات باتت تهدد الممارسة السياسية والديمقراطية مستقبلا بما تفرضه من قرارات و رؤى تعاكس الواقع وربما تكون ضد المصلحة الوطنية.
وقد يقول لي بعضكم ولكن المال ضروري في الممارسة السياسية، وأقول لكم أن هذا الكلام قلته عام 1997 في عز الحملة الانتخابية لتشريعيات جوان من ذلك العام ،إذ أكدت حينها أنه لابد من الاستعانة بالمال لممارسة السياسة بأخلاق الدولة، و قد حذرت وقتها من أن يصبح المال مفسدة للسياسة، و أجدني اليوم أقول لكم بكل حسرة بأن ما حذرت منه منذ عشرين عاما بالضبط يقع اليوم بشكل يكاد يصبج فاضحا.
فالمعروف في عالم التجارة أن السلعة الجيدة تطرد بفعل المنافسة السلعة الرديئة، لكن الذي يحدث اليوم في عالم السوق السياسية أن السلعة السياسية الفاسدة تطرد السلعة الجيدة، و هو ما يشكل خطرا على الممارسة السياسية السليمة وعلى المجتمع مستقبلا و على السلم و الاستقرار، و على البلد ككل.
المثقف اليوم مدعو أن يكافح من أجل أخلقة العمل السياسي و تهذيبه بدلا من الاكتفاء بالتنديد و الشجب ، إن عليه ألا يترك الساحة السياسية فارغة للدهماء، بل أن يناضل بشراسة لتكريس أسمى القيم التي تحمي الدولة و تحافظ على تماسك المجتمع،ذلك أن ابتعاد المثقف عن السياسة، و لا أقول إبعاده عن ممارسة السياسة هو ابتعاد عن المجتمع و تخٍلّ عن ممارسة دورٍ هو أحق به من غيره.
طبيعة المثقف أنه ليس إقصائيا، و لكن هذه الدهماء التي يزداد تغولها بشتى الوسائل و خاصة بالمال و التي تحاول الاحتماء بالقانون تصبح إقصائية، و هي تسعى بشتى الوسائل للاستفراد بالحكم بشكل فاضح من أجل السلطة والمال والتحكم في رقاب المجتمع و توجيهه وفق مصالحها الضيقة، ولذلك فلن أقول لكم أيها المثقفون ثوروا لتغيير هذا الوضع، و لكن أقول لكم ناضلوا من أجل ضمان أخلاق السياسة، لأن ذلك يعد ضمانة لبقاء المجتمع سليما و لديمومة الدولة و من ثمة قوتها.
و على المثقف في اعتقادي ألا يقترب كثيرا من السياسة في بعدها الانتهازي الخالي من القيم و الأخلاق فيحترق و تحترق معه أوراقه، و عليه في نفس الوقت ألا يبتعد عن السياسة و يتركها للدهماء و يتقوقع على نفسه فتموت السياسة و تندثر الأخلاق فيها.
عليه دوما أن يبحث عن رابط و منبه يجعله يقترب، حيث يجب أن يقترب، ويبتعد عن السياسة، حيث يجب أن يبتعد، و هذا الرابط هو الأخلاق والقانون. *نص محاضرة القيتها يوم السبت 11 مارس 2017 بالمكتبة الوطنية خلال ندوة نظمتها جمعية الفكر والثقافة.