يتعمق إحساسك بالخطر وأنت بالقرب من مركز مكافحة السرطان بمستشفى فرانس فانون الجامعي بالبليدة، فالمرض اللعين يطل من كل الزوايا، هنا تكومت أجساد أنهكها الداء، وجوه صفراء من المرض، وأخرى من الإشفاق على قريب أو حبيب... لحظات طويلة من الانتظار والرغبة في الاستيقاظ من كابوس الألم، وساعات الدنيا تستصرخ الوقت بالتوقف، فيما تتعالى أدعية الناس بالشفاء في وقت يكتفي مسؤولو القطاع بترويج أرقام زائفة عن التكفل الصحي بالجزائريين، الذي يعرف تحسنا بلغة الوزراء، والذي لا يلمسه على الأقل أبناء الجزائر البسطاء. تختلف الأزياء وتتنوع معها اللهجات بمركز مكافحة السرطان بالبليدة، هنا محج المصابين بالداء الخبيث من 48 ولاية، تتعدد حالات الإصابة، من سرطان الثدي وعنق الرحم والرئة وحتى الجلد والحنجرة والمخ والدم... غير أن المعاناة تظل القاسم المشترك، المعاناة من الألم والمرض، من الوسطاء، ومن ضعف الوسائل والإمكانيات... مئات المرضى يفترشون العشب بعد حصص العلاج الكيمائي أو الإشعاعي، وآخرون محملون بحقائبهم ينتظرون دورهم الذي قد يأتي وقد لا يأتي.
"ذاك المرض" .. الطريق نحو المجهول باغتهم "ذاك المرض" كما يطلق عليه الجزائريون تحاشيا لذكر اسمه، وعلى حين غفلة دخلوا نفق صراع مع المجهول، تجمد شعورهم بالحياة، أصيبوا بالذهول والصدمة بعدما نزل عليهم خبر الإصابة بالداء الخبيث كالصاعقة "لم أتخيل يوما أن أصاب بالسرطان أو أموت به" عبارة كررها جل من التقيناهم بمركز مكافحة السرطان بالبليدة، إنها لحظات مرعبة خارج الزمان والمكان، تبدو كخط رفيع بين الموت والحياة، يقول محمد (أستاذ أدب عربي في الأربعينات)، يعاني من سرطان في المخ منذ سنوات "لما أعلمني الطبيب رأيت شريط حياتي يمر أمامي كفيلم سينمائي بأدق التفاصيل والحمد لله على كل شيء"، بساحة المركز وبداخله يوجدون بالمئات، ولكنهم قليل من كثيرين غيّبهم الموت بعد طول معاناة، يلقون بنظرات فارغة إلى الأفق الإسمنتي وأصحاب المآزر البيضاء كلما مروا بجانبهم في رجاء، في حين تتسابق الساعات واللحظات لسرقة عمر أحدهم ويشتد بهم الألم.
تجهيزات متهالكة تزيد مسلسل الرعب والألم يخدع البناء الخارجي والشكل الهندسي للمركز الكثير من العابرين به، موحيا أن الأمور على ما يرام، رغم أن الحقيقة المرة لا يعرفها إلا أهله من العاملين به، والذين أعلن الكثير منهم تذمرهم الظاهر أو الخفي في حديثهم ل "الشروق" مما آلت إليه الأوضاع. جولة بالمركز جعلتنا نكاد نختنق من الروائح النفاذة التي تعم المكان، والتي قيل إنها تنبعث من قنوات الصرف الصحي المهترئة، أسقف خشبية منهارة جزئيا، مرضى تائهون بحثا عن الأطباء، قاعات علاج وتجهيزات متهالكة، تزيد الوضع ترديا وتعمق مسلسل الألم والرعب لدى مرضى السرطان، هموم وآلام يشترك ويتساوى فيها الجميع وأحاديث عن المحسوبية و"المعريفة" وسخط على مسؤولي قطاع الصحة الذين يستهترون بحق جزائريين في الحياة، يصارعون الداء الخبيث في ظل تراكم معاناتهم مع نقص الأدوية وفقدانها لأشهر، مما يزيد من انتشار الأورام بجسم المصاب على غرار "05 اف او" المعد للحقن وتعويضه بالحبوب حسب مصدر طبي وكذا الأعطاب المتكررة في جهاز المعالجة بالأشعة وتماطل الوزارة الوصية في تعيين تقنيين دائمين لصيانة الآلات للعمل بالمركز، فالمسؤولون كما أورد المرضى بلهجة الناقم يحاولون رسم صورة وردية للوضع الصحي للمصابين بالسرطان، ولكنهم في الواقع يصرون على حرمانهم من العلاج وإغلاق أبواب المستشفيات لأسباب مجهولة، قال محدثونا. اختفت ابتسامة السيدة فاطمة التي التقيناها بالمركز، بعد رحلات مراطونية بين تيارتوالبليدة، بكيت كما لم تبك من قبل رغم محاولات كل المحيطين بها لإسكاتها لأن موعد علاجها لم يحن منذ اشهر، وقد لا يأتي، في حين ينخر سرطان العظام جسدها النحيل بيد أن اللائحة السوداء للمصابين بالداء للقادمين من 48 ولاية قيد انتظار العلاج لا تريد أن تنتهي، فطاقة المشرفين على العلاج تبقى غير ذات معنى ما دامت الإمكانيات المرصودة والبنيات والتجهيزات تبقى قاصرة عن ملاحقة الوتيرة المهولة التي ينتشر بها هذا المرض، فمركز البليدة لوحده أحصى حوالي 800 مريض ينتظرون دورهم للعلاج منذ أشهر، حسب تقرير لمديرية الصحة بالولاية، ليبقى الألم والحزن والبكاء والحسرة والانتظار والاستسلام والمقاومة والتفكير في لحظة الرحيل أو الأمل في الشفاء. إنها التناقضات التي يستجمعها المرضى وذووهم ممن يتكدسون بقاعات الانتظار ومشاعر ترافق الضيف الثقيل الذي ينهش أجساد عشرات الآلاف من الجزائريين الذين يقصدون مركز مكافحة السرطان بالبليدة، واعتبروا تفاقم طوابير "الموت" وعطل أجهزة المعالجة استهتارا من مسؤولي قطاع الصحة بحقهم في العلاج، وكثيرون من قضى عليهم المرض وأدركتهم المنية وأسماؤهم لا تزال لحد الساعة قيد قائمة الانتظار، وذكرت مصادر من داخل المركز.أن أقارب ومقربين من "فلان وفلان" يستأنفون حصص العلاج بعد شهر من إيداعم الملف، في حين مئات "الزواولة" من الجزائريين يفتك بهم الورم الخبيث قبل بدء العلاج.
تشرد، استعباد والعودة إلى الديار مجهولة أصناف من المعاناة اليومية يتكبدها المرضى وحتى مرافقوهم الذين عبث بهم الأرق والقلق فبدوا وكأن مرضا خبيثا ألم بهم هم كذلك، جميعهم كانوا يمارسون حياتهم بشكل طبيعي قبل أن يكتشفوا عن طريق الصدفة إصابتهم بورم سرطاني، فهذا المرض كما اجمع جل المصابين به ممن التقينا هم بمركز المعالجة بالبليدة، انه يتسلل إلى الأجساد دون أن يثير أية إشارة قبل أن يثور ويوزع الألم بسخاء. أما مناظر شحوب ونحول مصابي الداء الخبيث فأشد إيلاما، صغار وكبار يرثون حالتهم، يرتدون قبعات تخفي رؤوسا لم تبق فيها إلا بعض الشعيرات من شدة وقع العلاج الكيماوي، صاروا أشباحا متحركة، وخلف نظراتهم الحزينة حكايات كثيرة لأسر بعثرها السرطان وأجبر غالبيتهم على توديع ذويهم ومدنهم وقراهم البعيدة، ليتشردوا بالبليدة، وآخرون أجهزوا على مدخراتهم وباعوا ما يملكون، وكثيرون تسولوا لمواجهة تكاليف النقل والعيش كما حدثتنا "كريمة" وهي سمراء جميلة لم تتجاوز عقدها الثاني، وبعطش غريب للحياة، قالت "بعت كامل صياغتي بعدما أصبت بسرطان في الثدي من اجل العلاج والتنقل من الجلفة نحو البليدة، في وقت يرقد من اختاروا مشاركة نسائهن المبتليات بالسرطان محنتهن ومضض الداء في الحمامات العمومية فيما تخفف جمعيات تعد على الأصابع من وطأة تشرد المريضات والتكفل بهن في بيوت منحها محسنون في ظروف قد تزيد من خطورة المرض وتضاعفه. أما بمستشفى الأطفال بالبليدة فكثير من عاملات النظافة لا يترددن في تكليف الأمهات المفجوعات في فلذات أكبادهن بالقيام بأعمال تدخل في نطاق السخرة والاستعباد من قبيل تنظيف الممرات ومسح الزجاج وغيرها بشهادات المقيمات بالمصلحة.
أطفال ودعوا الشقاوة مرغمين رائحة غريبة تستقبلك بالقسم المخصص للأطفال المصابين بالسرطان بمستشفى بن بولعيد بالبليدة.. في هذا المكان يحتجز الداء الخبيث أطفالا تخلوا عن الشقاوة مرغمين ولا يستطيعون اللعب في الأزقة والشوارع ومداعبة التراب واكتشاف الحشرات بدافع الفضول، بالممر الفاصل بين الغرف يخيم صمت جنائزي يدفعك للانسحاب، صغار لا يعون معنى السرطان يسألون عن زملائهم الذين غادروا المستشفى ولم يعودوا في الموعد المحدد للعلاج، دون علم بأن الموت اختطفهم، أما أوقات الزيارة فأشد إيلاما، إخوة يلتفون حول شقيقهم المريض هم أيضا لا يفقهون ما حل به، ولماذا زحف الصلع على رأسه، ولماذا يلازم الصمت وتخلى عن الفوضى والصراخ، أسئلة كثيرة محيرة يتفادى الكبار الإجابة عنها، ليبقى المكان معبرا وذكرى لوجوه بريئة أقبرت وهي تتحسس خطواتها الأولى في الحياة.