تعدّدت الروايات بخصوص اندلاع انتفاضة سكان الجزائر العاصمة وبعض الولايات الأخرى يومي 10 و11 ديسمبر1960، فثمّة من يرى أنها بدأت «عفوية» يوم 10 ديسمبر 1960، ثم تكفّل بتنظيمها وإدارتها ضباط من المنطقة السادسة للولاية الرابعة التاريخية في اليوم الموالي، بينما ترى أطراف أخرى بأنها من تدبير قيادة الثورة في ذات المنطقة من الولاية الرابعة. بعد ست سنوات من حرب عدوانية فرنسية على الجزائريين المطالبين بإعتاقهم من احتلال استيطاني لقرن وربع القرن من الزمن، اندلعت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 في العاصمة، وتبعتها مظاهرات مماثلة في كل من عنابه ووهران ونؤكد بالمناسبة، أنه من واجبنا نزع الأوهام عن التاريخ، والتصدّي للتحريف القاتل للحقيقة، بمعنى، علينا أن نذكّر بأن إحدى أطول الحروب في التاريخ، تلك التي شنتها فرنسا على الجزائر من يوليو 1830 إلى يوليو 1962. وظلّ فيها الشعب الجزائري يقاوم بلا هوادة رفضا لسياسة الأمر الواقع، وضحى في سبيل قضيته بأكثر من عشرة ملايين نفس، طبقا لمقارنات تطبيقية، وإحصائيات رياضية، بمعنى علمية. يمكننا تجاوزا، أن نمرحل مدة الثورة التحريرية إلى محطتين: الأولى من فاتح نوفمبر 1954إلى بداية شهر يونيو 1958 وما تلاها إلى يوم استرجاع السيادة في يونيو1962. وحجتنا على ذلك مرحلة ما قبل مجئ ديغول إلى رئاسة الدولة الفرنسية، ثم مرحلة حكمه من 1958 إلى 1962. إن السنوات الأربع الأولى للثورة، أتسمت، بحرب شاملة قوامها الإبادة الجماعية للسكان، بالقتل العشوائي والممهنج للجزائريين، ثوارا ومواطنين عزلا. لقد أرتهن كبار الأثرياء من الكولون، وقادة الجيوش في حربهم على الجزائر، لهم من مصالح كبرى ومتشابكة، داخليا وخارجيا، وتأثير على سلطة القرار في الدولة، ارتهنوا مصير الصراع في الجزائر وعلى الجزائر، من خلال بعد واحد وهو مبدأ «الكل أمني». التعذيب الممهنج أمام صمود الشعب واستبسال الثوار، وديناميكية الدبلوماسية الجزائرية في الخارج، رفعت الدولة الفرنسية منسوب حربها عددا وعدة وميزانية، الأمر الذي أرهق كاهلها في الأرواح، والمعدات والمال، .. فلجأت إلى ممارسات خسيسة تتعارض مع جميع الاتفاقيات والأعراف الدولية، لا سيما ضد المدنيين، بما في ذلك ترسيم سياسة التعذيب الممهنج، والقتل العشوائي، والمحاشر الجماعية للسكان، وزرع الألغام، وتسييج الحدود الشرقية والغربية بالأسلاك الشائكة المكهربة، وإطلاق يد عصابات المستوطنين المسلحين على السكان وما إلى ذلك من الفظائع التي تناهت إلى الرأي العام الدولي. دبلوماسية الحرب لم يكن القتال من أجل التحرير في ثورتنا، إلا أداة سياسية، يتمّ التعبير عنها في أدبيات جبهة التحرير، وخطابها الموجّه للعدو وللرأي العام العالمي. وتمكنت الثورة عبر دبلوماسية نشطة وبراغماتية، أن تستغل المنابر والمحافل العالمية، الرسمية منها وغير الرسمية، للتعريف بقضية الشعب الجزائري المشروعة، وتفضح ممارسات القوة الغازية المستهترة بحقوق الإنسان كلية، بما في ذلك الحق في الحياة. بدءا بمؤتمر باندونغ في 18 أبريل 1955، حيث تمّ التعريف بالقضية الجزائرية على نطاق دولي، وبعد شهور قليلة قرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 ديسمبر 1956 تسجيل القضية الجزائرية على جدول أعمالها، وانتزعت الدبلوماسية الجزائرية، بفضل جهودها في الكواليس والعلن، 23 صوتا لصالحها، ضد 27 صوتا ممانعا. وظلت القضية حاضرة في جداول الأممالمتحدة المتعاقبة إلى سنة 1961، ناهيك عن باقي المؤتمرات في إفريقيا وآسيا، وجامعة الدول العربية. ومن أبرز نجاحات دبلوماسية الحرب لثورة التحرير، وما رشّح عمليا عن الدورة الخامسة عشر للأمم المتحدة في ديسمبر 1960، حيث اتفقت المجموعة الفرو أسيوية على ما يلي: 1 الاعتراف بحقّ الشعب الجزائري في تقرير المصير والاستقلال. 2 تطبيق حقّ تقرير المصير بطريقة عادلة، واحترام الوحدة الترابية للجزائر. 3 قيام الأممالمتحدة بالإشراف على تطبيق ما نصّ عليه هذا المشروع. 4 إجراء استفتاء في الجزائر، وقيام الأممالمتحدة بتنظيمه والإشراف، مما يسمح للشعب الجزائري بتقرير مصيره. وقد حظي المشروع ب63 صوتا، وغياب 27 صوتا عن الاقتراعة. ديغول والثورة الجزائرية ظلّ الفرنسيون يمتدحون ديغول إلى اليوم، ويعتبرونه آخر العمالقة في بلادهم، والحقيقة أن ديغول هزم أمام الألمان في الحرب العالمية الأولى كقائد صغير وأعتقل، وحاول الفرار من السجن، ولكنهم أعادوه مستسلما، وهزم أمام نفس الخصم وكان برتبة جنرال في الحرب العالمية الثانية، وفر هذه المرة إلى لندن وأسس ما يعرف بحركة فرنسا الحرة المقاومة. لكن عبقرية ديغول، تكمن حسب رأينا في دهائه كسياسي مراوغ، وكعسكري محنك، وكصياد ماهر للفرص. ولما تولى السلطة نهاية شهر مايو وبداية يونيو 1958، كان أمام معضلة داخلية وأخرى دولية في مواجهة ثورة التحرير الجزائرية. ومن نافلة القول، بأن ما قاساه شعبنا إبان حكم ديغول، لا يمكن وصفه على المستويين: اللعبة السياسية بكل ما تحمله من مناورات ودسائس وخيانة العهود، واللعبة العسكرية التي رمى فيها بكل قوته البشرية واللوجستية العسكرية، مدعوما من قبل الحلف الأطلسي، للقضاء ليس فقط على الثوار، وإنما لإبادة الجزائريين. مشروع ديغول العسكري يمكن اختزال إستراتجيته في ما يلي: خنق الثورة بغلق حدود البلاد شرقا وغربا بسياج الأسلاك الشائكة المكهربة وحقول الألغام، وعزل المجاهدين عن مجالهم الحيوي الممثل في شعبهم، حشر السكان في المحتشدات وإخضاعهم للعمل السيكولوجي بإشراف ضباط مخابرات المكتب الثاني والخامس لكسر إرادتهم عبر التعذيب، والابتزاز بكل الأنواع، لإضعاف نفسيتهم واستمالتهم إلى جانب العدو ليصبحوا عملاء مأجورين ضد شعبهم. كما حرّض ديغول قادة جيوشه على تدمير الثورة بجميع الوسائل والأسلحة، بما فيها المحرمة دوليا، فخطط لعمليات عسكرية مذهلة، تقوم فيها قوات من المشاة والمدرعة والمحمولة جوا، ومن الخيالة والميهارست، واللفيف الأجنبي، والطائرات المقاتلة. ومن أشهر العمليات: شال وجيمال وإيتندار وبيار بريسوز وغيرها، وقد كان لهذا الأسلوب الجهنمي تأثير مدمر على الثوار والشعب، الأمر الذي حمل قيادة الثورة على التكيف معه عبر تفكيك الكتائب إلى مجموعات صغرى. كما أطلق ديغول عنان قواته للممارسة التعذيب على أوسع نطاق ضد الجميع، ثوارا ومواطنين. وبعد تولي ديغول رئاسة فرنسا سنة 1958، زار الجزائر التي لم يدخلها منذ 1942 لما كانت عاصمة لفرنسا بعد سقوط باريس تحت أقدام القوات الألمانية وإطلاقه وعودا كاذبة، تتضمّن جملة من الإصلاحات لفائدة الجزائريين وألقى خطابا تاريخيا في قسنطينة، وقدّم مخططا مسموما لمغالطة الشعب الجزائري ببعض الامتيازات المهنية والاجتماعية، من ذلك منح العائلات سكنات من غرفة أو غرفتين، وهي سكنات العار في حقيقتها، ولكنه شدّد على قناعته، بان الجزائر ستظل فرنسية إلى الأبد. لكن الحكومة المؤقتة التي أنشئت يوم 19 ديسمبر1958، تصدّت لمشروعه المشبوه، بتكليف الوزير عبد الحميد مهري، بوضع مشروع مضاد لمشروع ديغول المشبوه، وتقويض مؤامرته. أما على المستوى السياسي فقد أطلق ديغول خططا جهنمية عبر مساره السلطوي ضد الثورة نلخص بعضها فيما يلي: تنادى بسلم الشجعان الذي انطلت حيله على بعض ضباط الولاية الرابعة التاريخية بقيادة الشهيد صالح زعموم ورفاقه، الذين التقوا ديغول في قصر الإليزي، ولكن لم يخونوا القضية، ولم يقدموا أي تنازل يرغب فيه ديغول، بل أحالوا مصير الثورة إلى القيادة المركزية للحكومة المؤقتة، بقيادة فرحات عباس. ثم أفتعل ديغول أكذوبة أخرى، اسمها الجزائر جزائرية، ومضمونها الجزائر فرنسية، حتى لا تكون الجزائر عربية وإسلامية، وهي مغالطة في المبنى والمعنى، ما تزال آثارها سارية في عقول البعض إلى اليوم. واصل ديغول تنازلاته المحسوبة بدقة، على ضوء صمود الشعب وثورته، إلى أن خضع بعد كل جرائمه ومؤامراته، إلى مبدأ تقرير المصير. فالرجل أدرك بحدسه وبيقينه، بان لا خيار أمامه، إما أن يخسر فرنسا، أو أن يذعن لشعب ثائر، تخير قدره بين أمرين: أن ينتصر أو أن يفنى عن آخره. فانصاع ديغول صاغرا لمصلحة أمه فرنسا، كما فعل من قبله الأديب الجزائري المولد والفرنسي الأصل والروح، البير كامو، الذي وقف إلى جانب أمه، على حساب موطنه، وظل عدوا للجزائريين. ومن المخجل اليوم، أن بعض المتفيقهين في الأدب، ببلادنا، لا يفتئون يمجدون هذا النكير المتنكر، بعد ستين سنة من الاستقلال. الكلمة الفصل تحطمت جميع مساعي الاحتلال الفرنسي قبل ديغول وخلال حكمه على صخرة شعب ثائر، فجاء ديغول في زيارة يأس أخيرة إلى بلادنا دامت ثلاثة أيام بين 9 12 ديسمبر، وأدرك مدى طوباوية رؤيته السياسية لحل أزمة الحرب، فالمعمرون يرفضون قطعا مبدأ الجزائر جزائرية، ويرابطون بصلف وعنصرية عند مبدأ الجزائر فرنسية، وكذلك جزء من العسكريين في جيشه يرفضون أي تنازل عن امتيازاتهم المطلقة ومنح الجزائريين أدنى حقوقهم على أرضهم. أما الجزائريون فيرفضون بدورهم لعبة الجزائر جزائرية التي فحواها احتفاظ المستوطنين والإدارة الاستعمارية بكل الامتيازات المألوفة مقابل، بعض الإصلاحات الشكلية لصالح الأهالي. هكذا قوبل ديغول في ديسمبر 1960 برفض مزدوج من طرفي الصراع، بعد أن وعد شعبه وجيشه بالقضاء على الثورة، والإبقاء على الجزائر الفرنسية. ظل ديغول يماطل ويناور باللعب على المفاهيم ذات المقاييس والمعايير المزدوجة، بما في ذلك المفاوضات مع الحكومة المؤقتة، عبر التسويف والتأجيل، باعتماد القوة الغاشمة، وإرهاب الدولة الرسمي من جهة، والتلويح بالحلول السلمية من جهة أخرى ربحا للوقت، وعملا على تغيير موازين القوى على الأرض لصالح فرنسا، وهذا من أجل فرض شروط التفاوض على الخصم، بما في ذلك مسألة فصل الصحراء عن الشمال، ومواصلة تجاربه النووية المدمرة، ووضع يده على آبار النفط، والعمل على فبركة بدائل عميلة ضد القضية، مثل الخائن شكال وغيره. بل والسعي إلى قلب نصر الشعب الجزائري إلى هزيمة، بالمحصلة لم تكن مظاهرات ديسمبر 1960 إلا حلقة في سلسلة ممتدة عبر التاريخ الاستعماري، وحلقة هامة، ضمن مسار ثورة التحرير 1954 1962، بحيث أسست لقطيعة نهائية لأحلام سلطة الاحتلال السياسية والعسكرية والاستيطانية، وهدّدت كيان الدولة الفرنسية والمجتمع الفرنسي برمته، عبر تمرّد الجيش وعصيان المستوطنين، وبروز جماعات أشرار مخربة، ومنظمات إرهابية مثل «منظمة الجيش السري» وبين هذه كلها، وبين شعب جريح ولكنه ثائر تقوده حكومة ثورية وقيادة أركان جيش على ضعف إمكانياته المادية، هو قوي بمعنوياته، وإيمانه بعدالة ثورته، واستعداده للتضحية الدائمة، وتصميمه على مواصلة الكفاح لأمد طويل، نقول بكل بساطة لقد هزمت إرادة السلام الجزائرية، إرادة الحرب الجائرة الفرنسية.