رغم الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقه، يواصل المبعوث الأممي الى ليبيا، عبد الله باتيلي، جهوده التي بدأها في نهاية سبتمبر الماضي على أمل الدفع بعملية التسوية السياسية للأزمة، مقتفياً آثار أسلافه السبعة، عبر جولاته المكوكية داخليا، ولقاءاته بالأطراف السياسية، علّه يقلّص حجم الشرخ والانقسامات التي تفرّقها، وعبر زياراته الخارجية للبحث عن الدّعم والمساعدة على اعتبار أن جزءا كبيرا من التعثّر في حلحلة المعضلة الليبية، يعود إلى التدخلات الخارجية المدفوعة بصراع محموم على المصالح والنفوذ. بعد أزيد من أربعة أشهر على بدء مهمته، يبدو بأن باتيلي وصل إلى الاقتناع بأن الدور الذي أسنده إليه الأمين العام الأممي غوتيريش في غاية الصعوبة، والأزمة التي تواجهه أعمق مما يمكن تصوّره، إذ وجد نفسه أمام كثير من الأبواب المغلقة، وأمام كلّ باب تقف جهة تصرّ على أنّها من يحظى بالشرعية وبالحق في قيادة البلاد، لكن عمق الخلافات وكثرة العراقيل لم تحدّ من عزيمة المبعوث الأممي الذي يصرّ على إيجاد حلّ سريع لانقسام السلطة التنفيذية، ولمسألة القاعدة الدستورية للوصول إلى الهدف المنشود، وهو إجراء الانتخابات قبل نهاية السّنة، إذ لم يعد من المعقول الاستمرار في تعطيل المسار الانتخابي وجرّ البلاد نحو المجهول، خاصّة مع وجود مرتزقة ومقاتلين أجانب يضعون أمن ليبيا والمنطقة على فوهة بركان. إعادة الثقة ورأب الصّدع عندما دشن باتيلي أولى خطواته في ليبيا، جعل أولويته في العمل إيجاد أرضية مشتركة للحوار بين أطراف الأزمة، وإعادة بناء الثقة المفقودة، من منطلق أن الاستحقاق الانتخابي يتطلّب إحداث اختراق بملف الانقسام الحكومي، وإقرار إطار دستوري متين، لكن بين التخطيط والواقع، اصطدم المبعوث الأممي بصعوبة معالجة مسألة انقسام السلطة التنفيذية وتنازعها بين حكومتين، الأولى هي حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها عبد الحميد الدبيبة، والتي تحظى بالاعتراف الدولي، والثانية موازية عيّنها برلمان شرق ليبيا ويقودها فتحي باشاغا. أوّل تحدّ واجهه باتيلي إذن، كان انقسام السلطة، ورغم أن كثيرا من الجهات نصحته بأنّ المخرج يتحدّد في تعيين حكومة ثالثة، بدل حكومة باشاغا والدبيبة، إلا أنه رفض الخوض في هذه المسألة، لحساسيتها أوّلا، وثانيا، لأن تغيير السلطة التنفيذية ليس من اختصاصات المبعوث الأممي ولا من مهامه؛ لهذا ركّز باتيلي جهوده على إعادة الحوار بين مجلسي النواب والدولة، في مسعى للتوصّل إلى اتفاق بشأن الإطار الدستوري اللازم لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. معضلة الإطار دستوري وقد أطلقت الأممالمتحدة بالفعل مبادرة تقضي بتشكيل لجنة مشتركة من مجلس النواب ومجلس الدولة للتوافق حول قاعدة دستورية تقود البلاد إلى انتخابات في أقرب وقت ممكن. وبعد مباحثات جرت في العاصمة المصرية القاهرة، ورغم تحقيقها بعض التقدم، لم تفلح اللجنة في بلوغ الهدف المنشود والتوافق حول مجموعة من بنود القاعدة الدستورية والمتمثلة في شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، حيث حصل التعثّر بسبب خلاف حول مسألة إقصاء مزدوجي الجنسية والعسكريين من الترشح للاستحقاقات الرئاسية، ففي حين يعارض المجلس الاعلى للدولة حق «ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية» إلى منصب رئيس البلاد، يتمسّك مجلس النواب بذلك مدفوعا طبعا برغبته الجامحة في ترشيح العسكري خليفة حفتر. وقد دعا ممثل الأممالمتحدة الخاص لليبيا، عبد الله باتيلي، مجلسي النواب والأعلى للدولة إلى تجاوز هذه الخلافات والعمل بشكل بناء على وضع اللمسات الأخيرة لإنجاز الأساس الدستوري والتوافق على قوانين انتخابية لتحقق آمال الليبيين في الوصول إلى انتخابات شفافة تنهي جميع الأزمات. وقال باتيلي الاثنين، إنه أجرى مباحثات مع رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، وأخطرهما بأنه سيطلع مجلس الأمن الدولي في 27 فيفري الجاري على آخر التطورات في ليبيا، بما في ذلك التقدم المحرز بشأن الإطار الدستوري، في إشارة إلى رغبته في تتويج المسار الدستوري بقاعدة دستورية خلال الأيام القادمة، ليعرضها على مجلس الأمن، ويظهر أولى ثمار مهمّته التي توزّعت على العديد من المسارات، وعلى رأسها مسار توحيد مؤسسات الدولة، تتقدّمها المؤسسة العسكرية، وإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وإنهاء وجود المليشيات المسلّحة. توحيد المؤسسة العسكرية شدّد باتيلي، منذ وصوله إلى ليبيا، على استقرار الوضع الأمني، وراهن على أهمية توحيد المؤسسة العسكرية والحفاظ على اتفاق وقف اطلاق النار الموقّع في جنيف قبل عامين، وأكد في أكثر من مناسبة، على أن إعادة توحيد المؤسسة العسكرية واستكمال ما بدأته من جهود ونقاشات لوضع خطة إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية والحركات المعارضة من الأراضي الليبية، أمر سيساهم في دعم الجهود السياسية والوصول الى اجراء انتخابات نزيهة وشفافة تنهي الأزمة التي تتخبّط فيها البلاد. وفي الإطار، عقدت في اليومين الماضيين بالقاهرة اجتماعات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) برعاية الاممالمتحدة، وحضور ممثلين لدول الجوار «السودان وتشاد والنيجر» وذلك لبحث خطة لإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، وكان سفراء السودان والنيجر وتشاد أعربوا قبل أيام عن استعدادهم ورغبتهم في مساندة بعثة الأممالمتحدة للدعم في ليبيا والفاعلين الليبيين بهدف إيجاد حلول دائمة للتحديات المثارة، والتعاون مع أشقائهم الليبيين. ووصف باتيلي المسار الأمني بأنه «ركيزة مهمة» لتمهيد الطريق لإقرار بيئة سياسية واقتصادية مواتية، مضيفا أن اجتماع اللجنة العسكرية يومي ال15 وال16 من جانفي الماضي «حقق تقدما بما في ذلك ترشيح أعضاء لجنة التواصل الليبية لتمكينهم من العمل يدا بيد مع نظرائهم أعضاء اللجنة من السودان وتشاد والنيجر». إشراك دول الجوار ومع إظهار كلّ من السودان وتشاد والنيجر تجاوبهم مع دعوات المشاركة في اجتماعات اللجنة العسكرية الليبية، بهدف اخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب، خلص باتيلي إلى حتمية اشراك الجوار الليبي في جهود الاممالمتحدة لتحقيق السلام والاستقرار بليبيا، ففي البداية والنهاية، من مصلحة جوار ليبيا أن يساهم في جهود إحلال السلام بهذه الاخيرة، لأن استقرارها هو استقرار لكلّ المنطقة التي تعاني من تداعيات الأزمة الليبية خاصّة على المستوى الأمني. وقد قام المبعوث الأممي إلى ليبيا بجولة شملت دول جوار ليبيا، تتقدمها الجزائر، حيث قال لدى وصوله إليها إن «زيارته ترمي لطلب المساعدة من أجل استتباب الأمن في ليبيا من خلال مساعدة الأطراف الليبية وتمكينهم من إيجاد سبل الحوار لتجاوز هذه الأزمة التي طال أمدها أكثر من 10 سنوات». وشدّد باتيلي، خلال جولته، على أهمية توحيد الجهود على المستويين الإقليمي والدولي لتحقيق التسوية الضرورية والمطلوبة لإجراء الانتخابات في 2023، ووضع ليبيا على طريق الاستقرار والسلام المستدامين. سلاح الميليشيات يستبعد كثير من المراقبين السياسيين المضي في إجراء الاستحقاقات الانتخابية في ليبيا قبل حسم الملف الأمني، فالسبيل الوحيد لاستقرار هذه الدولة الشقيقة وخروجها من المستنقع، بحسبهم، يتمثل في حل الميليشيات ونزع سلاحها. ويضيف هؤلاء المراقبين، أن أحداً «لا يستطيع إغفال أن مشكلة ليبيا منذ سقوط مؤسسات الدولة، تكمن في السلاح المتفلت، وبالتالي لن يستطيع أحد الإشراف على انتخابات رئاسية وبرلمانية وعلى تأمين صناديق الاقتراع تحت سيطرة الميليشيات وسلاحها». في الواقع، تعتبر معضلة التشكيلات المسلحة التي يرى البعض أنها لا تعد خارجة عن سلطة الدولة فقط، بل ومهيمنة عليها، واحدة من أهم الأسباب التي أسهمت في تشكل الأزمة الليبية منذ بدايتها، وعطلت كل الجهود المحلية والدولية لحلها، خصوصاً مع ارتباطها بكثير من أطراف الصراع السياسي، التي كثيراً ما استخدمتها في مواجهاتها وتصفية حساباتها. والميليشيات الليبية، كما يقول أحد الخبراء، «ليست جسداً واحداً، بعضها إرهابي عتيد، وبعضها أيديولوجي متطرف، وبعضها إجرامي مافياوي، وبالتالي، فإنه يستحيل أن تكون هناك دولة وطنية تملك قرار نفسها، في ظل وجود هذه الميليشيات، بل يستحيل أيضاً أن تتعايش هذه الميليشيات معاً، حتى لو كانت وحدها في الساحة»؛ لهذا، من الضروري حل هذه التشكيلات ونزع سلاحها كشرط أساسي لعودة الاستقرار إلى ليبيا. المصالحة.. العمود الفقري للاستقرار من المسارات الأخرى التي تراهن عليها البعثة الأممية في ليبيا، هو إقرار المصالحة الوطنية التي تعتبر ركنا أساسيا من أركان الاستقرار والسلام في ليبيا. وقد فتح تنظيم المجلس الرئاسي في جانفي الماضي المنتدى التحضيري للمؤتمر الشامل للمصالحة الوطنية، بارقة أمل لتجاوز الخلافات والاختلافات التي باتت تشكّل تهديدا للوحدة الوطنية الليبية. وانطلقت أعمال الملتقى التحضيري لمؤتمر المصالحة الوطنية الذي نظمه المجلس الرئاسي بمشاركة ممثلين عن مختلف أطراف العملية السياسية وزعماء قبائل وممثلين عن المجتمع المدني، وجهات عربية وإقليمية، والذين أكّدوا تمسّكهم بمشروع المصالحة الوطنية الذي يمهد إلى مرحلة الاستقرار والسلام، وصولاً إلى تحقيق مطالب كل الليبيين، لاسيما إجراء الاستحقاقات الانتخابية. ويساهم الاتحاد الإفريقي بشكل كبير في جهود المصالحة الليبية، ففي منتصف أكتوبر الماضي، دفع الاتحاد بجان كلود جاكوسو، المبعوث الخاص للرئيس الكونغولي، رئيس بعثة الاتحاد الأفريقي، وزير خارجية جمهورية الكونغو برازافيل، للحديث مع غالبية الأطراف الليبية، عن آخر تطورات الأوضاع السياسية في ليبيا، والخطوات التي تبناها المجلس الرئاسي لإنجاح مشروع المصالحة الوطنية.وفي لقاء لموسى فقي، رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، تحدث عن «وجود دفعة للعملية السياسية في ليبيا، تتمثل في قيام الاتحاد الأفريقي بالعمل على ملف المصالحة الوطنية، لكونها الأساس الذي يسبق أي اتفاق سياسي». وأضاف فقي، أن «الاتحاد يعمل حالياً على عقد اجتماع تمهيدي للمصالحة بين جميع الأطياف، على أن يقرر الليبيون أين سيعقد، وإن كنا نفضّل أن يعقد في ليبيا»، لافتاً إلى أنهم يعملون من الأممالمتحدة على ذلك، وشدد على أن «المصالحة الوطنية هي العمود الفقري للسير نحو انتخابات حرة ونزيهة للخروج من الأزمة الحالية». وفي 9 سبتمبر 2021، أعلن المجلس الرئاسي الليبي انطلاق مشروع المصالحة الوطنية الشاملة، وهي المهمة الأولى التي كلف بها من قبل ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي رعته الأممالمتحدة بين أطراف النزاع الليبي في جنيف والذي انبثق عنه المجلس الرئاسي في 5 فيفري من العام نفس، إلى جانب حكومة الوحدة الوطنية. ومن المرتقب عقد المؤتمر الجامع النهائي للمصالحة خلال شهرين في مدينة ليبية. لابد من وقف التدخلات الخارجية تعقيدات الأزمة الليبية لا ترتبط بالمشهد الداخلي وحسب، بل هي مرتبطة أيضا بالتدخلات الخارجية وبتحركات القوى الدولية، فمنذ أن بدأت الأزمة والجهات الأجنبية تؤجّج الخلافات بين الفواعل الداخلية وتنفخ في جمرة الاقتتال والتوتر والعنف، وطبعا، وراء هذه التدخلات تقف مصالح الدول التي تحرّك خيوط الصراع في ليبيا. ولن نضيف جديدا بقولنا إن الحل في ليبيا مرهون بوضع حدّ لصراع النفوذ والمصالح الذي تقوده مجموعة كبيرة من الدول، تنظر إلى ليبيا على أنّها كعكة مغرية يجب الاستفادة من أكبر قطعة فيها، كما تعتبرها ساحة للتنافس ولتصفية الحسابات خاصة مع بروز سباق دولي محموم على امدادات الطاقة الليبية؛ لهذا يشكّك كثيرون في جدوى التعويل على هذه القوى لفك تعقيدات المشهد الليبي؛ لأنها منشغلة باستقطاب القوى الداخلية، وبالتموقع من أجل الحصول على مصالح خاصة دون الاهتمام بما يتكبده الليبيون. مما لاشكّ فيه، أن المبعوث الأممي الى ليبيا، عبد الله باتيلي، منح زخما للعملية السياسية في ليبيا، وهو يبذل ما في وسعه لتحريك المياه الراكدة، ورغم تحقيقه كثيرا من النتائج الهامة، تبقى طريقه مفروشة بالتحديات والعراقيل نتيجة مناكفات السياسيين وحالة التشظي التي تحول دون بلوغ توافقات حول الاطار الدستوري الذي يسمح بإجراء الانتخابات، وإعادة توحيد المؤسسات السيادية وعلى رأسها المؤسسة العسكرية. المؤكّد أن باتيلي يبذل ما في وسعه لتحقيق اختراق في المعضلة الليبية، لكن مهمّته لن تنجح دون تعاون الفرقاء السياسيين الليبيين، فالحل هو في البداية والنهاية بيد الليبيين الذين عليهم أن يقدّموا التنازلات اللازمة والدّعم الواجب لجهود التسوية السلمية بعيدا عن الارتهان للخارج الذي يسعى إلى إطالة أمد الأزمة، ومعلوم أنّ كل الاتفاقات السياسية التي جرى توقيعها بتدخل دولي عمّقت الشرخ والانقسام، وبالتالي لا تعويل على الخارج لتخليص البلاد من أزمتها، وإنما الحل يجب أن يكون ليبي المنشأ.