تشتعل الأزمات في منطقة الساحل الإفريقي، وتخفت على مراحل، فما إن يبدو بصيص حلّ محتمل حتى تعود الأمور أو تعاد إلى نقطة الصفر، ويمكن تفسير ما يحدث في هذا الحزام الجغرافي بالتنافس الدولي على القارة الإفريقية التي بقيت إلى بداية التسعينيات مستعمرات أوروبية في معظمها، قبل أن يحتدم التنافس عليها وفيها، بعد سقوط جدار برلين، وإعلان انهيار الاتحاد السوفييتي، عندما ظهرت الولاياتالمتحدةالأمريكية قطبا جديدا أوحدا في العالم. وبدأ اهتمام القوة العظمى الجديدة بالقارة الإفريقية لما تزخر به من ثروات تمكنها من إضافة قوة إلى قوتها. لم تعن إفريقيا كثيرا للدول من خارج أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية، خلال عقد التسعينيات، إلاّ أنّ أحداث ما يوصف ب "الرّبيع العربي"، لفتت الأنظار إلى القارة السّمراء، حيث كانت البداية بتقسيم السودان إلى دولة السودان وجمهورية جنوب السودان، ثم إشعال فتيل النزاعات القبلية في السودان في محاولة لتفتيته أكثر إلى دويلات في دارفور وغيرها، ثم إسقاط النظام السابق في ليبيا لأسباب اقتصادية أصبحت معلومة لدى العام والخاص، وليس كما روّج له المتدخلون على أنه حماية لحقوق المدنيين، ليأتي الدور على مالي التي لم يستقر فيها الوضع السياسي والأمني منذ ستينيات القرن الماضي، حيث شهدت كثيرا من التمردات والانقلابات العسكرية، ولم تكن النيجر التي تنام على مناجم اليورانيوم المصدر الأساسي لصناعة الأسلحة وتوليد الكهرباء في فرنسا، بعيدة عن هذه الأحداث، وبوركينافاسو التي حاولت على غرار مالي الخروج من السيطرة الفرنسية، فوقعت في مستنقع التمردات والإرهاب. الثّروات..نعم تتحوّل إلى نقم وعلى الصّعيد الدولي، تفسّر الأزمات المتكرّرة والمتنقّلة من دولة لأخرى في إفريقيا، بسعي القوى الكبرى والصّاعدة للسيطرة على موارد القارة السخية. ومن المسلّمات الواقعية أنّ الدول تسعى لزيادة قوّتها، وهذا يكون بالسيطرة على مصادر القوة، وأهمّها الموارد الطبيعية، وهي التي تتوفر عليها إفريقيا أكثر من غيرها، فكل دولة فيها تنام على ثورات هائلة سواء النفط والغاز، أو المعادن النفيسة والأحجار الكريمة، أو اليورانيوم والفوسفاط والموارد النادرة وقائمتها طويلة، إلى جانب احتوائها على أهم المضايق في العالم التي تربط شرق الكرة الأرضية بغربها: مضيق جبل طارق، وباب المندب وقناة السويس. ورغم أنّ امتلاك ثروات طبيعية ومضايق يعتبر أحد مقوّمات الدولة وقوّة سياستها الخارجية، إلاّ أنّ الصّراعات التي تعيشها الدول المالكة للموارد الطبيعية، أو التي تسبّبها لها قوى خارجية، جعلت من النعمة نقمة، وبدل أن تكون مصدر قوة، تحولت إلى نقطة ضعف تسيطر عليها القوى الكبرى في نظام دولي غير عادل. تشير تقارير أممية إلى احتمال أن تتسبّب أحداث السودان في إشعال المنطقة الممتدّة بين تشادوأثيوبيا وصولا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، بسبب الترابط القبلي وتوفر الظروف لقيام تمردات وحركات متمرّدة جديدة. والمراد من هذا السرد، هو أن ما جعل القوة الاستعمارية التقليدية تحاول إحكام قبضتها على مستعمراتها السابقة، ونعني الثروات والموارد الطبيعية، هو ما لفت أنظار قوى من خارج أوروبا إلى القارة الإفريقية، للظفر بحصة من ثرواتها. وبالعودة إلى الأحداث الجارية في دول الساحل، فهي تدخل في إطار ما يسمّى الأزمات الممتدة، والأزمة الممتدة هي التي تعيش فترة طويلة دون أن يوجد لها حل، وتتحوّل من طبيعتها التي اندلعت عليها إلى أشكال متعدّدة، تكون في الأصل اقتصادية، وبسبب عدم ايجاد حل قد تتحول إلى سياسية أمنية. من التّقسيم إلى التّفتيت النّزاع في السودان ليس وليد أحداث ما سمي ب "الربيع العربي"، الذي تسبّب في تقسيمه إلى دولتين بعد سنوات من التناحر، بل يمتد إلى خمسينيات القرن الماضي، لكن أبرز محطاته حربان أهليتان عصفتا به، الأولى العام 1962، بين الجيش وحركة "أنانيا "التي كانت تطالب بحكم ذاتي للجنوب، دامت عشر سنوات وانتهت بتوقيع اتفاقية أديس أبابا بين حكومة الخرطوم وقادة التمرد في الجنوب، والتي تضمّنت مشروع القانون الأساسي لتنظيم حكم ذاتي إقليمي في مديريات السودان الجنوبية. والثانية اندلعت سنة 1983 بسبب تعميم تطبيق الشريعة الإسلامية، استمرت نحو عقدين، وانتهت بتوقيع اتفاق إطار مع الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان. وبعد الحربين عاش السودان كثيرا من الأحداث الدامية انتهت بتقسيمه إلى دولتين، دولة السودان، ودولة جنوب السودان، في استفتاء نظم في 2011. وفي 2018، شهد السودان مظاهرات عارمة مطالبة بإسقاط الرئيس عمر البشير، انتهت بتحقيق المطلب في 2019، وكانت هذه الإطاحة تمهيدا لدخول السودان في حالة عدم استقرار أمني وسياسي، ما زال ساريا إلى اليوم، وسط مخاوف من امتداده إلى دول الجوار الشرقي والغربي. بين ليبيا والسودان..سيناريو يتكرّر تتوجّس الأممالمتحدة خيفة من تكرار سيناريو ليبيا في السودان، حيث أبدى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش تخوفه من سقوط السودان إلى الهاوية، وقال في وقت سابق: "يجب سحب السودان بعيدًا عن حافة الهاوية". وفي هذا الصدد، نشرت مجلة "شالنج" الفرنسية، قبل أيام، تقريرا بحثيا مفاده أن النزاع في السودان قد يحذو حذو النزاع في ليبيا، بسبب التشابه الكبير بين الأحداث في البلدين، وقال التقرير إنّ ما يحدث في السودان ليس حربا أهلية، وإنما هو صراع بحت على السلطة، تتّخذ فيه أطراف النزاع المدنيين كرهائن لتحقيق هدف الوصول إلى السلطة، ووصف البحث الصراع بأنه "ليس عرقيا ولا دينيا ولا إقليميا، بل صراعا حتى الموت بين أمراء حرب". ويُتخوّف أيضا من أن تؤثّر أحداث السودان على الوضع في ليبيا، بسبب القرب الجغرافي، ووجود مقاتلين سودانيين مرتزقة، قدموا إلى ليبيا لمساندة هذا الطرف أو ذاك خلال الأزمة التي اندلعت العام 2011. وفي السياق، أشارت تقارير سابقة إلى أنّ ميليشيا الجنجويد التي شكّلها "حميدتي" خلال أزمة دارفور، قد شاركت في الأحداث في ليبيا. وخلال جولته الإفريقية، زار المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس بعثة الدعم في ليبيا، عبد الله بايتلي، السودان بشأن الاتفاق على ترحيل المرتزقة، مع ضمان أن لا يحملوا أي سلاح معهم، وأكّد رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، موافقة بلاده على مقترح باتيلي. لكن الأحداث الجارية تهدّد تطبيق الاتفاق، أو على الأقل تأجيله، خاصة وأن الصراع، وحسب تصريح غوتيرش أعلاه، ومسارعة الدول الغربية إلى إجلاء رعاياها من السودان على وجه السرعة، يشيران إلى احتمال بقاء النزاع مفتوحا زمنيا، ولا أحد يستطيع التكهن بمآلاته. يحدث هذا في وقت يشكّل ملف ترحيل المقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية، والمرتزقة حجر عثرة لإنهاء النزاع في ليبيا، وتنظيم انتخابات رئاسية قبل نهاية السنة، خاصة وأن بعض المدن الليبية شهدت احتجاجات على خلفية انتشار فيديو لمرتزقة أفارقة يعذبون شبابا ليبيين، ما يهدد باندلاع مواجهات بين السكان المدنيين وهؤلاء المرتزقة، وبالتالي، احتمال عودة الاضطراب الأمني، سيما أنه لم يتم لحد الآن إنشاء جيش ليبي موحّد، قادر على بسط الأمن في ربوع البلاد، في ظل استمرار انتشار الميليشيات. وفي هذا الإطار، قال رئيس هيئة التنظيم والإدارة العسكرية بالجنوب الليبي، عميد عبد السلام أبوقيلة، إن "الاشتباكات الجارية في السودان سيكون لها تأثير على الوضع في ليبيا ما لم تُتّخذ خطوات سريعة وجادة لتجنب تداعياتها، موجها نداء إلى رئاسة الأركان الليبية شرقا وغربا لسرعة تفادي الموقف الآن". وشدّد المسؤول العسكري الليبي على ضرورة إغلاق الحدود وتكليف قوات عسكرية ضاربة بحمايتها ومنع أي تسلل، ووضع طائرات للاستطلاع بمطار الكفرة، مؤكّدا أنّ الجنوب الشرقي سيكون الأكثر تأثرا إذا امتدّت الاشتباكات إلى ليبيا، وفق تصريحات لوسائل إعلام محلية. بينما دعت فعاليات قبلية ليبية إلى تأمين الحدود بين ليبيا والسودان تحسّبا لأيّة تداعيات محتملة، إذ أكّد سلطان التبو في ليبيا وتشاد والسودان، أحمد الأول، ضرورة تأمين الحدود بين ليبيا والسودان بشكل عاجل كون الأحداث هناك ستكون لها تأثيرات وتداعيات سلبية على الجنوب الليبي وعلى باقي مناطق ليبيا. تشاد على صفيح ساخن تربط السودان وتشاد بامتدادات قبلية، وتعاني هذه الأخيرة أزمة سياسية منذ تنصيب حكومة وحدة وطنية لم تلق إجماعا وطنيا، بسبب رفض بعض الجماعات المسلحة والمنظمات المجتمع المدني لها، ونجم عن الأزمة السياسية عجز عن توفير أساسيات العيش للمواطنين في تشاد، ما دفعهم إلى التظاهر والاحتجاج وأدى ذلك إلى صدامات بينهم وبين قوات الأمن. وبسبب الأحداث في السودان، يخشى متابعون للشأن في تشاد أن تنتقل عدوى السودان إليها، خاصة وأن كل الظروف السياسية والاجتماعية مهيأة للانفجار. وما يزيد الأوضاع تأزّما، هو فرار آلاف اللاجئين من السودان إلى تشاد، حيث قالت الأممالمتحدة، إن ما يصل إلى 20 ألف شخص فروا من العنف المتصاعد في السودان بحثا عن الأمان في تشاد أين يفتقر كثير منهم إلى الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والمأوى، علما أنّ هذه الأخيرة تعيش أزمة متعدّدة الأوجه، وقد يفاقم تواجد اللاجئين معاناة المواطنين التشاديين ما لم تسارع المنظمات الدولية إلى توفير المساعدات لهم. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ينذر استمرار الأوضاع على حالها، مع وجود أزمات في دول الجوار الأخرى، بميلاد حركات تمرد جديدة تتخذ من تدهور الأوضاع المعيشية ذريعة لنشاطها. أزمة في أفق شرق إفريقيا قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في السودان، كان شرق إفريقيا من إثيوبيا إلى مصر مرورا بالسودان يعيش على وقع الصراع على مياه النيل. فإثيوبيا قرّرت بناء سد عظيم "سد النهضة"، الذي ترى القاهرةوالخرطوم (دولتا المصب) "أنه يرهن أمنهما المائي. وقد تكون مصر أكبر المتضررين، فالصراعات والنزاعات المستترة في السودان مع وجود مخطّطات تفتيت ستجعله ضعيفا بما يسهل السيطرة عليه، وهو الحليف الذي تعتمد عليه مصر في صراعها المائي مع إثيوبيا، وهذا يعني التحكم في قسم آخر من مياه النيل، وبالتالي تهديد الأمن القومي لمصر. يضاف إلى ذلك أزمة اللاجئين التي قد تواجهها دولة مصر في ظل التوافد الكبير للفارين من الحرب في السودان إلى الحدود المصرية، ويبلغ عددهم، حسب المنظمة الأممية للاجئين، خمسة ملايين سوداني بفعل اتفاقية حرية التنقل الموقّعة بين البلدين، وما يحمله ذلك من أعباء تضاف إلى الحمل المصري، خاصة وأنّ النزاع في السودان لا يبدو أنه سينتهي قريبا. بالنتيجة، يمكن تفسير العدوى المنتشرة من السودان إلى دول الجوار بتأثير الدومينو، الذي يعني أن نشوب أحداث ما في دولة ما قد يؤدّي إلى تكرار السيناريو نفسه في دول الجوار حال توفر الظروف المناسبة. وبالبحث المتزايد عن القوة في أقاليم أخرى في ظلّ التنافس الدولي المحتدم، وفي ظل نظام يتحوّل من أحادية قطبية إلى التعددية.