تبقى أسواق البترول تشد اهتمام الخبراء والكبار المستهلكين والمصدرين بالنظر لمعادلة الأسعار التي ما أن تستقر لأسابيع قليلة حتى تعرف تراجعا ينذر بالقلق ويثير انشغال المتعاملين بمن فيهم صناع القرار السياسي المحلي والعالمي. ومن الطبيعي أن تسلط السلطات الجزائرية باستمرار الضوء على تقلبات السوق البترولية لمدى ارتباط ديناميكية ونمو الاقتصاد بحجم الموارد البترولية. وقد تم ضمن إعداد ميزانية السنة القادمة اللجوء إلى تقليص نسبة هامة في خانة المصاريف مع التركيز على رصد تمويلات ملائمة للمشاريع ذات التصنيف الاقتصادي والتنموي بامتياز مع استعمال موارد من صندوق الضبط الذي انشئ تحسبا لمثل هذه الوضعيات. كما يكون قد تم طلب إجراء تعميق في صياغة وترتيب مشروع قانون المالية القادم بشكل يضمن استقرار المؤشرات ويحمي وتيرة الاستثمار والتنمية من أي عطل محتمل جراء مفاجآت غير سارة تخفيها أسواق النفط. وبالفعل سجلت أسعار النفط منذ يومين تراجعا إلى مستوى اقل من 115 دولار للبرميل وذلك بفعل ضغوطات مؤشرات ضعف الاقتصاد العالمي على توقعات الطلب. وكان لانخفاض الصادرات الإيرانية من النفط وتراجع الإنتاج في حقول بحر الشمال بسبب أعمال الصيانة واحتمالات توقف الإنتاج في خليج المكسيك بفعل سوء الأحوال الجوية تأثير مباشر على مؤشرات الأسواق البترولية مما أدى إلى انخفاض سعر برميل مزيج النفط الخام »برنت« ب45 سنتا ليكون السعر في حدود 114،56 دولار، فيما نزل الخام الأمريكي الخفيف ب42 سنتا ليصل السعر 95،85 دولار للبرميل. وترتبط مسألة الأسعار بتقلبات البورصات المختلفة التي تعرف بدورها تراجعا إلى جانب ضعف البيانات الاقتصادية القادمة من البلدان المستهلكة التي بقدر ما تكون الدورة الاقتصادية فيها نشيطة بقدر ما يرتفع الطلب ويخص الأمر بالأساس مناطق الولاياتالمتحدة، الصين وأوربا التي ترزح تحت تبعات الأزمة في اليونان والتي تعرض منطقة »اليورو« برمتها لتصدع عميق يهدد اقتصاديات عديدة تقف على عتبة انهيار وشيك جعل الحكومات هناك لا تتوقف لحظة في السعي لإيجاد حلول تخرجها من دوامة عدوى الإفلاس. وبالمقابل، وحسب مديرة وكالة الطاقة الدولية فانه لا توجد حالة إنذار مبكر تستدعي اللجوء إلى استعمال احتياطات النفط الإستراتيجية متوقعة عدم توقف الإمدادات في المدى القريب. وأشار بيان للوكالة التي تستقر بباريس إلى أن المؤشرات تفيد بان الأسواق تشتغل بشكل عادي علما أن أنباء تسربت تفيد بان كبار المستهلكين مثل الولاياتالمتحدة يستعدون للجوء إلى المخزونات البترولية الإستراتيجية بداية من سبتمبر الداخل وان الوكالة سحبت اعتراضها الأمر الذي نفته الوكالة. وفي ظل تضارب الأخبار الواردة من أسواق النفط وتعدد التوقعات، بينما يزيد اللااستقرار العالمي بفعل ما تشهده أكثر من منطقة من توجه لاشتعال حروب خاصة في المنطقة البترولية بامتياز، يتأكد مرة أخرى أمر التركيز على حركية الأسواق وامتلاك القدرات على وضع خطط استشرافية بما يوفر مساحة مريحة لاتخاذ القرارات في المديين القريب والمتوسط على الأقل ومن ثمة امتلاك أوراق توضع على الطاولة في مواجهة ما يستجد من مؤشرات لا مزعجة. ويخص مثل هذا الأمر الجزائر أيضا لارتباط وتيرة النمو بالموارد البترولية في الظرف الراهن خاصة أمام البرامج الاستثمارية المسطرة والتي لا يزال جزء منها في الطريق من جهة، وبالنظر لارتفاع الاحتياجات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية في المنظور القريب والمتوسط مما يستدعي وفرة للموارد وبالحجم الملائم. وبلا شك أي صدمة تصيب الأسواق البترولية سوف تؤثر مباشرة على ورقة الطريق التنموية. ولم يكن بالأمر الغريب التركيز في أكثر من موعد على ضرورة إرساء اقتصاد بديل للمحروقات حتى يمكنه تعويض الفارق الذي قد يضيع جراء تراجع المداخيل النفطية علما أن صندوق الضبط قد يتحمل لسنوات طويلة مهمة تغطية الفارق الناقص من الموارد المحسوبة سلفا من اجل ضمان توازن الميزانية. ولا يزال حلم ترسيخ هذا الاقتصاد البديل يراود الشركاء جميعهم لإدراكهم حساسية الظرف الاقتصادي والاجتماعي، ويحتاج الملف الذي حقق نقاطا ايجابية لكنها لا تزال اقل مما هو مطلوب بحيث كلما ارتفع قليلا سقف الصادرات خارج المحروقات بفضل جملة الإجراءات التحفيزية زاد للأسف سقف الاستيراد الذي سجل هذه السنة تراجعا معتبرا في بعض المواد لكنه ارتفع في أخرى مثل الأدوية، التي من جانب آخر بقدر ما تزداد فاتورتها بقدر ما يؤشر ذلك لاتساع رقعة المرض وهو أمر يستدعي التفكير مليا. ولعل التركيز هذه السنة على إعطاء دفع للاستثمار في السياحة والنهوض بالقطاع الذي يمكنه أن يحقق الإقلاع خاصة في ظل معطيات تصب في صالح السوق السياحية الجزائرية على مدار السنة، قد يفتح المجال أمام حركية اقتصادية خارج المحروقات التي تبقى بمثابة الرئة للاقتصاد الوطني بقطاعيه العمومي والخاص. لكن يبقى على هذا الأخير أن يعيد ترتيب خارطة الطريق المرسومة له بالدخول في الاستثمار ضمن القطاعات التي توفر فرص نجاح لا غبار عليها مثل السياحة والفلاحة الإستراتيجية والصيد البحري والطاقة الشمسية التي قد يكلف الكثير كلما تأخرت مشاريعها أمام ما تقوم به بلدان منافسة في هذا المجال علما أن الطاقة التقليدية معرضة لعدة احتمالات ليست في صالح الأسواق التي تعتمد عليها كلية، فإما أن تنهار أسعارها أو يتوقف المستهلكون في طلبها بتعويضها بالطاقة النووية.