لم أتعلم في حياتي من شخص واحد كما تعلمت من وليد دقة. أثناء إعدادي لأطروحة عن تجربة النطف المحررة، كان الزملاء والأساتذة يشيرون عليّ بمراجع نظرية كثيرة عن السجن كمؤسسة للموت الاجتماعي، مؤسسة تضبط الوقت والمكان والجسد، لكنني كنت دائمًا ما أشعر أن لا جديد في ذلك جميعه، فقد قرأت وليد دقة. لم يكن فهم دقة للسجن، مكانًا وزمنًا، تدريبًا نظريًا، ولكنه كان سؤالًا عن الذات قبل كل شيء، ذاته هو. هذه الذات التي ستتدفق من حيز السجن الضيق إلى أفق الجماعة الوطنية، ومن الأمتار القليلة داخل الزنزانة، إلى الوطن بمعناه المطلق. في قصة وليد، تبدو الرياضيات مهنة السجان، له الحسابات ووحدات القياس، أما وليد وسناء وميلاد، فتبدو المسافة بالنسبة لهم مجرد افتراض يمكن دحضه وكلما قرأت وليد، كنت أفهم كم يبدو السجن نظامًا معقدًا من السيطرة، لكنني بشكل متناقض، كنت أفهم أيضًا أنه باهت وضئيل أمام قدرة هذه الذات الفلسطينية على التمدد فوق الحدود والحواجز. في مطلع العام الماضي، وأثناء مقابلة أجريتها في شمال الضفة الغربية، شاهدت مع عائلة أسير فيلمًا قصيرًا عن تجربة إنجاب طفلتهم، حريّة، من خلال النطف المهربة. اختار معدو الفيلم بذكاء أن يضعوا أغنية فيروز "يا حريّة" في الخلفية. لفترة طويلة، لم أستطع سماع الأغنية دون أن أتذكر حريّة، الطفلة التي أصبح عمرها الآن 9 سنوات. في مقابلة قديمة، تقول سناء سلامة، الناشطة الفلسطينية وزوجة وليد، إن أغنية للشيخ إمام هي أغنيتهما المفضلة. تخيلتها من اللحظة الأولى "البحر بيضحك ليه". من يومها، وكلما سمعت "بيني وبينك سور ورا سور" أتذكر وليد وسناء. أشعر لوهلة أن الأغنية مكتوبة من أجلهما وعنهما. لم يكن وليد ماردًا ولا عصفورًا، كما تقترح الأغنية، لكنه استطاع مع سناء وابنتهما ميلاد المولودة من نطفة مهربة، شأنها شأن عديد من الأسرى الفلسطينيين، أن يعيدوا تشكيل المسافة، أو بوصف محمود درويش، أن يسمحوا للمسافة بالانحسار. في الصور المعدلة عبر فوتوشوب، التي تجمع وليد وسناء وميلاد في إجازة ما، أمام مشهد طبيعي، وفي رسائل وليد لميلاد، وفي قصائده ونصوصه عنها، تبدو الرياضيات مهنة السجان، له الحسابات ووحدات القياس، أما وليد وسناء وميلاد، فتبدو المسافة بالنسبة لهم مجرد افتراض يمكن دحضه، ادعاء يتم ترسيمه بالدبابات والسياج والقوانين، لكن الحب والقصائد والأغاني واللغة قادرة على تقويضه، إعادة تشكيله، طيّه كما تُطوى الرسائل المهربة من داخل السجن. تعلمت من وليد ما لم أتعلمه من غيره. لم أتعلم عن السجن فقط، ولكن عن الحياة نفسها، عن الحرية، وعن القدرة الإعجازية على مساجلة السفاح أخلاقيًا. وطالما أذهلتني قدرة وليد، بعد حوالي أربعة عقود من السجن، أن يحاول أن يشرح للقاتل في مرافعاته، بتروٍ وهدوء، معنى الحياة والحرية، وأن يخبر القاضي بالطريقة نفسها لماذا يتفوق عليه أخلاقيًا. في ملامح وليد ترى صورة عن فلسطين، ترى المعاناة واضحة لا تنكرها التجاعيد والأمراض، لكنك ترى أيضًا صورة عن الأمل، عن التطلع إلى زمن مختلف، زمن عاديّ، لا نحتاج فيه أن نكون استثنائيين لننجب أطفالًا، ونكتب قصائد حب. لم يكن فهم دقة للسجن تدريبًا نظريًا، ولكنه كان سؤالًا عن الذات قبل كل شيء، الذات التي ستتدفق من حيز السجن الضيق إلى أفق الجماعة الوطنية، ومن الأمتار القليلة إلى الوطن بمعناه المطلق. عندما يقترح وليد على ميلاد أن يذهبا في رحلة إلى البحر، تجيب بأنه لا باب للسجن. لكن أسوار السجن التي لا باب فيها، شأنهم شأن المسافة، طالما كانت أقل من أن تحيل بين وليد والخارج، بين وليد وفلسطين؛ جماعةً وقضيةً. وربما تكون أقل شأنًا من أن تمنعه من أخذ ميلاد يومًا إلى البحر. وقتها سيصبح للأغاني معنى عاديًا، أقل ثقلًا وغموضًا. وفي هذه المرة، عندما يغني الشيخ إمام "البحر بيضحك ليه؟"، سنكون قد عرفنا الإجابة.