خلف أسوار منزل يتوسط مدينة سيدي خالد الواقعة غرب بسكرة، تتوارى أنات أربع بنات معوقات ذهنيا، وخلفها تتوارى أيضا معاناة أم في التسعين من العمر تكابد وحدها مهمة رعايتهن. تعمل ما في وسعها لتلبية مطالبهن رغم الضعف والهزال. تمشي وقد أثقلت السنون ممشاها. محدبة الظهر، بالكاد تقوى الوقوف على رجليها لتهرع ذات اليمين وذات الشمال في نشاط دؤوب، فرضته عليها يومياتها المتشابهة. إنها "المجاهدة " فطوم شطوطي التي لا تزال كلماتها محفورة في ذاكرة تسجيلنا وهي تقول "البنت عائشة التي كانت سندي في رعاية شقيقاتها مرضت هي الأخرى وصارت تضربني، وحين تعود إلى رشدها تعتذر لي وتقول الضرب مفيد" نعم هكذا قالت الأم الحنون التي تعامل بناتها المريضات بحنان فياض وهي تخفي معاناتها متسلحة بصبر أيوب، عزاؤها الوحيد "مرحبا بلي اعطاهلي ربي".
الانقلاب يحدث في فترة المراهقة أنجبت العجوز فطوم أزيد من عشر مرات، فارق الحياة عدد من أبنائها وبناتها وأصيب من بقي على قيد الحياة بإعاقة ذهنية، أربع بنات وولد أما عمر المتقاعد من قطاع التربية فاستقل بنفسه وصار منقسما بين رعاية أسرته ومساعدة شقيقاته المريضات .كان دليلنا إلى منزل والدته المجاور لمنزله وفي حضرته تحدثت إلينا والدته فطوم عن يومياتها التي صارت بلا طعم منذ أن حدث الانقلاب في مسار حياتها العائلية أي منذ ظهور الإعاقة الذهنية على ابنتها خيرة ثم باقي البنات الثلاث. أصيبت خيرة بوهن وضعف في الذاكرة وهي في سن 13 سنة قبل أن تفقد بصرها، وقتها كانت عائشة سندها في رعاية شقيقتها ولما بلغت الأخيرة 20 عاما أصيبت هي الأخرى بالمرض ذاته، غير أنها كانت أكثر عصبية وحين تنتابها نوبة تقوم بتكسير كل شيء وتتعدى على والدتها بالضرب التي تقول "تضربني وحين تعود إلى رشدها تعتذر لي وتقول الضرب مفيد". وبين عائشة وخيرة توجد الأختان الشقيقتان سعدية ووريدة المصابتان بالمرض ذاته الذي أصاب الأخ الشقيق لهن محمد بودرهم أستاذ الرياضيات الحائز على البكالوريا في بداية الثمانينيات في شعبة الرياضيات، ما إن ابتسم له حظ التوظيف في قطاع التربية حتى انقلبت أمور حياته رأسا على عقب حيث أصيب هو الآخر بإعاقة ذهنية وفقد بصره بعد عام من مزاولته التعليم. الكل يهيم في واديه تحت تأثير الادوية.
تربط ابنتها كرها بسلسلة داخل غرفة انفرادية مع مر الأعوام والعقود، تكيفت العجوز فطوم مع واقعها وصارت يومياتها متشابهة ولم تعد تعرف لا هي ولا بناتها المريضات أن ثمة عيدا يسمى "عيد المرأة" ولا عيدا يسمى "عيد الأم" لقد أنستهن همومهن حلاوة الحياة وبقي لهن هامش محدود للتلذذ بما بقي لهن من حاسة الذوق، خصوصا في فترة شعورهن بنوع من الاسترخاء عند تناول المهدئات "أحيانا ترفقني واحدة أو اثنتان إلى حفل زفاف، اجلس واحدة عن يميني وأخرى عن يساري، وأحيانا ترافقني إحداهن إلى السوق للتبضع، وفي أحايين كثيرة اضطر إلى تركهن في المنزل وأغلق الباب عليهن، أما في أسوأ الحالات اضطر مكرهة إلى ربط البنت عائشة بسلسلة وأغلق عليها باب الغرفة حتى لا تعتدي على شقيقاتها حين تنتابها نوبة عصبية شديدة.. هي الوحيدة التي تشكل خطرا علينا، وقد الفت هذه المعاملة وصارت هي من تقيد نفسها عندما تشعر بتوتر أعصابها" هكذا قالت الأم وهي تشير إلى سلسلة موصولة بين قدم عائشة وسريرها في غرفة منفردة قبل ان تستدرك القول وتضيف: "لا اربطها لكونها عدوانية فقط بل لأحافظ على سلامتها من أي مكروه قد يصيبها دون وعي منها، فقد حاولت الانتحار عدة مرات وأحرقت نفسها مرتين وألقت بنفسها في بئر المنزل أربع مرات".
جهاد إلى آخر العمر رغم كل شيء تظهر العجوز فطوم صبرا جميلا حين تتطرق إلى يومياتها مع بناتها المعوقات، وبين الفينة والأخرى تعيد القول "هذي حاجة ربي والحمد لله" لكنها لا تخفي حاجتها إلى مساعدة الغير، فتكاليف رعاية البنات باهظة، خصوصا من حيث مواد التنظيف التي تستهلكها يوميا مع الغسل، رغم ذلك تتعفف أمام من يريد مساعدتها، مدخولها منحة إعاقة ابنها وبناتها ومنحة الشيخوخة ليس إلا، والباقي ما تتلقاه من أهل الخير والإحسان. همها الوحيد رعاية بناتها، تصحبهن دوريا إلى مستشفى الأمراض العقلية لفحصهن وتشخيص الدواء لهن. تقبل أن يقمن في المصحة لمدة محدودة وترفض غيابهن عن المنزل لفترة طويلة المدى، هكذا قالت الأم الطيبة الحنونة التي تناغي بناتها المريضات كما تناغي أي أم رضيعها وهو في القماط، أو هكذا تفعل العجوز "المجاهدة" فطوم شطوطي لكن بدون شهادة اعتراف لا من وزارة المجاهدين ولا من وزارة التضامن الوطني فنعم الأم أنت يا مجاهدة.