بقلم: الطيب بن ابراهيم* نالت الجزائر استقلالها بضريبة مليون ونصف مليون شهيد خلال سبع سنوات ونصف فقط أي خلا ل تسع وثمانين شهرا (89) من نوفمبر 1954 إلى مارس 1962 بمعدل 16854 شهيدا في الشهر الواحد أي بمعدل أكثر من (560) شهيدا في اليوم الواحد وهذا رقم لم تقدمه أي ثورة ضد الاستعمار الحديث باستثناء الجزائر ناهيك على شهداء المقاومة الجزائرية منذ عهد الأمير عبد القادر والذين قُدِّروا من طرف المؤرخين الفرنسيين أنفسهم بملايين الشهداء. ردت فرنسا على الثورة الجزائرية بالاستنجاد بالجنرال ديغول الرجل الذي راهن عليه الجيش الفرنسي الجريح والأوساط الاستعمارية وجِيء به لإنقاذ الدولة الفرنسية من الانهيار أمام ضربات الثورة الجزائرية الموجعة وفشل وعود الجنرالات بالقضاء عليها. وبناء على قناعة الرجل في الرهان على الحسم العسكري اتخذ الجنرال ديغول الخطوات التالية : الاعتماد على أكفأ الضباط الفرنسيين ممن يثق بهم ومن بين هؤلاء :الجنرال شال الجنرال ماسو الجنرال غامبير والجنرال أوليه والجنرال بيجار والجنرال لافو والجنرال جوهو والجنرال سالان وغيرهم . كما رفع ديغول من عدد القوات العسكرية الفرنسية ليصل العدد إلى المليون أو تجاوزه إذا أضفنا لذلك أعداد القوات الجوية والبحرية ورجال الأمن والدرك وميليشيات المستوطنين والفرقة الأجنبية (المرتزقة)والمظليين والجنود المحليين(الحركة) حتى أصبح أمام كل عشرة جزائريين مسلح واحد. كما جهَّز ديغول جيوشه وقواته بالمدافع الثقيلة والطائرات قاذفات الصواريخ والقنابل وأصبحت صفقات شراء الطائرات الأمريكية المقنبلة والطائرات العمودية والطائرات الاستطلاعية T 6 و طائرات B 26 والجونكر متلاحقة وبلغ عدد الطائرات الفرنسية المجندة لحرب الجزائر 600 طائرة نفاثة كما استعملت القنابل بكل أنواعها : قنابل النابالم القنابل الفوسفورية القنابل الجرثومية . كان الجنرال المسن يتنقّل للجزائر لزيارة المناطق الجبلية الملتهبة ليطلع في عين المكان على سير المعارك ونتائجها ورفع معنويات جيشه وأيضا للإطلاع على حقيقة الثوار ونوعية أسلحتهم وتكتيكهم العسكري. لم يكن الجنرال رجل البروتوكولات والاستقبالات المزيفة والتقارير المزورة كان رجلا عسكريا ميدانيا لا يؤمن إلا بما يراه بعينيه يقول: ذهبت في شهر أوت لأشاهد الجيوش وقادتها في غرب الجزائر ووسطها وشرقها ويعترف بان زيارته الميدانية كانت تحدد له المعطيات التي لم تكن جميع التقارير قادرة على توضيحها إلا بشكل ناقص. إن المناطق التي زارها ديغول في الجزائر من مدن وجبال هي أكثر مما زاره من المدن والمناطق في وطنه فرنسا لقد زار الجنرال الجزائر ثمان مرات ما بين 1958 إلى 1960 أي خلال سنتين فقط بمعدل أربع زيارات في السنة الواحدة . لقد بلغت الثورة الجزائرية ذروتها في عهد الجنرال ديغول خاصة عندما عين الجنرال شال ووافق على خطته الأرض المحروقة التي كانت تعتمد على شن الهجومات البرية والبحرية والجوية على الثوار وحرق الغابات والأراضي الزراعية وهدم القرى والمداشر وتهجير السكان والزج بهم داخل المحتشدات لحصارهم ومحاصرة تموين الثوار إنها حرب إبادة استعملت فيها افتك الأسلحة وأبشع الأساليب القتالية والانتقامية ضد المدنيين وكذلك الحرب النفسية الممنهجة ابتداء من شهر افريل سنة 1959م وتشجيعا لذلك أرسل الرئيس الفرنسي ديغول رسالة تهنئة إلى الجنرال شال على نجاح المرحلة الأولى من خطته التي تعتمد على الأرض المحروقة وتطهير المناطق المتفجرة من الثوار. كانت سياسة ديغول العسكرية تهدف لشد الخناق على الثورة الجزائرية وعزلها عن العالم الخارجي برا وبحرا حتى لا تتلقى أي دعم خارجي كما حاول عزلها داخليا عن الشعب الجزائري عن طريق خطة شال وأقام عبر الحدود الشرقية خط موريس وعبر الحدود الغربية خط شال وكلاهما مزود بالألغام وبالأسلاك الشائكة المكهربة. أما على الواجهة البحرية فتم تعيين ابن الرئيس ديغول قائدا للسفينة البحرية السريعة المطاردة لو بيكار التي كانت تراقب الشواطئ الجزائرية وتفتش السفن المشبوهة ففي سنة 1959 اعترضت البحرية الفرنسية ل41300 مركبا بحريا فتشت منها 12565 مركبا واقتادت 83 مركبا. أما مساعدة الحلف الأطلسي لفرنسا في حربها ضد الثورة الجزائرية فتركزت على ثلاث محاور هي : المساعدة العسكرية المساعدة المالية والدعم الدبلوماسي. فعلى الصعيد العسكري كانت كل الأسلحة الموجودة في الجزائر تقريبا من منشأ أطلسي وكان الأمريكيون يقومون بتدريب القوات البحرية خاصة في المرسى الكبير وبوفاريك وبجاية والألمان يدربون الطيارين الفرنسيين كما منح الحلف طائرات عمودية من نوع سيكور سكي إلى فرنسا دعما لها في حربها ضد الثورة الجزائرية. لقد اشترى ديغول من الولاياتالمتحدةالأمريكية 25 طائرة هيليكوبتر ثقيلة سنة 1959 وعددا من طائرات التدخل نوع T 28 وفي مطلع سنة 1960 سلمت الولاياتالمتحدةالأمريكية 60 طائرة لفرنسا وأوصت لها ب 96 طائرة أخرى. وكان الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط يقدم كل المعلومات الاستخباراتية واللوجستية لفرنسا ووضعت أمريكا حاملتي طائرات تحت تصرف فرنسا في حربها وحتى الطائرات التي قصفت ساقية سيدي يوسف كانت أمريكية B 26 . ثورة الابطال لقد زلزلت الثورة الجزائرية كيان فرنسا وهزت أركانها فقال عنها الجنرال: وفي اللحظة التي تسلّمت فيها دفة الحكم رأيتني منغمسا من راسي إلى أخمص قدمي في هذا الموضوع مشكلة الجزائر . وبعد فشل كل حلول الجنرال قال عن خطورة الثورة أنها أربكت نظام الحكم والوضع السياسي الفرنسي . فعلا أصبحت فرنسا مرتبكة سياسيا بعد تعاقب هزائم جيشها وسقوط حكوماتها الواحدة بعد الأخرى. لقد اصطدم الجنرال ديغول بواقع لم يكن يتوقعه أو يصدق خبره وحاول بكل ما أوتي من قوة وخبرة ودهاء وعناد أن يكسب الوقت على حساب الثورة والرهان على الحسم العسكري ومرت الأيام والشهور ولم تخمد الثورة حسب وعوده ووعود جنرالاته بل تضاعف عدد النعوش المنقولة من الجزائرلفرنسا بمعدل سبعين (70) قتيلا يوميا وتم إفلاس الخزينة بسب الإنفاق وارتفاع تكاليف الحرب المتواصلة على مستوى كل الجبهات ولم تستطع فرنسا أن تتحمل أكثر مما تحملت رغم اتساع إمبراطوريتها المترامية الأطراف . بدأت حتمية الاعتراف بواقع الحال تنفلت في تصريحات الجنرال يوما بعد يوم لتتحول لاعترافات رسمية متكررة .لقد أصبحت الثورة الجزائرية تكلف الخزينة الفرنسية ثلاثة ملايين فرنك قديم يوميا وأصبحت نداءات المساعدة المالية لفرنسا من طرف الحلفاء تتكرر في كل مناسبة مما جعل الحلف الأطلسي يقدم لها مبلغ 655 مليون دولار بتاريخ 30 يناير 1958 وفي نفس هذه الفترة أي مابين ديسمبر 1957 وافريل 1958 تراجعت البورصة المالية الفرنسية بنسبة 20 بالمائة وبلغت الخسارة الفرنسية 540 مليار فرنك. لقد ولّى زمن كانت الجزائر بلد الثراء والغنى والسعادة لفرنسا وأصبحت مصدر القتل والحزن والأسى مما دفع بالجنرال ديغول إلى الاعتراف الذي لا مفر منه ووصف الجزائر بأنها أصبحت صندوق الأحزان بالنسبة لفرنسا و أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر أصبح مجرد أموال مرهونة عقيمة الفائدة وان الشعب الفرنسي يتحمل على مضض القتال البالغ النفقات في الجزائر . أصبحت الحقيقة التي يؤمن بها الجنرال هي أن الثورة تزداد قوة واشتعالا على ارض الواقع ودائرة الاعتراف بها عالميا تتسع وفرنسا تزداد ضعفا وانهيارا وسمعتها تتلطخ بسبب الحرب القذرة فكان حتميا على الجنرال ديغول أن تتكرر اعترافاته بكل مرارة قائلا: وان أقل شيء يمكن قوله هو أن الجزائر تكلفنا أكثر مما نربح فيها . بل يعترف الجنرال ديغول بما هو اخطر من ذلك وبما يعد تحذيرا للمتشبثين بالجزائر الفرنسية وبما يعد بداية نهاية الاحتلال وهو الاعتراف بأن الثورة الجزائرية إذا استمرت لا تؤدي لاستقلال الجزائر فقط بل تهدد سلامة فرنسا نفسها. ولمصلحة فرنسا ولوضع حد لنزيفها يجيب ديغول بشجاعته المعهودة : فانه لا طائل من خسارة رجالنا وأموالنا عن طرق فرض شعار ( الجزائر فرنسية) ويواصل اعترافاته بمرارة قائلا أن عودة الجزائرلفرنسا عودة ميئوس منها: لان ذلك يؤدي إلى إبقاء فرنسا تغوص سياسيا وماليا وعسكريا في مستنقع لا قاع له ففي هذه الحالة فرنسا لا تخسر الحرب فقط بل تخسر نفسها والحل الوحيد الذي توصل له الجنرال ديغول كما قال هو: الفرار من الجحيم.