تطوير الصناعة والرفع من الصادرات والتحرّر من قبضة المحروقات نموذج اقتصادي جديد قوامه الفك التدريجي للتبعية البترولية تعمل الجزائر الجديدة وفق استراتيجية ورؤية رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، على تطوير قدراتها الاقتصادية وتنمية استغلال المقدرات الطبيعية، وتعزيز مستوى شراكاتها الكبرى، فضلا عن رفع صادراتها ودعم قطاعات الإنتاج المحلي، مع جذب الاستثمارات والمصادر المالية، من خلال إصلاحات قانونية عززت الترسانة التنظيمية في البلاد، فاتحة آفاقا واسعة نحو الانفتاح في حقل الاستثمار، خاصة في القطاعات الحيوية، وهو ما تكرس عمليا من خلال الوكالة الوطنية للاستثمار عبر شباكها الموحد، ودينامية واستراتيجية عمله التي نجحت في استقطاب أزيد من ألفي مشروع اقتصادي، منها 700 في القطاع الصناعي، بكتلة مالية تجاوزت قيمتها 8 ملايير دولار، كما تحافظ الجزائر على المديونية المنعدمة، ما يدعم استقلاليتها الاقتصادية والسياسية عن الضغوط الدولية والاستنزاف المالي. يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف، البروفيسور فارس هباش، ل «الشعب»، إن الجزائر منذ تولي السيد عبد المجيد تبون رئاسة الجمهورية، اتجهت نحو نموذج اقتصادي جديد، قوامه الفك التدريجي للتبعية البترولية في ظل حالات عدم الاستقرار التي عرفها العالم جراء عديد العوامل الجيوسياسية والصحية، مما أكد القناعة بضرورة بناء نموذج اقتصادي جديد صلب ومتين، مبني على أساس تنوع مصادر الدخل من جهة، وتنوع الصادرات خارج المحروقات من جهة أخرى. ورغم الظروف الصعبة التي عاشها العالم نهاية سنة 2019 وبداية سنة 2020، جراء تفشي جائحة كورونا، ودخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود غير مسبوقة انعكست سلبا على جميع اقتصاديات العالم بدرجات متفاوتة، إلا أن الاقتصاد الوطني الجزائري - حسب هباش ظل صامدا نتيجة السياسة الرشيدة القائمة على أساس ترشيد النفقات وضبط عمليات الاستيراد التي كللت بتخفيض قياسي لفاتورة الواردات، وصلت حدود 30 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق مكّن الجزائر من الصمود، في ظل تمكنها من ضمان أمنها الغذائي بصفة خاصة، في حين عانت عديد الدول من اضطرابات مشهودة. وقال هباش، إنه رغم هذه التطورات العالمية التي غيرت من عديد المؤشرات والموازين الدولية، وعصفت بعديد الاقتصاديات واضطرتها إلى الانطواء تحت مظلة اللجوء إلى المديونية، والوقوع تحت رحمة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والشروط المجحفة التي تطلبها هذه المؤسسات المالية الدولية، إلا أن الجزائر تمكنت في ظل السياسة الرشيدة للسيد رئيس الجمهورية من الحفاظ على مستوى مديونية منعدم، نتيجة سياسة ترشيد النفقات وضبط عمليات الاستيراد من جهة، وإيجاد بدائل تمويلية داخلية من جهة أخرى، مما انعكس إيجابا على عديد المؤشرات الاقتصادية الكلية، حيث أشارت تقارير البنك الدولي بأن الاقتصاد الجزائري سيعرف نسبة نمو تقدر ب2,3% سنة 2023، مع انخفاض تدريجي لمعدل التضخم نتيجة تحسن قيمة العملة الوطنية، وتراجع أسعار السلع المستوردة وزيادة نسبة تغطية المنتجات الوطنية للاحتياجات المحلية نسبة إلى السلع المستوردة، خاصة في ظل أزمة التضخم الجامح التي تعرفها معظم دول العالم. يعتبر الاقتصاد الجزائري، من قلائل الاقتصاديات الناشئة التي حظيت بهذا التوقع من قبل أكبر هيئة مالية عالمية، مما سينعكس إيجابا على جاذبية الاقتصاد الوطني وعلى معدل النمو الذي من المتوقع أن يصل إلى 5% نهاية سنة 2023، بعدما وصل حدود 4,2% نهاية سنة 2022 وهي كلها أرقام تاريخية استثنائية غير مسبوقة، وهو ما يشكل بيئة وأرضية خصبة لتجسيد التوجه الاقتصادي الجديد القائم على أساس تنويع النسيج الصناعي والزراعي والخدماتي والدخول إلى عالم الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية واقتصاد المعرفة وكذا الطاقات المتجددة. على هذا الأساس، أطلقت الجزائر ورشات كبرى وإصلاحات هيكلية في معظم القطاعات، على غرار الصناعة والزراعة وشبكات النقل والسياحة.. وهذا كله أضاف يقول يندرج في سياق ترقية المنتج الوطني والرفع من مستوى تنافسيته لسد الاحتياجات الوطنية كمرحلة أولى، ثم التمهيد للدخول إلى الأسواق الأجنبية كمرحلة ثانية، وهو ما تجسد فعلا على أرض الواقع، من خلال تمكن الجزائر من ضمان النسبة الأعظم من أمنها الغذائي في ظل حالات ارتفاع الأسعار العالمية غير المسبوقة من جهة، وكذا ندرة بعض المواد في الأسواق العالمية من جهة أخرى. على صعيد آخر، عرفت الصادرات الجزائرية خارج المحروقات نقلة كمية ونوعية تاريخية، حيث وصلت الصادرات خارج المحروقات نهاية سنة 2021 حدود 5 ملايير دولار، لتنتقل إلى 7 ملايير دولار نهاية سنة 2022، على أن تناهز 13 مليار دولار نهاية السنة الجارية، وهي أرقام ونسب لم يعرفها الاقتصاد الوطني منذ فجر الاستقلال. إصلاحات هيكلية للاقتصاد الوطني هذه الأرقام مرشحة للتطور في قادم السنوات، في ظل الإصلاحات الهيكلية التي يعرفها الاقتصاد الوطني، خاصة في ظل صدور ودراسة ومراجعة ترسانة واسعة من القوانين التي تشجع على الاستثمار وتقضي على العديد من الإجراءات والسياسات البيروقراطية التي سادت في مراحل سابقة، وكانت السبب الرئيس في وأد عديد الاستثمارات في مهدها. لعل أبرز هذه القوانين، قانون الاستثمار الجديد الذي عرف عديد الدراسات والمراجعات والتحفظات في كثير من دورات مجلس الوزراء، تحت إشراف ومتابعة شخصية من قبل السيد رئيس الجمهورية، إلى أن عرف نسخته النهائية، وصدرت النصوص التطبيقية، شهر أكتوبر العام الماضي، ليكون أحسن قانون مستقطب للاستثمار جراء عديد الامتيازات التي يمنحها للمستثمرين المحليين والأجانب على السواء، ما يساهم بشكل لافت في استقطاب عديد الاستثمارات التي من شأنها أن تخلق تنوعا في النسيج الاقتصادي في إطار الاندماج في مقاربة النموذج الاقتصادي الجديد. وقد جاءت الأرقام والإحصائيات، بعد مرور أشهر قليلة، مؤكدة لهذا المنحنى الإيجابي، حيث وصلت قيمة المشاريع المصرح بها من قبل الوكالة الوطنية لترقية الاستثمار إلى غاية 15 جوان 2023، حدود 8 ملايير دولار ووصل عدد المشاريع 2318 مشروع جديد، وهو ما من شأنه أن يخلق حوالي 65 ألف منصب شغل جديد، في حين وصل عدد المشاريع الأجنبية المباشرة وغير المباشرة 57 مشروعا بقيمة استثمارية تقدر ب200 مليار سنتيم للمشروع الواحد. من المؤكد أن فعالية وجدوى هذا القانون الجديد ستعرف تصاعدا مستمرا بالموازاة مع اعتماد وصدور عديد القوانين والتشريعات الجديدة، على غرار قانون النقد والقرض الذي يعتبر قانونا مهما في تطوير المنظومة المالية والمصرفية. كما ستعمل عديد القوانين الأخرى على تطوير الأرضية الاستثمارية والإدارية في الجزائر من أجل اقتصاد قوي ومستدام، مثل قانون الصفقات العمومية، قانون البلدية والولاية، العقار الصناعي، قانون المقاولاتي الجديد وقانون الشراكة بين القطاع العام والخاص. وحسب المتحدث، فإن هذه الإصلاحات، وفي ظرف زمني وجيز، جاءت بنتائج جدّ إيجابية. علما أن إصلاحات هيكلية تتطلب مجالا زمنيا على الأمد المتوسط على الأقل خمس سنوات، إذ انتقلت معظم المؤشرات الاقتصادية الكلية نقلة نوعية، خاصة ونحن اليوم نتكلم عن ناتج داخلي خام يفوق 170 مليار دولار، وهو مرشح لبلوغ عتبة 200 مليار دولار نهاية السنة الجارية أو مع مطلع السنة القادمة، مع معدل نمو مرتقب في حدود 5% وهي أرقام جد إيجابية وغير مسبوقة تمهد لاقتصاد نوعي جديد من جهة، وتمهد إلى دخول الجزائر إلى منظمة «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» من جهة أخرى، ولو كعضو مراقب في مرحلة أولى، مما يعزز من مكانة الجزائر أكثر على الصعيدين الإقليمي والدولي، خاصة في ظل حالة الاستقطاب التي يعرفها العالم اليوم والاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب.