أوضحت الدكتورة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية نبيلة بن يحي، في حوار مع «الشعب»، أن الدور المحوري والاستراتيجي للدبلوماسية الجزائرية تعزّز بنجاحها بجمع فصيلي المقاومة الفلسطينية «حماس» و«فتح» في يوم تاريخي ميزه استعراض عسكري حمل الكثير من الرسائل، ليكون جويلية هذه السنة شهرا مميزا على جميع الأصعدة. «الشعب»: ماذا عن قوة الجزائر الدبلوماسية ومكانتها الخاصة في حل النزاعات والأزمات؟ د. نبيلة بن يحي: عرفت الجزائر حراكا دبلوماسيا منذ عدة سنوات أبان عن رشادة وحكمة كبيرة في السياسة الخارجية، ما أهلها لأن تؤدي دورا محوريا في القضايا الإقليمية والإستراتيجية. فقد شكلت الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال قوة إقليمية ودولية ساهمت في حل الكثير من النزاعات الدولية بالطرق السلمية، وفق أحكام ميثاق الأممالمتحدة، كأزمة الرهائن بين أمريكا وإيران والنزاع الإثيوبي- الإريتري، التي كانت الوسيط القوي والدولة الفاعلة لإنهائها، بالإضافة الى سعيها الدائم لحلحلة الأزمة الليبية، بعيدا عن التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدولة الجارة بترجيح الحل الليبي-الليبي، حيث شددت في أكثر من مناسبة رفضها القاطع المس بالسيادة الليبية من خلال مساعيها لإعادة الشرعية. ولن يخرج تفعيل دور الجزائر الدبلوماسي في الأزمة الليبية الراهنة، عن إطار الحل السياسي ولمّ شمل الفرقاء الليبيين. فالجزائر ومنذ اندلاع الأزمة، تحاول تفعيل الصلح بين الإخوة الليبيين لمنع الأزمة من أن تأخذ أبعادا خطيرة. كما وقفت الى جانب الشقيقة تونس بعد الربيع العربي لإبعاد أي أخطار أمنية أو اقتصادية عنها، وأي انزلاقات قد تكون تداعياتها خطيرة على المنطقة، بالإضافة الى حرصها المستمر ترجيح الحل السلمي للأزمة المالية. ظهرت القوة الدبلوماسية الجزائرية أيضا في تعاملها بالندية والسيادة الكاملة مع كل من تسول له نفسه تجاوز الخطوط الحمراء معها، فكان الرد الصارم والحازم ضد فرنسا التي لم تستسغ بَعْدُ استقلال الجزائر، بل لم تستطع التخلي عن بعدها «الكولونيالي» مع الجزائر، فكانت الصرامة وقوة الدبلوماسية الجزائرية الرادع لفرنسا وجعلها تلتزم حدودها الدبلوماسية بعدم تدخلها في الشأن الداخلي. فبالرغم من المحاولات المتكررة للتسبب في الفوضى، سواء بأياد داخلية أو خارجية، استطاعت الجزائر الإطاحة بكل المخططات ودرء كل التهديدات لكسر سيادتها. ولعل التعامل الصارم مع إسبانيا بعد تغيير موقفها تجاه القضية الصحراوية وعدم تحملها المسؤولية التاريخية تجاه هذه القضية، أبان عن الندية والسيادة الجزائرية والحنكة، بمنعها أي تلاعب بالمواقف السياسية والقانون الدولي، وكذا موقفها الحكيم في الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث أكدت أن المشكل يتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين وحلحلته متوقفة على الوحدتين السياسيتين، فروسيا الاتحادية حليف استراتيجي للجزائر وأوكرانيا دولة صديقة، ما يبرز عقيدتها الدبلوماسية في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. دون أن ننسى الدور المحوري الذي أدته الجزائر بوقوفها أمام التغلغل الإسرائيلي داخل القارة الإفريقية، حيث نجحت، إلى جانب بعض الدول الإفريقية، في تعليق عضويته بصفته مراقبا في الاتحاد الإفريقي، للمحافظة على أمن المنطقة من خلال سياسة حكيمة ومتبصرة لحماية مصالحنا الإستراتيجية إقليميا ودوليا. رسائل مشفّرة - أي رسائل حملتها الاحتفالية المهيبة لستينية الاستقلال والاستعراض العسكري الكبير؟ كان احتفالا مميزا جدا ميزه استعراض عسكري مذهل لمختلف القوات البرية، البحرية والجوية. جاء هذا الاستعراض وسط تجاذبات إقليمية صعبة، خاصة بعد أكثر من 30 سنة من آخر استعراض عسكري في الجزائر، كانت له دلالات سياسية تعبر عن مقاربة الأمن والاستقرار المدعومة من طرف المؤسسة العسكرية، في تقارب بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية. للجيش الوطني الشعبي امتدادات تاريخية لارتباطه بجيش التحرير وحتى المقاومات الشعبية، فكما كان الشعب محركها وهو العصب والمكون الأساسي للجيش الوطني الشعبي، جاء الاستعراض في الوقت المناسب، خاصة ونحن نعيش تحديات ورهانات إقليمية ودولية وسط نظام عالمي يتغير تدريجيا، فلابد لنا من تحديد مكانة ضمن هذه التغيرات الموجودة في سياقها التاريخي والاستراتيجي، بالأخص الأمني المركب من كل من العسكري، السياسي، والاقتصادي. تضمن الاحتفال المهيب بستينية الاستقلال، الذي حضره رؤساء وممثلو السلك الدبلوماسي في الجزائر، رسائل مشفرة لكل متربص بالجزائر. رمزية المكان الذي اختير للاستعراض العسكري، له دلالة كبيرة، فمن «لا فيجري» «الكولونيالية» التي كانت مركز التبشير في الفترة الاستعمارية، إلى «المحمدية» في جزائر الاستقلال وأمام الجامع الأعظم، تؤكد الجزائر على أن الإسلام دين الدولة وأساس هويتها، رافضة أي مس ببعدها الإسلامي، فكان الاستعراض في المحمدية وتحت منارة الجامع الأعظم رسالة قوية لكل من يريد ضرب الإسلام في الجزائر. ونظم الاستعراض أمام البحر، الذي كان دائما منفذ المستعمِر الى الجزائر كإسبانيا ومن بعد فرنسا، وأوروبا بصفة عامة التي صنعت حروبا كثيرة كالحرب العالمية الثانية، أوروبا الاستدمارية والنازية والاستعلائية لإبراز جاهزية الجيش لمواجهة أي عدو متربص بالجزائر وتأكيده على صونه لأمانة الشهداء. جاءت الاحتفالية باستعراض عسكري مهيب، بعد استكمال البناء المؤسساتي للدولة، راهنت الكثير من الدول على فشله، إلى جانب رسالة واضحة أرسلتها الجزائر الى العالم مفادها، استمرار دعمها للقضايا العادلة كالقضية الفلسطينية والصحراوية. من جهة أخرى، كان للاستعراض بعد اقتصادي، باستظهار قوة الصناعة العسكرية، من خلال أسلحة ثقيلة ذات تكنولوجيات دقيقة، والدرون أو الطائرات المسيرة، ما يعكس قوة الجزائر وخطواتها الثابتة نحو اقتصاد متنوع تكون الصناعة العسكرية أحد أجنحة التنمية ومحركا مهمّا لعجلته، حتى تتأكد جاهزية الجزائر واتجاهها بعزيمة قوية نحو التنمية والاستقرار في كل جوانبه وأبعاده. جاء الاحتفال بعد حراك شعبي أريد له أن يكون نافذة الجزائر على الفوضى، لكنه كان بابها نحو الاستقرار وإعادة البناء وترميم علاقة الثقة بين الدولة والشعب والجيش، والتأكيد على عامل الوحدة والانسجام الكامل بين السلطة المدنية والعسكرية، وجوابا قاطعا لكل من يريد إقحام نفسه في الشأن الداخلي الجزائري. فقد كانت تراهن على صناعة الفوضى في الجزائر بأياد جزائرية أو أجنبية، لكن الاستعراض كان دليلا واضحا على فشل هذه المحاولات، حيث تفردت الجزائر بهذه الاحتفالية لتصنع الحدث السياسي والأمني بعد الحراك الشعبي والجائحة، حيث راهن الكثيرون على أنهما سيكونان سببا في السقوط الحر للجزائر، لكن بفضل السياسة الحكيمة استطاعت الخروج الى بر الأمان. لمّ شمل الفرقاء... أول خطوة - ما تعليقكم على مبادرة لمّ الشمل الفلسطيني في الجزائر، حيث أبرزت الدور الدبلوماسي لنبذ الانشقاق بين الأخوة الفرقاء؟ استطاعت الجزائر، مرة أخرى، لمّ شمل أهم فصيلي المقاومة الفلسطينية والإخوة الفرقاء: «فتح» و»حماس»، في خطوة اعتبرها الملاحظون بالمهمة من أجل توحيد صفوف الفلسطينيين بعد اختلافهم في تحديد مسار النضال، المصالحة بين أكبر فصيلي المقاومة في فلسطينالمحتلة، دليل على موقع الجزائر وموطنها عند الفلسطينيين. أعتبره فعلا قويا هو بمثابة تتويج آخر لصالح الدبلوماسية الجزائرية، حيث تمثل الجزائر الهوية النضالية لهما، وهي مبادرة استلطفها الشعب الفلسطيني وكل الشعوب التي تحترم حركة التحرر الوطني للقضية الجزائرية التي تعتبر أنموذجا لحركات التحرر منذ المقاومات الشعبية، بل هي رائدة في المجتمعات العربية الإفريقية والعالمية. هذه المصالحة هي فعل إنساني وسياسي، وتأكيد على نبذ الفرقة والانشقاق، لمحاصر وتعقب محاولات الكيان الصهيوني تهويد فلسطين والتهجير القسري لأبناء الأرض واستيطان اليهود فيها، ما يجعله مكسبا حقيقيا للفلسطينيين، أتمنى أن تتلوه قرارات وخطوات لتأكيد هذه المصالحة. جاءت هذه المصالحة ومن أرض الجزائر في وقتها المناسب، وسط التطبيع غير المبرر لكثير من الدول العربية، لأنه تأكيد على أحقية الشعب الفلسطيني بأرضه المغتصبة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتأكيد على المكانة الوجدانية الرفيعة التي يكنها الجزائريونلفلسطين منذ نشأة الحركة الوطنية في مطلع القرن الماضي وتشبثهم بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وفقا للشرعية الأممية ولمبادرة السلام العربية. كما يمكن القول، إن المبادرة جاءت تحضيرا للقمة العربية التي ستنعقد في نوفمبر القادم بالجزائر، لذلك حرصت الجزائر على لمّ شمل الفرقاء وتوحيد مساعيهم من أجل هدف واحد أسمى هو تحرير فلسطين وعاصمتها القدس، والتي ستكون من أهم قضايا القمة العربية القادمة. فالجزائر تتفرد بهوية وسط جموع الدول العربية والمتوسطية وحتى العالم، فيما يتعلق بمناصرتها ومرافعتها لأجل القضايا العادلة، بحكم مسارها التاريخي، حيث كانت شعلة الثورة التحريرية في 1954 محفزا للكثير من حركات تحرر على مستوى العالم، لذلك تعتبر مناصرة القضايا العادلة جزءاً من الهوية السياسية والتاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية للجزائر دولة وشعبا. - بالحديث عن القمة العربية، ما هي التحديات والرهانات التي تنتظر الجزائر لعقدها؟ ستنعقد القمة العربية في ظروف إقليمية ودولية صعبة، حيث يعرف النظام العالمي تحولا كبيرا، لذلك تعول الجزائر على نجاح هذه القمة، ليس انعقادها فقط من أجل تجسيد حقيقي للبعد العربي، من خلال مناقشة أهم القضايا العربية، حيث ستكون القضية الفلسطينية أهمها، إلى جانب إعادة رص الصف العربي، خاصة الدول التي مسها الربيع العربي وعرفت تهلهلا سياسيا واقتصاديا وحتى نفسيا ساهم في زعزعتها، لذلك كان لابد من تجديد الرؤيا الاقتصادية من خلال اهتمامات الشباب الطموحة في إعادة بناء وعي عربي مشترك من أجل التصدي لهذه التحديات والرهانات وأنا على ثقة كبيرة من نجاحها في ذلك. ولعل أهم هذه التحديات، الاستقرار والأمن والسلام داخل دول المنطقة، وفق المصالح المشتركة. وفيما يخص التحديات السياسية، هو الاستقرار السياسي في ليبيا والسودان، ووقف التمدد الصهيوني في المنطقة. كما لا يمكن أن ننسى أهم تحدٍّ وهو الاستقرار في المنطقة وعودة الهدوء والأمن، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بالتعاون والتنسيق المشترك بين الدول. لا تسعى الجزائر لانعقاد القمة فقط، بل هي تراهن على نجاحها من خلال إيجاد حلول للقضايا، وعودة القضية الفلسطينية للأجندات العربية، ولا أقول إجماعا عربيا شاملا ولكن على الأقل أن تأخذ هذه القمة النقاط التي تشترك فيها جموع هذه الدولة لتتحول إلى نتائج تؤسس لأن تكون بداية التكتل العربي. فالمنطقة العربية تعيش اليوم تحديات تشكل نظام عالمي جديد بعد القطبية الواحدة التي لا تريد الولاياتالمتحدة التنازل عنها، فابتداء من اتفاقية سايكس بيكو ووصولا الى الظاهرة الاستعمارية التي دامت قرونا وانتهاء الى الربيع العربي، عرف المجتمع العربي حالة من اللاإستقرار، لذلك كان لابد من قراءة نافذة متأنية وحكيمة للتفكير العربي، حتى تستطيع الدول العربية من تشكيل قوة تمنع انحلالها واضمحلالها في النظام العالمي الذي قد يكون دون قطبية متعددة أو لا تعددية. فالجزائر تريد من خلال هذه القمة رؤية عربية تثمّن القضايا الشائكة الموجودة بالوصول إلى أدني الحلول التي تجمع بين الدول العربية، حتى لا تزيد الدول العربية تفتيتا وانشقاقا وانقساما، لأننا نعيش اليوم عصر التكتلات وكلما كان التكتل قويا كلما كانت الحلول أنسب وواقعية، ولابد ان نعلم ان التكتل لا يعني الاتفاق، لأن الاختلاف هو جزء من مرونة الحياة السياسية لصعوبة الوصول إلى اتفاق شامل. وهو نفس ما نجده في الاتحاد الأوربي والاتحادات الأخرى، فبالرغم من اختلاف الأنظمة السياسية ونهجهم داخل دولهم، لكنهم استطاعوا التأسيس لمنظومة تكاملية في صالح هذه الدول، ولمَ لا تكون هذه القمة العربية جامعة للدول العربية مؤسسة لقاعدة استثمارية، سواء تعلق الأمر بالمجال الاقتصادي أو بأن تكون انطلاقة لحلول سياسية لبعض الدول العربية. ورياضية أيضا... - هل نستطيع القول إن نجاح الألعاب المتوسطية الأخيرة بوهران قد فعّل الدبلوماسية الرياضية لتسويق الصورة الحقيقية للجزائر؟ نجاح الألعاب المتوسطية في طبعتها 22 بوهران، أبان عن دبلوماسية رياضية سمحت بإعطاء الصورة الحقيقية عن الجزائر، ما اعتبره قيمة مضافة للدبلوماسية الجزائرية التي استطاعت إثبات قوتها وحكمتها منذ الاستقلال، فكان نجاح الدورة والمشاركة الإيجابية للجزائر فيها، من خلال حصدها المرتبة الرابعة، دليلا قاطعا على قدرة الجزائر وجاهزيتها لتنظيم بطولات ودورات رياضية دولية ولمَ لا عالمية؟، وقطعت دابر المشككين من بعض الدول في استطاعتها تنظيم هذه التظاهرة الرياضية، خاصة تلك الباحثة عن صناعة الفوضى في الجزائر من خلال نشر الإشاعات والأكاذيب، لكن وكما فشلوا في المرات السابقة فشلوا هذه المرة أيضا في كل مساعيهم لضرب صورة الجزائر وجاهزيتها لتنظيم هذا العرس المتوسطي. نجاحها نجاح للدولة والشعب العلامة الفارقة في هذه الدورة، لذلك هي مكسب آخر يضاف للمكاسب الأخرى التي استطاعت الجزائر النجاح فيها، خاصة انها تزامنت مع الاستعراض العسكري في احتفالية ستينية الاستقلال، ما أبان عن جاهزية وقدرة كبيرتين في التنظيم والتحكم في تفاصيل الحدث.