الدول التي تَمكَّنت من التقدم حددت لنفسها أولويات في الغالب كانت بالترتيب التالي: التماسك السياسي، القوة الاقتصادية والعسكرية، الانتشار الإعلامي، والتوسع الخارجي. حدث هذا قديما في عهد الإمبراطوريات وما زال يحدث اليوم. من غير سلطة سياسية متماسكة عقائديا وفكريا، ذات روابط متينة مع المجتمع، لا يمكن بناء قوة اقتصادية ولا عسكرية ولا تقديم نموذج مجتمع ولا الفيضان على الخارج. المنطلق الأول هو باستمرار في النواة السياسية الصلبة للدولة ومدى انسجامها وقدرتها على توحيد المجتمع والانطلاق في اكتساب عناصر القوة المختلفة المادية وغير المادية لتتحول إلى التأثير في محيطها القريب والبعيد. نُلاحظ اليوم ذلك في النماذج الصاعدة (الصين، تركيا، ماليزيا، جنوب إفريقيا، روسيا…)، دول سارت وفق منهجية واحدة وهي الآن تُحقِّق تقدّما مستمرا… لم تكن تركيا لتتقدَّم لولا أن حظيت بقيادة سياسية متماسكة لها ارتباطات شعبية واسعة وشرعية مقبولة، لتنتقل في مرحلة ثانية إلى البناء الاقتصادي وتعزيز القوة العسكرية ثم الشروع في الانتشار الإعلامي من خلال الترويج لقيمها التاريخية والحضارية (الدراما المحترفة أنموذجا) فالامتداد العسكري اليوم خارج الحدود الإقليمية. ولم تكن الصين لتصل إلى ما وصلت إليه لولا قوة الحزب الشيوعي الحاكم وتماسكه العقائدي، وانتقاء عناصره بالمجهر خارج نطاق دوائر الفساد، ثم اعتماد استراتيجية اقتصادية فعَّالة وتأسيس جيش قوي والشروع في الانتشار عبر العالم ضمن خلفية الصين الحضارية كقوة تاريخية كانت لها مكانة عبر التاريخ ودور لا يستهان به… وهكذا بالنسبة إلى باقي القوى الصاعدة اليوم، دون الحديث عن تلك المُهيمِنة على العالم، جميعها لم تَحِدْ عن هذا المنطق، وعلينا أن نأخذ العبرة إذا أردنا أن نسير على خُطى التقدم واستعادة مكانتنا كدولة لها مكانة في البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا. لا يمكننا أن نبقى أسرى مشكلات فرعية لأحزاب ونقابات وجماعات وأفراد (نموذج ولد عباس، فركوس… إلخ)، بعيدا عن الخيارات الاستراتيجية الصحيحة، لأننا لن ننطلق بتاتا كدولة وفق هذه الرؤية الضيقة أو تلك، وعلينا أن نتصرف من منظور دولة تتطلع إلى المستقبل كباقي الدول الصاعدة. ولدينا من الإمكانيات والقدرات لتحقيق ذلك. فقط علينا أن نشرع في تحقيق التماسك السياسي القائم على الشرعية وعلى قاعدة اجتماعية صلبة وغير وهمية، لتنبثق عن ذلك، الخيارات الكبرى الجديدة التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها، في كافة المجالات الاقتصادية والثقافية والأمنية وطبيعة المجتمع الذي نريد. نحن في حاجة بحق، إلى وضوح في الرؤية، إلى سيادة تفكير مُمَنهَج، يُبعدنا عن الغرق في التفاصيل… إلى الطريق الصحيح لتحقيق التقدم واستعادة الأمل. الأمم الأخرى التي عرفت الانطلاقة ليست أفضل منا، ولا نحن دونها… أليس كذلك؟ أمازلنا نعتقد ذلك؟ أم قتلتنا المعارك الوهمية حول التفاصيل؟