يرى الدكتور محي الدين عميمور، وزير الثقافة والإعلام الأسبق، أن وضعية الصحافة العمومية اليوم هي وضعية عددية وليست تعددية.. وحمل، في حوار خص به جريدة “الشعب"، الإعلام مسؤولية العثرات التي كبحت مسيرة الجزائر لأنه لم يقم بدوره خصوصا في بداية الثمانينات حينما تصاعدت الآمال في بزوغ فجر إعلامي جديد.. مؤكدا أنه ضاعت من إعلامنا فرصة تاريخية ثمينة كانت ستمكنه من أن يُقدم للعالم صورة متميزة للتنمية الوطنية، بجانب صورة لأبرز تجارب حرية تعبير عرفها بلد نامٍ..كما تأسف لكون قطاع الإعلام لا يتوفر لحد اليوم على هيكل تنظيمي يجمع شمل الصحافيين.. واجب الالتزام بمصلحة الدولة العليا وضمان حق المواطن في إعلام حر نزيه يفرق بين الخبر والرأي ويقوم بمراقبة أداء السلطات العمومية والمؤسسات الوطنية بمختلف اختصاصاتها ويحترم خصوصية الأفراد وكرامة المواطن . بداية دكتور، كيف ترون المشهد الإعلامي في الجزائر حاليا في خضم التحولات المتلاحقة التي تلقي بظلالها على المحيط الإقليمي والجهوي؟ عندما عينت وزيرا لمدة أشهر معدودة في 2000 جاءتني رسالة تهنئة من الراحل عبد الحميد مهري ذكرني فيها بأن “الإعلام ظل لعود"، وهي إشارة لحكمة قديمة تقول بأنه لا يستقيم الظل والعود أعوج. وأعتقد أن هذا جواب واضح على أي تساؤل اليوم حول المشهد الإعلامي في الجزائر، حيث تصدر أكثر من 120 صحيفة تصب فيها أموال هائلة قد لا يستفيد منها مجموع الصحفيين، ويقرأها أقل من ثلاثة ملايين قارئ في بلد يُعدّ القادرون على القراءة فيه بنحو 15 مليونا أو يزيد. وستجد أن وراء بعض الخطوط الرئيسة لهذه الصحف “فاكسات" و«وشوشات" عناصر في مراكز نفوذ معينة، تحاول أن تبرر لمسؤوليها أن الأموال التي يستفيدون منها تخدم مصلحة عامة، أو تحاول أن تؤثر على الرأي العام لأهداف ترتئيها. . في ضوء تجربتكم الطويلة، هل ترون من تحوّل في دور الصحافة المكتوبة العمومية (الإعلام العمومي) إذا ما تحدثنا عن فترة ما قبل التعددية وما بعدها؟ كان من أهم الهجومات التي تعرضت لها خلال تجربتي الوزارية أنني أعلنت إرادتي في تدعيم الصحافة العمومية، والتي أراها، إذا أحسنت القيام بدورها، ضمانا فاعلا لحق الشعب في الإعلام النزيه وفي مراقبة مسيرة التنمية وتصرفات الإدارة، يتكامل مع أداء الصحف الخاصة النزيهة ويحول دون أي انحرافاتٍ، يسهل من حدوثها الانفراد بالساحة الإعلامية، في غياب قانون إعلامي مبني على احترام قاعدة الحقوق والواجبات. ويؤسفني أن أقول أن وضعية الصحافة العمومية اليوم بشكل خاص هي وضعية عددية لا تعددية، وحجم كبير من العثرات التي أصابت الجزائر كانت لأن الإعلام، خصوصا ابتداء من نهاية الثمانينيات، لم يقم بدوره المطلوب والمأمول، وذلك بعد طفرة متميزة تصاعدت فيها آمال كثيرة بفجر إعلامي جديد، ابتلعتها أطماع أكثر اختلطت فيها كل عناصر النفوذ والتأثير، وهكذا ضاعت من إعلامنا فرصة تاريخية ثمينة كانت ستمكنه من أن يُقدم للعالم صورة متميزة للتنمية الوطنية، بجانب صورة لأبرز تجارب حرية للتعبير عرفها بلد نامٍ، وذلك بعد أن ضاعت منه، أو سُلبت، فرصة المساهمة العملية في بناء المجتمع الذي يسترجع حيويته بعد عشرية دموية مريرة، رغم أن النشاط الإعلامي كان، في الخمسينيات صدًى هائلا لنضال شعب ثائر، وكان في الستينيات والسبعينيات ومعظم سنوات الثمانينيات، قوة سياسية فاعلة جسدت الجهد الوطني وجندت المجموع الوطني لتجعل من الجزائر ما كانته آنذاك. . هل نقرأ في ذلك تطورا أملته التحولات العميقة أم تراجعا عن نهج تجاوزه الزمن؟ أعتقد أن ما حدث كان هروبا إلى الأمام من جهة، ودخولا لعقلية “الشكارة" في مجال حيوي يؤدي كل خلل في أدائه إلى اختلال في مسيرة الأمة كلها. . كيف يتأتى للصحافة المكتوبة العمومية أن توفق في تقديم خدمة عمومية، تقوم على تكريس أسس الدولة الحديثة من خلال تجسيد حق المواطن في الإعلام وحرية التعبير، دون أن تسقط في فخ الخلط بين الدولة كمفهوم واسع يشمل الجميع وبين الحكومة كسلطة تنفيذية؟ انتهى العهد الذي يمكن أن تسير فيه الصحيفة من موظف إداري أيا كان مستواه، وجاء الوقت الذي يجب أن يشارك الصحفيون أنفسهم في ملكية الصحيفة بأقل من 49 في المائة، مما يعطي ممثليهم المنتخبين حق المساهمة في تسيير الصحيفة. ومن جهة أخرى، لا بد من وجود تنظيم نقابي عام يضم كل الصحفيين، ولا يقتصر على عدد محدود يمثل اتجاهات معينة مما يجعلنا البلد الوحيد الذي يفتقد اتحادا صحفيا يمثل إعلامنا في المحافل الدولية. وهنا يتحوّل دور وزير الإعلام من مسير إداري إلى قائد لأوركسترا، قوته تكمن أساسا في ثقة اللاعبين بقدراته وبرصيده السياسي والفكري. لكن الوزير لا يمكن أن يقوم بدوره كاملا إلا إذا كان شريكا في اتخاذ القرار السياسي لا مجرد منفذ لتعليمات مراكز نفوذ معينة، مالية كانت أم إدارية. وأنا أعرف أن كثيرين يتصورون أن حرية الإعلام تكمن في إلغاء وزارة الإعلام، وهؤلاء يجهلون أو يتجاهلون أن من يدفعون إلى هذا الاختيار يمثلون مراكز نفوذ تريد أن تتحكم في توجيه الإعلام من وراء ستار ولمصالح معينة ليست بالضرورة مصلحة المواطن أو الأمة. ولعل مهمة وزارة الإعلام الإستراتيجية هي العمل على إنهاء الضرورة التي تفرض وجود الوزارة نفسها، أي عندما نصل إلى المرحلة التي تتحقق فيها استقلالية كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويتم إقرار وضعية إعلامية مبنية على قاعدة احترام الحقوق والواجبات، سواء تعلق الأمر بالمواطن أو بالدولة، ويمكن فيها التخلص من مزايدة مؤسسات الإشهار والتدخلات المستترة لرجال أي من السلطات. . تواجه الصحافة المكتوبة العمومية وضعا صعبا مرده إلى واجب الالتزام بخط افتتاحي لا يروق بالضرورة لصناع الإشهار على اختلاف أهدافهم وتوجهاتهم، وفي الآن ذاته الاستجابة للأعباء المالية المتزايدة. أليس من حق هذا القطاع أن يستفيد من دعم خاص يتيح له الحفاظ على الخدمة العمومية المنوطة به؟ الخط الافتتاحي هو الالتزام بمصلحة الدولة العليا وبضمان حق المواطن في إعلام حر نزيه يفرق بين الخبر والرأي، ويقوم بمراقبة أداء السلطات العمومية والمؤسسات الوطنية بمختلف اختصاصاتها، ويحترم خصوصية الأفراد وكرامة المواطن. ودور وزارة الإعلام هو أن تضمن للصحافة العمومية المقدرة على أداء هذه المهمة، دعما ماليا وسياسيا ووظيفيا، لتكون المؤسسة الإعلامية تجسيدا لإرادة المجتمع في حماية مسيرته، وتعبيرا عن سلطته في ممارسة الرقابة على كل مظاهر النشاط الوطني، وصورة لتفاعل أمة مع قيادتها ولتجاوب القيادة مع مطامح الجماهير. وإذا كان هذا الأداء لا يروق صناع الإشهار فهذا يعني أن هذا الإشهار وجود مشبوه يتناقض مع المصلحة العليا للوطن وللمواطن. . إذا جزمنا بأن الجانب المالي عامل مهم فعلا في دعم الصحافة المكتوبة العمومية، ما هي العوامل الأخرى التي تجعلها في مستوى المنافسة في ظل ارتفاع عدد العناوين الإعلامية من جهة، وتطور مطالب القراء من جهة أخرى؟ التكوين الجيد للصحفي وتمكينه دوريا من تحسين قدراته، وتشجيع الصحفي المنتج والمبدع الذي لا يعتمد على التقارير الأمنية أو المقالات الإعلانية مدفوعة الأجر من بعض المؤسسات، أو السطو على الشبكة العنكبوتية التي ينقل منها بدون الإشارة إلى المصدر، وحماية الصحفي من كل الضغوط. وهكذا يكون الإعلام مؤسسة قادرة على حماية المجتمع من أهم الآفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، حيث أن السلطة التنفيذية قد تصبح رهينة الأخطبوط البيروقراطي الذي يجعلها شبه آلة في يد فئة معينة تتميز بالشراهة والجشع، ولا تتردد في أن تستأصل كل ما يواجه أطماعها وكل من يتعرض لمخططاتها، وقد تتحول السلطة التشريعية إلى مجرد حلية ديموقراطية أحسن ما فيها أنها تعطي الفرصة لتنفيس الشارع ومن يمثلونه عن مخزون البخار المتراكم حتى لا يحدث الانفجار، وبغض النظر عن الأساليب المنحرفة التي يتم بها اختيار المجالس النيابية في بعض البلدان النامية. أما السلطة القضائية فقد تعيش تحت حد مقصلة سن التقاعد أو قرارات الإبعاد الإداري، ولا تملك، غالبا، المقدرة على الإفلات من نتائج الوضعية السلبية التي تعيشها السلطتان السابقتان، خصوصا وكثيرون من رجال القانون، وتفاديا لاستبعاد قد تتنوع وسائله، يضعون خبراتهم تحت تصرف القيادات العليا، ويتولون عملية “خياطة" القوانين التي تمكن تلك القيادات من إحكام سيطرتها على البلاد والعباد. عشية إطلاق السلطات العمومية لجملة من النصوص المنظمة لعملية فتح قطاع السمعي البصري، ألا ترون أننا نعيش الإرهاصات ذاتها التي سبقت فتح المجال للتعددية الإعلامية وإقرار حرية التعبير في التسعينيات؟ ما زلت أقول بأن هناك فرقا هائلا بين التعددية والعددية، وأي نصوص منظمة للنشاط الإعلامي يجب أن تكون نتيجة دراسة علمية يقوم بها مجموع الإعلاميين، يتم تبنيها تشريعيا من البرلمان، وتستفيد من حماية قانونية تتولاها السلطة القضائية. . ما هو السبيل في رأيكم إلى إحداث حركية نشيطة داخل القطاع العمومي تجعله قادرا على رفع تحديات التطور التكنولوجي والإشهار والتوزيع والمنافسة؟ لا يمكن لرجل الإعلام أن يؤدي دوره إذا لم يكن شريكا في اتخاذ القرار السياسي كما سبق أن قلت، والإعلامي الجيد قادر على رفع كل التحديات، ونجاح الصحفي الجزائري في المواقع الإعلامية الأجنبية دليل على هذا، وفشل صحافيين في العديد من مواقع الأداء الإعلامي، العام والخاص، يؤكد هذا. لكن يجب ألا ننسى أن الإعلام مفهوم واسع يضم كل وسائل التأثير في الرأي العام، ولهذا رفضت دائما فصل الإعلام عن الثقافة، لأن الثقافة جزء من العمل الإعلامي، والإعلام أداء تشكل الثقافة أهم أسسه، وهذه أهم أدوات التوعية الجماهيرية. وطبقا لهذا فإن استراتيجية الإعلام ليست احتكارا لوزارة، مهمتها الرئيسة هي التكفل بجوانبه التنفيذية المُباشرة، ولكنه دور الطبقة السياسية، سلطة ومعارضة، ودور المجتمع المدني بكل شرائحه ومكوناته، وهذا كله يشكل قاعدة الدور الذي تقوم به أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والمرويّ، صوتا وصورة ورسما وأغنية ومسرحية ومسلسلا متلفزا أو فيلما سينيمائيا، بل ونكات وإشاعات. . يقال أن الصحافة الإلكترونية هي “ضرة" الصحافة الورقية، بل وأضحت تهددها في وجودها، هل أنتم مع الذين يتوقعون اندثار الصحيفة »الورقية« بعد سنة 2050 بفعل سيطرة الصناعة الالكترونية على حياتنا اليومية؟ التطور العلمي والتكنولوجي يفرض نفسه شئنا أم أبينا، ولا أعرف ما الذي يمكن أن يحدث في 2050 لأنني لن أكون هناك على وجه التأكيد، لكنني أتذكر أن هناك من تصور أن الإذاعة ستقضي على الجرائد وأن التلفزة ستقضي على السينيما وأن السينيما ستقضي على المسرح، والنتائج التي نعيشها كذبت كل تلك التصورات بنسبة عالية.