دعا مشاركون في ندوة وطنية نظّمت ببومرداس، إلى ضرورة رقمنة المخطوطات والوثائق والخرائط والكتب في مختلف الميادين التي ألّفها جزائريون عبر التاريخ لحمايتها من الانتحال ومنع سرقتها والتعريف بها محليا ودوليا، حيث شكل موضوع "بلاد زواوة دراسات من خلال الأرشيف والمخطوطات" موضوع نقاش احتضنته المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية بولاية بومرداس، بالتنسيق مع مخبر التاريخ المحلي والذاكرة الجماعية والمقاربات الجديدة لقسم التاريخ بجامعة البويرة، بمشاركة أساتذة باحثين ومختصين في الدراسات التاريخية والانتروبولوجية، حيث كان اللقاء فرصة لعرض أهم الأبحاث التي تناولت الحياة اليومية بكل تشعباتها وأبعادها الاجتماعية لسكان المنطقة منذ دخول الاستعمار الفرنسي للجزائر. شهدت الندوة العلمية التي نشّطها عدد من الأساتذة الباحثين عدة مداخلات قيمة وقراءات تاريخية، لعدد من الوثائق والمخطوطات التي سجلت الحياة اليومية والاجتماعية لمنطقة زواوة أو منطقة القبائل الكبرى والصغرى الممتدة إلى بجاية وبني ورتيلان بسطيف، وكل ذلك تحت هيمنة الإدارة الاستعمارية الفرنسية وسياستها العرقية المبنية على التفرقة بين مكونات المجتمع الجزائري، حيث استعانت بباحثين وعلماء اجتماع لدراسة خصوصية المنطقة وفهم تركيباتها الاجتماعية والدينية من أجل التحكم فيها، وهي النقاط التي سلط عليها الضوء الباحث الدكتور مصطفى سعداوي من جامعة البويرة، الذي قدّم مداخلة قيمة بعنوان "التحولات السوسيوسياسية في بلاد زواوة أواخر الحرب العالمية الثانية وبداية نمو شعور التحرر الوطني"، وهذا انطلاقا من التقرير السري الذي أعدّه الباحث الاجتماعي الفرنسي "روبير مونتان" لصالح مركز الأخبار والدراسات التابع للجيش الاستعماري. وقد انطلق الباحث في مداخلته من خلال ما ورد في هذه الوثيقة التاريخية التي أعدّها السوسيولوج الفرنسي روبير مونتان لفائدة إدارة الجيش الفرنسي بتاريخ 15 أفريل 1945، حول أهم التحولات الاجتماعية والسياسية لمنطقة زواوة بعد انهاء الحرب العالمية الثانية، وهي مرحلة وصفها المتدخل "بالمفصلية لأنّها تزامنت مع أحداث تاريخية هامة أبرزها انتصار الحلفاء على المانيا النازية والمحور رغم الهزيمة النكراء لفرنسا، مقابل هذا بداية ارتفاع منسوب الشعور القومي والتحرري للشعب الجزائري من خلال نشاط الحركة الوطنية وحزب الشعب بقيادة مصالي الحاج، التي طالبت فرنسا الوفاء بالتزاماتها ومنح الاستقلال الموعود". وذكر الباحث مصطفى سعداوي في هذا الخصوص "أنّ فرنسا استعانت خلال تواجدها بالجزائر بالكثير من الباحثين وعلماء الاجتماع لدراسة وفهم خصوصية المجتمع الجزائري وتركيبته الاجتماعية والدينية، حتى يسهل عليه التحكم فيه والسيطرة عليه بسياستها الجهنمية المبنية على التفرقة. وكان من أبرز الأسماء عالم الاجتماع "روبار مونتان" المختص في دراسة المجتمعات المغاربية الذي انتقل من المغرب ليتوجه إلى منطقة الزواوة أو القبائل الكبرى والصغرى من أجل دراسة ومعرفة أهم التحولات الاجتماعية التي بدأت تتشكل مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتصاعد نشاط زعماء الحركة الوطنية والحركة الاصلاحية الدينية من أئمة وشيوخ زوايا، وأيضا تنامي دور الحركة الكشفية الجزائرية". ووصف الباحث هذه المرحلة الحساسة أو الانتقالية "بمرحلة تصاعد الآمال" لدى الشعب الجزائري بعد خيبة الهزائم والقمع الوحشي الذي واجهته الثورات الشعبية، منها ثورة الشيخ الحداد والمقراني، وهي المشاهد التي لخّصها روبار مونتان في وثيقته السرية التي أشار فيها "أن المنطقة أي منطقة زواوة تشهد غزوا للحركة الوطنية وزعمائها، الذين بدأوا ينشرون الوعي الوطني التحرري والأناشيد الوطنية وفتح فروع لحزب الشعب، مع بداية تسلل العلماء وشيوخ الزوايا وفتح المدارس الحرة التي كان يمولها السكان والعائلات الثرية، منها المدرسة الخلدونية لجمعية العلماء ببجاية التي امتد نشاطاها إلى كل المنطقة، وغيرها من المؤشرات عن هذا التحول في المشهد السياسي والاجتماعي الذي بدأ يضعف فرنسا ويقوي عزيمة الشعب الجزائري في التحرر، منها تراجع الاستيطان وبداية خروج الكولون وبيع اراضيهم الفلاحية، مع تحول مواقف العائلات والعروش الكبيرة وابناء القياد بحمل أفكار إصلاحية تحريرية والانخراط في حزب أحباب البيان، وكلها عوامل أفسدت سياسة فرنسا التي كانت تسعى الى فصل منطقة القبائل عن محيطها الوطني على حد وصف الباحث". محنة المخطوطات.. قدّم الباحث والأستاذ سعيد بورنان من جامعة تيزي وزو مداخلة قيّمة أيضا وسمها بعنوان "محنة المخطوطات في منطقة زواوة خلال فترة ثورة التحرير"، وقد حاول من خلالها الغوص في مختلف الأساليب والوسائل التي مارستها فرنسا منذ دخولها الجزائر سنة 1830 لطمس معالم الشخصية الجزائرية بكل مكوناتها الدينية، اللغوية والثقافية، مشيرا إلى "أن أخطر هذه الأساليب كانت بمصادرة والتعدي على الكتاتيب والمكتبات العامة التابعة لمؤسسة الزوايا والخاصة التابعة للمشايخ والعائلات العلمية بالمنطقة، حتى يتسنى لها تشويه التاريخ وطمس كل المعالم والشواهد التي تثبت وتميز المجتمع الجزائري وخصائصه الاجتماعية والسياسية التاريخية لمرحلة ما قبل الاستعمار وطيلة التواجد العثماني". وقال الباحث في هذا الشأن إن "فرنسا الاستعمارية لم تكتف باحتلال الأرض واستغلال خيرات الشعب الجزائري، بل سعت أيضا للقضاء على الشخصية الوطنية، وكل ما له علاقة بالتاريخ، الدين، الثقافة واللغة، فكان من ضحايا هذه السياسية الدنيئة هي المخطوطات والوثائق، المؤلفات والكتب التي صودرت بعد الاستيلاء على مكتبات الزوايا العامة والمكتبات الخاصة التي كان يملكها ويسهر عليها علماء ومشايخ وعائلات علمية معروفة بمنطقة زواوة". إلى جانب هذا العرض المتميز، شهدت الندوة العلمية عدة مداخلات أخرى صبّت كلها في هذا الاتجاه المتعلق بالتراث المادي ومخطوطات منطقة زواوة، منها مداخلة الباحث محمد أرزقي فراد، الذي تطرق بعجالة لأبرز العائلات وشيوخ الزوايا الذين ساهموا في حفظ وتجميع الكثير من المخطوطات والعقود التاريخية النادرة منها عقود الشيخ مولود الحافظي، الشيخ أحمد الساحلي، عائلة أو محجوبة، مكتبة عائلة أحمد اوصالح، الشيخ المهدي بوعبدلي وأخرى متواجد بعدة مكتبات في العالم منها مكتبة فاس. وكلّها مآثر وشواهد مادية ساهمت في تسجيل الأحداث اليومية من عادات وتقاليد والنظام الاجتماعي السائد في المجتمع، ودور المساجد وكتاتيب تحفيظ القرآن واللغة العربية في الحفاظ على هوية الشعب الجزائري، وأيضا مكانة الجماعة أو "تاجماعت" التي لعبت دور المحاكم الشرعية للفصل بين الخصومات، وأبرز الأنشطة الممارسة من قبل السكان، وكلها مشاهد سجّلتها ونقلتها هذه المخطوطات التي حاولت فرنسا الاستحواذ عليها لتزييف الحقائق والدلائل التاريخية بحسب المتدخلين.