أعني الحرب الباردة المحتمل عودتها إثر أزمة القرم والتداعيات التي بدأت تسفر عنها. مرحبا بها إن عادت لأنها ستعطي متنفسا أو وقتا مستقطعا كما يعبر عن ذلك في مصطلحات كرة اليد أو كرة السلة. للكثير من الدول التي تتعرض باستمرار لتحرشات القوى الغربية بقيادة واشنطن. عودة التوتر هذه هي من زاوية أخرى إحدى مظاهر مخاض نظام دولي جديد ينهي عصر القطب الواحد، ومن ثمة فهو يلغي مقولة «الشرق الأوسط الجديد» الذي بشرت به كونداليزا رايس مبتهجة إبان العدوان الهمجي الإسرائيلي عن لبنان سنة 2006. تذكير بسيط بالتجبر الغربي بقيادة واشنطن يعيدنا إلى بداية الثمانينات بعد مؤتمر مدريد حول الشرق الأوسط، حيث أجهضت الإدارة الأمريكية كل المحاولات المحتشمة لحل القضية الفلسطينية مستغلة بذلك الوهن السوفياتي حينئذ. وبداية تفكك الكتلة الإشتراكية التي كان سقوط جدار برلين الضربة القاضية لها.. كان الغرب يغازل غورباتشوف وفي الوقت نفسه كان يحاصره ويضغط عليه اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا ورغم انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان، إلا أن ذلك لم يؤثر إيجابيا على التوازن الإستراتيجي بين القطبين حينئذ، بل استمر في الخلل وحين تم تفكيك حلف وارسو سعى الحلف الأطلسي من جانبه للتوسع في المناطق التي كانت لوقت قريب مجالا حيويا لموسكو. حرب الخليج الثانية تحت عنوان «عاصفة الصحراء» وتدمير الجيش العراقي كانت التعبير الحقيقي عن التوجه العسكري العدواني للولايات المتحدة، ورغم أن بوش الأب اكتفى بإخراج العراق من الكويت التي احتلها صدام حسين في خطوة طائشة، إلا أن بوش الابن الذي كان يقول إن «الله أمره» بغزو العراق وإسقاط صدام حسين أزال دولة العراق من الوجود، كما تسعى اليوم نفس الإدارة الأمريكية ليس فقط لإسقاط الأسد، إنما لإزالة الدولة السورية وتكرار تجربة العراق، ما هو حال العراق اليوم بعد أحد عشر عاما من ديموقراطية بول بريمر التي أراد روبرت فورد تكرارها في سوريا؟. الحرب الباردة هذه التي يتمنى الكثير دون ريب عودتها من زاوية أنها تزيل عالما أحادي القطب ويتمخص عنها عالم القطبين أو متعدد الأقطاب، هذا سيعيد بعض التوازن للعلاقات الدولية وأيضا للمنظمات الدولية التي فقدت في عهد القطب الأمريكي الأوحد الكثير من مصداقيتها وهامش مناورتها والكثير من استقلالها وربما شلل منظمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن في عهد هذا الكوري الجنوبي بان كي مون يعكس مدى سلطة واشنطن على محفل عالمي، وجوده أساسا لحماية وحفظ السلم العالمي ومنع التدخلات الأجنبية في شؤون الدول والشعوب الصغيرة والضعيفة. هذا التوجه يمكن أن يولد أجواء من تقاسم أعباء الحفاظ على السلم والأمن الدوليين من خلال احترام مصالح كل القوى الكبرى دون تستفرد قوة وحيدة بمصير العالم من خلال استراتيجية الهيمنة التي تسلكها واشنطن منذ أكثر من أربعة عقود. ويبدو أن عوامل إنجاز هذا الهدف بدأت تميل لصالح القوى الصاعدة التي تقودها موسكو، وأكيد فإن الرئيس بوتين يدرك هذا الواقع، مما دفعه ليس فقط إلى رفض أي تدخل عسكري أمريكي غربي في سوريا إنما إلى ضم شبه جزيرة القرم لروسيا الفيدرالية مستندا في ذلك إلى نفس المبدأ الذي طبقته الدول الغربية رغما عنه في مواقع أخرى. ومع أن الغرب تبنّى عقوبات اقتصادية ضد روسيا، إلا أن موسكو لم تأبه لذلك كثيرا ذلك أن البحبوحة المالية من جهة وترابط المصالح الإقتصادية الدولية يجعل الضرر متقاسما بين من يرفض هذه العقوبات ومن يتعرّض لها، وهي حقيقة تدركها ألمانيا كما تدركها إيطاليا وحتى أوساط كثيرة في الولاياتالمتحدة تتحفظ على نجاعتها. بقي الضغط العسكري الذي يبدو أن الناتو لا يتبناه كخيار مع أنّه يلوّح به، إلاّ أنّه في النهاية سيكون الوجه الأبرز للحرب البادرة المقبلة، وحتى موسكو أمامها خيارات تتمثل في رابطة الدول المستقلة التي لديها هيئة الأمن الجماعي التي ستعتبر أي تحرك للأطلسي شرق أوروبا ليس فقط تهديدا لروسيا، إنّما لكل هذه المنظومة الصاعدة. إذن عنق الزجاجة في هذه الحالة يطبق على الغرب والولاياتالمتحدة أكثر مما يمكن أن يضغط على موسكو، التي يبدو أن مواقفها سواء في الأزمة السورية أو مسألة القرم لم تتغير في الجوهر، ويبدو أنها مبتهجة بالمصير التعيس الذي آلت إليه وساطة الولاياتالمتحدة بين إسرائيل والفلسطنيين، باعتبار أن واشنطن التي استبعدت الأممالمتحدة والرباعية من هذا الملف ليست وسيطا حياديا في المفاوضات بقدر ما هي مكملا لإسرائيل..