في ظل استمرار الأزمة السورية بكل ما تحمله من ثقل وتداعيات منهكة للشعب السوري الشقيق وتوجهها نحو إكمال عامها الثالث بعد أشهر معدودات، شرعت بعض الأطراف الدولية التي اعتادت التحرك خلف الستار في الدفع بها إلى اتجاه معين والضغط على الفرقاء السوريين من أجل تبني خيارات معينة على منوال البحر من أمامكم والعدو من ورائكم، فإمّا الذهاب إلى مؤتمر «جنيف2» والتوقيع على ما يوجد في درج طاولته أو مواجهة خطر تقسيم البلاد. مع مرور الوقت بدأ يتّضح أكثر أن هناك جهات عدة تشوّش على عمل المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي، الذي يجعل من الحفاظ على وحدة سوريا ثابتا رئيسيا في أي حل للأزمة. والمؤسف أنّ هذه الجهات وجدت صدى لمخطّطها في الداخل السوري، حيث لم يعد سرّا أنّ بعض الأطراف أضحت تسعى للحصول على كيان منفصل في إطار نظام فدرالي. الإبراهيمي عندما وافق على مسك الملف السوري المفخّخ والذي اعتذر عنه دبلوماسيون كثر لا يقلون عنه حنكة، إنّما فعل ذلك من باب شعوره بالمسؤولية تجاه بلد عربي شقيق، حيث راهن على رصيده وتمرّسه ومكانته الدولية فحدّد هدفا واضحا لمسعاه هو إقامة نظام جمهوري ديمقراطي جديد غير طائفي يفتح الباب أمام ما أسماه جمهورية سورية جديدة يحدد السوريون أنفسهم طبيعتها، لاقتناعه ربما بأنّ ذلك هو ما يحصن البلاد من المخططات الدولية والإقليمية التي أضحت تستهدفه. لذلك بدا منذ البداية حريصا على الإسراع في إيجاد تسوية للأزمة تفاديا لصوملة البلاد وتحولها إلى مناطق نفوذ يتقاسمها زعماء وأمراء حرب، والكل كان يستشعر حينذاك شبح ومخاطر تقسيم البلاد إلى دويلات على أساس طائفي. الجميع ينتظر انعقاد مؤتمر "جنيف 2" الذي تمّ تأجيله عدة مرات، ولكن لا أحد يعلم ما سيحمله هذا اللقاء من مفاجآت رغم أنّ هدفه الرئيسي يتمثل في التوصل إلى حل سياسي للحرب الدائرة هناك، لذلك يحرص الإبراهيمي على جمع ممثلين عن الحكومة وعن المعارضة على طاولة المفاوضات. وإذا كان يعوّل على مؤتمر "جنيف2" للاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية فإنّ العائق الأبرز الذي قد يعرقل المحادثات هو اشتراط المعارضة ألا يكون فيها أي دور للرئيس بشار الأسد. المشهد كما يبدو في الملف السوري يمكن اختصاره بالقول أنّ الأطراف المتصارعة تضع العقدة في المنشار، فالنظام يصرّ على البقاء في السلطة، حيث يتمسّك الأسد بكونه الرئيس الشرعي لسوريا وينتوي الترشح للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها العام المقبل. وفي المقابل تسعى المعارضة أساسا إلى تحقيق هدف واحد هو تنحية الأسد. الأسد يقول أنّ أي اتفاق بين الطرفين يجب أن يعرض على استفتاء شعبي قبل الموافقة عليه، مستندا للدستور الذي يحدد صلاحيات الحكومة ورئيسها وصلاحيات رئيس الجمهورية؛ كما يتمسّك بأن إدراج أي تعديل في الدستور الحالي قد يطالب به مؤتمر "جنيف 2" لابد أن يمر أيضا عبر استفتاء شعبي لأنه يخالف مواد وقواعد دستورية. واشنطنوموسكو تتمسّكان بعقد المؤتمر رغم وجود خلافات عميقة بين الطرفين حول معظم القضايا، وعلى رأسها دور الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية، فبينما ترى فيه الولاياتالمتحدة وحلفاؤها فرصة أخيرة للحل السلمي بعدما اقتنع الجميع بأنّ حل الأزمة السورية لا يمكن إلاّ أن يكون سياسيا، تبدي روسيا وإيران وفاء كبيرا في دعم الرئيس السوري. وأكثر من ذلك، تستغل موسكو الموقف المبدئي لقوى المعارضة برفض الحوار مع نظام الأسد وتمسكها بألاّ يكون له أي دور في المرحلة الانتقالية، كي تحرجها وتظهرها أمام العالم بأنها ليست شريكا مناسبا في العملية السياسية المقبلة، وبالتالي تدفع نحو البحث عن أطراف معارضة أخرى لتحاور النظام. يتأكّد من جديد أنّ التجاذب الدولي حول سوريا لا يزال في ذروته، تماما مثلما هو بين النظام والمعارضة، ما يعني أن نظرة الطرفين للحل السياسي لا تزال على طرفي نقيض، وأنّ المؤتمر لن يكون أكثر من منصة لتبادل التهم من جديد. وبما أنّ التوافق الدولي والإقليمي الذي بإمكانه وضع حل سياسي لا يزال بعيدا فإن المأساة السورية مرشحة للتفاقم أكثر. أمام هذه المعضلات، وبالنظر لتموقع الكتائب المسلحة على الأرض، يبدو الحديث عن تحقيق حل سياسي قريبا صعب المنال. النظام كما المعارضة لم يتوان كلاهما أكثر من مرة في التعبير عن يأسهما من تحقيق اختراق في الأزمة، حتى أن الحديث عن "جنيف 3" بدأ حتى قبل التئام "جنيف 2". خيوط الأزمة السورية أكبر من الإبراهيمي وأعمق من الصراع بين السلطة والمعارضة والمسلحين، يحكمها مناخ يتغير في المنطقة برمّتها، فنحن أمام إعادة رسم خطوط وملامح تحالفات جديدة، هي خيوط لعبة متحولة ومتغيرة، عناوينها البارزة محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية.