خيار استراتيجي لتنويع مصادر الدخل خارج قطاع المحروقات تسعى ولاية أدرار جاهدة لاستعادة ريادتها في إنتاج الحبوب والخضروات، والعودة إلى الأسواق الدولية خاصة ب«القارة العجوز” التي فقدتها بسبب تراجع نوعية وكميات المنتجات الزراعية سنوات الثمانينات، وتجددت “رغبة” اقتحام الأسواق الباريسية خاصة في السنوات الأخيرة، بعد تحقيق “قفزة نوعية” في الإنتاج سيما مادة الطماطم، الذرة، القمح الصلب، وبعض الخضروات، بفضل التسهيلات الممنوحة في إطار آليات تشجيع الاستثمار التي ما فتئت الدولة تقدمها عن طريق الوزارة الوصية، لإنعاش آلة “الإنتاج” و«الإنتاجية” وتحقيق الأمن الغذائي للبلاد، غير أنه سرعان ما برزت مخاوف لدى الفلاحين من “تعثر” هذا المسعى، بسبب تأخر ربط المناطق الريفية بالكهرباء، وغياب مصانع التحويل التي تسببت في التخلي عن زراعة بعض المنتجات اشتهرت بها المنطقة قديما، رغم أنها تشكل مادة أولية هامة للصناعة التحويلية، مثل القطن وقصب السكر. لكن هذه المشاكل لم تثبط عزيمة الفلاحين للمساهمة في النهوض باقتصاد البلد. نفضت زيارة وزير الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري سيد أحمد فروخي، “الغبار” عن بلدية طلمين التابعة للمقاطعة الإدارية تيميمون المستحدثة في إطار التقسيم الإداري الجديد، فهذه المنطقة التي يمارس أغلب سكانها النشاط الفلاحي وتربية الأنعام والإبل، لم يزرها أي وزير للفلاحة منذ الاستقلال، حسب تصريح ممثل الفلاحين بالمنطقة، فبالنسبة لهم زيارة أي مسؤول مهما كان منصبه، انتمائه السياسي، أو الجغرافي، يشعرهم ب«الوجود”، ويمنحهم “دعما معنويا” لمواصلة النشاط الاقتصادي ورفع التحديات مهما بلغت درجة صعوبتها. أعطونا الكهرباء ونعدكم برفع الإنتاج من هنا كانت بداية استطلاع “الشعب”، طلمين التي تتوسط العرق الغربي الكبير، ظهرت هادئة، وديعة، وسط بحر من الرمال يلفها من كل جانب، حتى يخيل إليك للحظة أنها تستحيل أن تكون هناك حياة، نظرا للطبيعة القاسية، وعلى طريق شق في السنوات الأخيرة في إطار الدعم المقدم لفتح المسالك بالمناطق الريفية، راحت سيارات “التويوتا” التي وضعت تحت تصرفنا، تواصل المسير باتجاه مزرعة الحاج موسى مسعود تارة وسط الحفرة الكثيرة وتارة أخرى وسط أطنان من الرمال جلبتها الرياح من جانبي الطريق. هناك ظهر الفلاحون مثل الطفل الصغير الذي يرفض الانفصال عن أمه، في حين تراهم الدولة راشدين وبإمكانهم الاعتماد على النفس لحل مشاكلهم المطروحة سيما تلك المتعلقة بتصريف المنتوج في الأسواق المحلية، الوطنية، وحتى الدولية، فالفلاحين تشبثوا ب “يد الدولة” التي قدمتها لهم منذ اعتماد آليات الدعم، وطالبوا بإبقاء هذه اليد “ممدودة” لأنهم “تعودوا على سخائها”، بل أكثر من ذلك تحولت آلية الدعم في نظرهم إلى “واجب إلزامي” لا ينبغي التهاون في أدائه أو التراجع عنه حتى وإن “تأزمت” الوضعية الاقتصادية مثلما يحدث هذه الأيام، فهو “حق مكتسب” لا يمكن التفريط فيه، أو التنازل عنه. ورفع الفلاحون عريضة مطالب، طالبوا بها بتدخل الدولة لوضع حلول لها، ومن بين المشاكل التي طرحت إنجاز مصدات الرياح لتثبيت الرمال، ومنع زحفها على المستثمرات الفلاحية، وهو مشكل قال عمي زويني أن الفلاحين قديما قبل اعتماد “الدعم” كانوا يقدمون على حله بأنفسهم دون انتظار تدخل الدولة أو السلطات المحلية، فالدعم في نظره علم فلاح اليوم “الاتكال” على الدولة في كل شيء حتى في المشاكل البسيطة. رغم ذلك ظهرت بعض المشاكل التي تتطلب تدخلا عاجلا للسلطات المحلية لحلها، فالفلاح في طلمين حقق نجاحا نوعيا لا يمكن نكرانه لكنه يعاني من أكبر مشكل يؤرق المنطقة، وهو نقص الكهرباء الريفية، فعلى بعد خطوات من مزارع ومستثمرات تجد الفلاح يضطر إلى جلب الكهرباء عن طريق كوابل في الأرض تصل إلى 4 كلم، مشكلة بذلك خطرا حقيقيا على حياة السكان، و قد اضطر ممثل الفلاحين إلى “استعطاف” المسؤول الأول عن القطاع الفلاحي حينما قال له “سنعدكم بالإنتاج ورفع التحدي، فقط زودونا بالطاقة والكهرباء”، مشيرا إلى أن الفلاح حاليا يستعمل المولدات الكهربائية التي تشتغل بالبنزين، وقد أصبحت مكلفة بعد رفع أسعار هذه المادة بداية 2016. وطالب ناصري بوجمعة رئيس جمعية المزارع العائلية، بتقديم يد المساعدة لمحيط المزارع العائلية بوكزين، للرفع من الإنتاج الفلاحي وبالأخص التمور، ومن أجل تحقيق هذا الهدف تطلب تدعيم المحيط، - يقول بوجمعة - بالإسراع في إيصال الكهرباء إلى المحيط الذي لم يزود بها منذ انطلاقه في النشاط سنة 2001، حيث أن كل فلاحي المحيط يجلبون الكهرباء بطريقة جر الكوابل على مسافة من 1 كلم إلى 1.5 كلم، رغم أن محطة توليد الكهرباء تبعد عنه ب1 كلم فقط. تمور طلمين تصل مالي والنيجر ويجهلها الجزائريون بالشمال جل سكان بلدية طلمين نشاطهم الاقتصادي الفلاحة وتربية الأنعام والإبل، ولا يمكن التحدث عن الفلاحة بها، دون ذكر التمور فهي تحتل المرتبة الأولى في إنتاجها بفضل جهد الفلاحين ومرافقة الدولة بمختلف البرامج، وتسوق في ولايات الجنوب الكبير، أدرار، تمنراست، تندوف وإليزي وبشار، وحتى في دول الجوار نظرا لجودتها ونوعيتها. وطلمين لا تعرف بالتمور فقط، بل بجودة الخضر، والجميع يعرف ذلك ويكفي الزائر لها أن يتفقد سوق بودة ليجد منتجاتها بنوعية رفيعة تسوق هناك، وتصل حتى الولايات المجاورة كبشار وتندوف، وتمنراست، دون أن تتعداه إلى مناطق أخرى من الوطن، بسبب ضعف شبكة التسويق أو إنعدامها. ويقول موسى مسعود صاحب مستثمرة فلاحية، أن ولاية أدرار تحصي أكثر من 300 نوع من التمور، على غرار تاكربوشت، تينقور، تيلميسو التي يتم جنيها في بداية موسم الصيف، في حين يتم جني الأصناف الأخرى في فترة الخريف منها تيقرة، تيناسر، وهي أصناف ذات قيمة غذائية عالية، لكن للأسف أغلب سكان ولايات الشمال، يجهلونها بسبب نقص الترويج الإعلامي لها، في وقت تصل إلى أدغال إفريقيا، ومنطقة الساحل، حيث نضطر إلى مقايضتها بالأغنام، الكاوكاو، والحنة، مع سكان مالي والنيجر. كما تسبب غياب غرف التبريد بالمنطقة وانعدام مصانع التحويل، في رمي أطنان من التمور، وبعض الخضر على غرار البطاطا، إلى المزابل، أو تقديمها كأعلاف للمواشي. صحراء قاحلة في الكتب المدرسية ومروج خضراء في الواقع من طلمين شددنا الرحال باتجاه عاصمة الولاية أدرار، حيث ينتظرنا برنامجا مكثفا لزيارة بعض المستثمرات الفلاحية لخواص، نجحوا في تحدي الظروف الطبيعية القاسية، وحولوا أراضي بور إلى مروج خضراء، وفي الطريق إلى هناك وبين أراضي منبسطة تارة، ومرتفعة تارة أخرى نتيجة تراكم الرمال في شكل كثبان متموجة، استرجعت ذاكرتي دروس كتب الجغرافيا بالطور الابتدائي، التي علمتنا ونحن أطفال صغار لا نعي من الدنيا سوى محيط البيت الذي نشأنا فيه، وحدود الشارع الرابط بينه وبين المدرسة، أن الصحراء “جرداء قاحلة”، ليست بها حياة، وأرضها غير صالحة للزراعة، وهي النظرية التي أثبت عشرات الشباب خطئها حينما رفعوا التحدي وحولوا مساحات شاسعة من هذه الصحراء إلى مروج خضراء تنبض بالحياة، بفضل “إرادة فولاذية” و«دعم من الدولة” ساعدهم في تجسيد مشاريعهم الاستثمارية على أرض الواقع، وقد تأكدنا من ذلك ونحن نزور بلديات أوقروت، تسابيت، سبع، بولاية أدرار، فرغم بعد المسافات، وانعدام المسالك في كثير من الأحيان، إلا أن ذلك لم يمنع أمثال الحاج موسى، نجاري، كديلي فوضيل، الناجم أم الغيث، من تحويل أراضي بور إلى مزارع خضراء، تنتج أجود الخضروات والحبوب، وحتى البقول الجافة. ويقول المهندس الفلاحي عبد العزيز رحالي من مقاطعة تينركوك، أن الكثير من سكان المنطقة وحتى من ولايات أخرى، لم يكونوا يصدقون أن الأراضي بالصحراء تنتج، ومع ذلك بدأت التجارب الأولى في زراعة بعض المنتوجات في مساحات صغيرة، أعطت مردودا تضاعف مع الوقت، حيث بات الهكتار الواحد من الأراضي ينتج 85 قنطارا من القمح، في وقت يمنح بولايات الشمال 45 قنطارا، وكذلك كانت التجربة ناجحة في شعبة الخضر، إذ أعطت الأرض مردودا وفيرا في مادة البطاطا، والبصل، والخيار، والبسباس، وفاكهة الدلاع التي سوقت السنة الماضية بشاحنات الوزن الثقيل باتجاه ولايات الشمال وبأسعار معقولة. ولعل العوامل التي ساعدت على نجاح الزراعة في أدرار، المناخ شبه الرطب، وتوفر المياه، ناهيك عن نوعية التربة الغنية بالأملاح المعدنية، وهو ما فتح شهية الفلاحين لإقامة أكثر من 28 ألف مستثمرة، وغرس أكثر من 2.7 مليون نخلة تنتج حوالي 907278 قنطار من التمور المحلية. وتأسف المهندس الفلاحي الشباب، لانعدام مصانع تحويلية بالمنطقة، لأنها قوضت عملية تسويق المنتجات الزراعية خاصة التمور، والبطاطا، التي بات يلقى فائض إنتاجها في المزابل ويتلف، لعدم وجود من يشتريه، في حين دفع غياب الوحدات التحويلية بعض المنتجين إلى التخلي عن زراعة منتجات تشكل مادة أولية للصناعة الغذائية والنسيجية على غرار قصب السكر، والقطن، ناهيك عن نقص آلات الحصاد والجني سيما بالنسبة لمادة الحبوب والذرة، حيث لا تلبي الآلات التي يوفرها ديوان الحبوب الطلب، وأزم الوضع رفض الخواص التنقل إلى مزارع الفلاحين بحجة صغر المساحة المغروسة. مصبرات الفقارة منتوج محلي يطمح للعالمية في الطريق إلى رڤان، كانت صور مخلفات القنبلة النووية التي فجرتها السلطات الاستعمارية يوم 13 فيفري 1960 تشغل جزء من تفكيري، فإلى اليوم ما زال سكان هذه المنطقة يعانون من الجريمة الفرنسية، التي لم يتأثر الإنسان فقط بها، بل حتى الحيوان والنبات، وقطع حبل تفكيري صوت زميل لي وهو يقول لي “كنت أعتقد أني سأجد أشخاص مبتوري الأيدي ومكان خالي من الحياة”، لكن ها هي المدينة الصغيرة “تنهض” من جديد، وتفتح ذراعيها لزوارها وهي مبتسمة وشامخة الرأس في جزائر العزة والكرامة. في مدخل المدينة التي تزينت بنياتها بلون التربة الأحمر، شيدت وحدة تحويل الطماطم التي أعادت الأمل في اقتحام المنتوج الجزائري الأسواق الدولية بعد سنوات “عجاف”. وتنفس سكان المنطقة والولايات المجاورة الصعداء حينما شرعت الوحدة في الإنتاج منذ عامين، فبالإضافة إلى امتصاصها فائض إنتاج الطماطم الذي تمتاز بها أدرار عن غيرها من ولايات الجنوب الكبير، سمحت بتوفير مناصب شغل للشباب البطال. وتقدر الطاقة الإنتاجية للوحدة ب 250 طن يوميا، وتوجه مصبرات الفقارة إلى السوق المحلية بولاية أدرار، وإلى الولايات الجنوبية، والغربية للوطن، في حين وضع المشرفون على تسيير الوحدة التحويلية، مثلما صرحت به المستشارة القانونية عقيلة أوشريف، هدف رفع الطاقة الإنتاجية إلى 1500 طن في اليوم، وتوسيع الإنتاج ليشمل الطماطم المجففة التي يكثر عليها الطلب محليا، كما حددوا هدف اقتحام الأسواق الإفريقية، واستعادة أسواق باريس، حيث ينصب التفكير على تصدير منتوج الطماطم الطازجة إلى هذه الأسواق آفاق 2018، وهو ما سيتحقق يوما لأن إرادة الجزائري لا يمكن أن تهزم.