لقد كانت الثورة الجزائرية (1954-1962) ولا زالت مثالا يحتذى به وحدثا فاصلا في التاريخ بفضل أهميتها الإستراتيجية، وما أفرزته من نتائج على الصعيد العالمي فقد كانت بحق معركة تصفية الاستعمار في كل العالم، فالاستعمار الذي بدأ بالجزائر انتهى بها بعد معركة كسر عظم عسكرية شاملة شنّها جيش التحرير الوطني ضد كل أهداف الاستعمار وأذنابه، وواكبت انتصاراته هذه حركات أخرى دبلوماسية وسياسية وإعلامية وقانونية وشعبية أطلقتها جبهة التحرير الوطني، بحسب متطلبات المعركة. لهذا فالثورة الجزائرية في توصيفها كحرب تحريرية يأتي في صدارة اهتماماتها العمل العسكري أو العمل المحض، كما سماه بيان الفاتح من نوفمبر 1954، تشبع من قاموا بتفجيرها بأدبيات حزب الشعب خاصة بمفهوم العنف الثوري ومستحضرين مجازر الثامن من ماي 1945 والغصة تملأ الحلق، كانت يوميات الثورة المباركة علقما تتجرعه يوميا فرنسا ونجحت في تشكيل جيش يضمن الأسبقية العسكرية والمبادرة في الجبال والمشاتي، وتعبئة الشعب الجزائري وراء قضيته إلى أن أرغمت فرنسا صاغرة على الجلوس للتفاوض بشروط جبهة التحرير وأهمها الاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري، وكذلك التفاوض تحت السلاح. هذا ما يعتبر سبقا واستثناءً فريدا من إنتاج ثورتنا المباركة، فالمفاوضات هي عملية سياسية تتوّجب وقف كل الأعمال العسكرية، كما هو الحال في كل حركات التحرّر، وفي كل عمليات فضّ النزاعات عبر العالم، إلا في الجزائر، حيث أرغمت فرنسا صاغرة على القبول بالتفاوض تحت هدير السلاح، ولعلعته، كما بذل ديغول كل ما بوسع فرنسا وحلف الأطلسي في سبيل إلحاق هزيمة عسكرية بجيش التحرير عن طريق مخطط شال الرهيب رغبة منه في مضاعفة قوّته التفاوضية، مادامت الجبهة هي التي تتحكم في زمام الأمور عسكريا ودبلوماسيا. فمسار المفاوضات بين الطرفين ينضح بالأدلة و القرائن التي تثبت تدحرج فرنسا الاستعمارية في سلسلة من التنازلات، إلى غاية الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار المتزامن مع استفتاء تقرير المصير في يوم واحد ووثيقة واحدة، يوم 11 مارس 1962 في ختام مفاوضات ايفيان الثانية، فنظرة بسيطة على المسار التفاوضي يمكّننا من قراءة المشهد والحكم النهائي أن وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962 لم يكن فقط انتصارا دبلوماسيا، كما تحاول بعض الدوائر، خطأ أو عن قصد فقط، بل كان ترجمة لانتصار عسكري مبرم وحاسم لجيش التحرير الوطني كانت له ترجمته الدبلوماسية ولهذا فهو يوم للنصر بكل ما تحمل الكلمة من معاني. فالاتصالات الأولى، بالقاهرة في 16 أفريل 1956 بين محمد خيضر وجورج غورس والتي دخلها الاستعمار جسا للنبض والوقوف على حجم مطالب الوفد الخارجي وعلاقة الثورة بحلفائها وبمحيطها العربي والإسلامي، وتبعها لقاء بلغراد في 25 جويلية 1956 بين امحمد يزيد وبيير كومين على أن يتجدد اللقاء في روما، يومي 2 و 3 من سبتمبر 1956 جمع كل من محمد خيضر، وعبد الرحمان كيوان و امحمد يزيد من الجانب الجزائري وبيير كومين وبيير هييريو من الجانب الفرنسي، وانقطعت كل اللّقاءات بعد عملية قرصنة الزعماء للطائرة التي كانت تقل بن بلة ورفاقه 22 أكتوبر1956. كانت رب ضارة نافعة فقد رصّت الصفوف وزادت من الدعم الدولي للثورة الجزائرية و أحرجت حلفاء فرنسا الطبيعيين، وأثارت اشمئزاز الشعب الفرنسي من سياسات بلده الحمقاء، وتطوى بها صفحة من مرحلة جسّ النبض بين الطرفين كان عنوانها قوة شكيمة قادة الثورة المستمدة من انتصارات جيش التحرير والدعم الدولي المنقطع النظير للشعب الجزائري. وفور اعتلاء ديغول الحكم في 13 ماي 1958 في فرنسا بانقلاب عسكري تم تجميله ليتوافق وروح الديمقراطية الأولى في العالم فعمل كل ما بوسعه لإحراز التقدم العسكري الذي سيجبر جبهة التحرير الوطني على تقديم تنازلات خاصة بعد أن علم أن المفاوضات تكون تحت السلاح فدخلت فرنسا الديغولية محادثات مولان 25/29 جويلية، بعد تنفيذ مخطط شال الرهيب الذي أتى على كل شيء، إلا على عزيمة رجال الجزائر من جيش التحرير الوطني، فظن ديغول، إنه بعد تحقيق بعض الأهداف العسكرية للمخطط قد يستطيع إضعاف مفاوضي جبهة التحرير الوطني فاشترط مباشرة استسلام كل جيش التحرير الوطني وفصل الصحراء وكان أحد مفاوضيه عسكري وهو الجنرال دي كاسين وروجي موريس، و ضم الوفد الجزائري أحمد بومنجل ومحمد الصديق بن يحيى. لنلاحظ هنا سقف المطالب الفرنسية أي الاستسلام وفصل الصحراء وترك الشمال للمستوطنين وأذناب الاستعمار. بعد هزيمة سياسية ودبلوماسية نكراء غداة مظاهرات ديسمبر 1960 التي كان العلم الجزائري الذي لا يكاد يظهر إلا في الجبال، و المخابئ يطل من كل نافذة وبيد كل حرّة من حرائر الجزائر تصاحبه الزغاريد من الحناجر أو كما عبر عن الموقف أحد الضباط الفرنسيين، صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية على مشروع قرار لتقرير مصير الشعب الجزائري، في 25 ديسمبر 1960. دخل ديغول منحدر التنازلات، بدءا باعترافه بحق تقرير مصير الشعب الجزائري، ثم الدخول في جولة أخرى من المفاوضات بلوسيرن بسويسرا 20/22 فبراير 1961 فقاد وفده رجل ثقته جورج بومبيدو وبرونو دولوس وعن الجانب الجزائري الطيب بولحروف واحمد بومنجل وانتهت بالفشل لتمسك فرنسا بالحكم الذاتي بدل الاستقلال وضمان امتيازات خاصة للمستوطنين الفرنسيين، وفصل الصحراء و فتحالمفاوضات لإشراك أطراف أخرى في شكل مائدة مستديرة، وهذا أوقف المفاوضات من الجانب الجزائري. ليدخل الطرفان من 20 جوان إلى 13جويلية1961 مفاوضات جديدة بمدينة ايفيان، قاد الوفد الجزائري أثنائها كريم بلقاسم، وقاد الوفد الفرنسي لويس جوكس لتنتهي كسابقاتها بثبات جبهة التحرير الوطني على مواقفها لتحقيق أهداف الشعب الجزائري كاملة غير منقوصة واستؤنفت بمدينة لوغران، وأخفقت بسبب فصل الصحراء و المستوطنين الفرنسيين ( المعمرين) وتنازلت فرنسا عن إشراك أطراف أخرى، وعن خيار الحكم الذاتي رغم سياسيات فرنسا التحريضية، لكن دون جدوى لتعود المباحثات في «لي روس» بين 11/19 فبراير 1962 والتي انتهت بانبطاح للجانب الفرنسي حيث تعترف فيها فرنسا بالاستقلال والوحدة الترابية للجزائر ووحدة الشعب الجزائري وتنازلت عن كل ما كانت تريده من خلال المفاوضات، حيث قوبلت سياسات فصل الصحراء بفتح للجبهات الجنوبية و بمعارك كبرى خاضها جيش التحرير كمعركة 48 ساعة بجبل بوكحيل، بالولاية السادسة 17 / 18 سبتمبر 1961 والتي خسر فيها المستعمر حوالي 700 قتيل وإسقاط 3 طائرات. ومنه وافق المجلس الوطني للثورة الجزائرية بتونس في 27 فبراير 1962 على نتائج مفاوضات «لي روس» لتنطلق من 7/ 18 مارس 1962 مفاوضات ايفيان الثانية لتصادق على النصوص وانتهت بإتفاقية وقف إطلاق النار في 11 مارس 1962 على أن يدخل حيز التنفيذ، ابتداء من 19 مارس 1962 لتصل سلسلة التنازلات الفرنسية إلى منتهاها باسترجاع السيادة الوطنية للجزائر. لهذا فوجب التنويه بأهمية فرض جبهة التحرير لطروحاتها نتيجة قوتها في الميدان وعلى رأسها التفاوض تحت السلاح في منطق جديد لعملية التفاوض السياسية، ولهذا فعيد النصر هو النصر العسكري أولا وقبل كل شيء متبوعا بنصر دبلوماسي ساحق نتيجة المثابرة من زعماء الجبهة و كل الدول التي تضامنت مع الجزائر.