كيف هي القصبة اليوم مع الشهر الفضيل؟ وهل مازالت تحتفظ بتقاليدها عند حلول هذا الضيف عليها والتي تعود إلى زمن غير بعيد؟ أسئلة لا تنتهي بحكم غياب علامات اعتادت عليها تؤكد أننا حقا في رمضان استنادا إلى دلائل ذات أبعاد تقليدية كالتحضيرات المسبقة، إعادة طلاء الأمكنة، الإكثار من الإنارة، تجارة أواني الفخار، بيع الأطعمة المعدة منزليا وغيرها من الأشياء التي لها علاقة مباشرة بالحدث. ونحن في النصف الثاني ارتأينا أن ننتقل إلى عين المكان للوقوف على الواقع اليومي لأناس القصبة هذا الصرح المعماري والتراثي العتيد وجدنا يومياته كسائر الأيام الأخرى العادية وأنت تتجول في أزقتها الضيقة والمتلاصقة لا تستهويك تلك الأجواء الخاصة ولاتجلبك روائح طيبتها المنبعثة من مطابخها. ولا تؤثر عليك زينة الألوان التي كانت فيما مضى ديكورا للصوامع والقبب ومداخل المساجد وهكذا حرصا على البحث في كل زاوية عن معلم من هذه المعالم في هذه المساحة المترامية الأطراف فمن القصبة السفلى إلى غاية باب جديد ليس هناك سوى محلات أو دكاكين صغيرة وورشات خاصة بالأحذية، الزخرفة، النحاس، الجلود، الفضة، النجارة والذهب أصحابها منهمكون في أداء نشاطهم في غياب تام للحركة الدؤوبة التي ميزت دائما هذا المكان في مثل هذا الشهر. لابد من القول هنا أن الوضع تغير رأسا على عقب وهذا لأسباب موضوعية معروفة مباشرة أدت حقا إلى التخلي عن مثل هذه العادات العائلية أولها أن الكثير من العائلات غادرت هذه “البقعة” إلى جهات أخرى حاملة معها كل تلك القيم التي ترعرعوا عليها منذ الصغر أو تواراثوها عن الكبار لتجد نفسها في عمارة بين 4جدران لايسمح لها نفسيا إحياء ذلك أمام الملأ مثلما كان الأمر مع مايعرف “بوسط الدار” للدويرة التي كانوا يسكنونها وهذا في كل الميادين سواء على مستوى التواصل العائلي أو ما تعلق بالأكلات الخاصة هذا من جهة ومن جهة ثانية للاختلاف الواسع بين العائلات التي تقطن البناية الواحدة وتفضيل العديد منها “السرية” في أشغالها المنزلية لتصبح مسألة “الجيرة” مشكلة حقيقية عند الخروج من حاضنة “القصبة”. وفي هذا السياق شرح لنا السيد محمد بن مدور باحث في التراث شرحا مستفيضا عن التحول الذي طرأ على السلوكات في القصبة خلال شهر رمضان موعزا ذلك إلى النزيف الذي شهدته جراء انتقال العائلات للسكن في نقاط أخرى بحكم عملية الترحيل، خاصة الذين حافظوا على تلك الممارسات القديمة المرتبطة ارتباطا وثيقا برمضان. وعدد بن مدور الكثير من هذه النشاطات منها “غسلة شعبان” وتقام في المنتصف الثاني من ذلك الشهر حيث يسمح للعائلات بتنظيف البيوت وصبغها بمادة الجير وكذلك شراء الأواني الجديدة التي تعد ضرورية مع اقتراب رمضان ولا تتنصل أي عائلة من هذه العادة مهما كانت نوعية الأواني الموجودة لديها. هذا كله يؤدي إلى إعداد العدة ل«العولة” تخص مشتريات من مواد غذائية لإعداد الوجبات المطلوبة لها ميزة طبيعية ومغذية كاستعمال “الظفرة” أو “ الدويدة” في الشربة لأنها تترجم خاصة “ناس المدن” وغير ذلك لا توجد مادة أخرى تدخل هذا الحساء. وفي جانب العلاقة الحميمية بين العائلات هناك «البوقالة” وهي عبارة عن أقوال ذات دلالة نفسية بالنسبة للمرأة في تعلقها بأمنياتها في الزواج وإيجاد “ إبن الحلال” وكان الماء المستعمل مصدره 3 عيون أي حنفيات ( سيدي عبد الرحمان، سيدي بن علي، وسيدي محمد شريف) يبخرون به وتضع كل واحدة خاتم في” البوقال” وبعد 3 أيام تظهر النتيجة. بالإضافة إلى ذلك هناك ما يعرف بمراسم “الحنة” التي توضع على أشكال كالهلال والزخرفة خاصة رمز مدينة الجزائر “القرنفل” ورسومات تعود إلى القبائل والأوراس أما بالنسبة للكبار فيذهبون لأداء صلاة التراويح والشباب مقصدهم المقاهي التي يتواجد بها جوق فني. هذه عينات من الكيفية التي كان يستقبل بها رمضان في القصبة لها طابع خاص ومميز تختلف اختلافا جذريا عن باقي الأشهر الأخرى..جل هذه العادات ذهبت مع أهلها وهذا عندما اتبع البعض نمط معيشي مغاير تماما لما كان يعتمد على السرعة في كل شيء. تراجع في القيم.. أبدى السيد بولعشب أحسن حرفي في صناعة الجلود تأسفه لما وصلت اليه القصبة اليوم وخاصة خلال شهر رمضان من انعدام تام للحد الأدنى من الدلالات على أننا في رحاب هذا الضيف. ويري السيد بولعشب الذي يتواجد في القصبة منذ حوالي ستين سنة، بأنه منذ قرار ترحيل السكان مع السنوات الأولى للثمانينات سجل تراجعا كبيرا في الحفاظ على تقاليد هذه المنطقة وشروع أناس غرباء في دخول القصبة لتنهار كل القيم الأصيلة التي تميز هذا المعلم، انصهرت كلها في خضم هذه التنقلات من مكان لآخر وهذه حقائق لا يمكن نكرانها أو غظ الطرف عنها. وحسب السيد بولعشب فإن رمضان كانت له خاصية تميزه عن باقي الأشهر الأخرى نظرا لحرص العائلات على أن يكونوا في الموعد المحدد عند حلوله وهذا من خلال القيام بإعادة طلاء الدويرة من الأعلى إلى الأسفل، زيادة على شراء الأواني الجديدة من مادتي الفخار والألمنيوم… وتغيير الستائر والأفرشة. ويتذكر السيد بولعشب وهو في ريعان شبابه الجو العام لرمضان من خلال انبعاث الروائح الطيبة للشربة والأطباق الأخرى عبر أزقة القصبة بالإضافة إلى إعداد خبز “المطلوع” وما تبع ذلك من أنواع من العجائن التقليدية المعروفة أنذاك وحتى ما لذ وطاب من الحلويات المصنوعة من مواد محلية “كالصامصة”، “الغريبية” و«السيقار”. وتخلو أزقة القصبة من الحركة مباشرة وعقب طلقة مدفع “بابا مرزوق” إيذانا بالإفطار وبعد مهلة قصيرة تمتلئ الأزقة بالشباب الذين يتوجهون إلى المقاهي سواء المتواجدة في زوايا الأحياء أو تلك المعروفة في ساحة الشهداء التي كانت فضاء نشطا لالتقاء الجيران والأصدقاء وبيع كل الحلويات من “قلب اللوز” و« الكسرة” و« البوراك” وحتى “ الزلابية” والشربات وغيرها في حين يتوجه الكبار إلى المساجد أما الأسرة فتبقى في “الدويرة” وسهرات عند كل جارة تارة باستعمال البوقالة وتارة أخرى بتناول الحديث عن أمور الدنيا أما البنات فينظمن قعدات الدربوكة. فالقصبة كانت زاهية بسكانها آنذاك للأسف اليوم لا نجد هذا التفاعل بسبب مغادرة أهلها لها. أشغال مسبقة أما السيد خالد محيوت حرفي في القصبة العليا منذ سنوات طويلة فقد عاش رمضان منذ طفولته في هذا الفضاء وهو مطّلع على كل صغيرة وكبيرة بخصوص التحضيرات الأولية التي تبدأ بتنظيف المنزل ثم إعداد كميات من الطماطم المسحوقة التي تجفف فوق الأسطح ثم توضع في البرطمان، نفس الشيء مع الثوم التي تخزن في لفائف قماشية بيضاء كما تحمص القهوة وتشتم رائحتها على مسافات بعيدة كانت على 3 أنواع آنذاك. وبالنسبة ل« الشربة” فإن الأمهات يعدن مايعرف «بالظفرة” التي تقطع نسبة إلى الظفر كما أن الحلويات تصنع بمواد أعدتها العائلة..نفس الشيء بالنسبة للعجائن هذه الصور اختفت اليوم من القصبة خاصة المشهد العام الذي يوحي بقدوم الشهر الفضيل.