يعود سمير قسيمي في رواية جديدة “سلالم ترولار” ينتظر أن تصدر في الأيام القليلة القادم عن دار المتوسط بالتزامن مع طبعة جزائرية عن منشورات البرزخ. في هذا العمل يتوقف قسيمي عند دور المثقفين في التغيير وما تعرفه الجزائر من فساد سياسي واجتماعي وحتى ثقافي. رواية “سلالم ترولار” تحمل شحنة مضاعفة من الغضب والنقد السياسي الجزئي وتتقاطع أحداثها مع ما تشهده الجزائر مؤخرا. في هذا الحوار يتحدث صاحب “حب في خريف مائل” عن قصة هذا العمل وخلفياته وكذا سبب كل هذا الغضب الذي فجره على الورق. الرواية تنتقد الوضع السياسي في الجزائر، لكنها تركز على المثقف، فقد بنيتها بشكل ما على شخصية “جمال حميدي” الذي كان بوابا في وزارة الثقافة، قبل أن يكون عميد البوابين. هل تتهم المثقف بكونه أصل الفساد؟ هناك من يرى أن المثقف ضحية؟ أعتقد أنه من الضروري أن ننظر إلى الأمور بنحو مختلف، فجمال حميدي لم يكن مثقفا بل مجرد بواب في وزارة الثقافة، بمعنى أنه كان يعمل في المكان الذي يسمح له برؤية مختلفة ودقيقة وحيادية أيضا لمن اعتدنا أن نصفهم بالمثقفين. كانت الفكرة أن أجد طريقة لأصف النخبة لا من داخلها بل من خارجها وقد سمحت لي هذه الشخصية أن أصف الوضع الثقافي بنوع من الصدق ما كنت لأملكه لو نظرت إليهم بعيون شخصية مثقفة. من موقعه وبفضل وصفه، تمكنت من خلال صوت السارد من أخذ صورة كاملة لمن نسميهم مثقفين، وهي صورة تخرجه من وصف “الضحية” إلى وصف أقرب للواقع هو “الشريك” لفساد نخر جسد الجزائر، فالمثقف في نظري ليس مجرد تحلية اجتماعية يترجم ما غرسته السلطة في أذهان الناس من أن الثقافة قطاع كمالي يمكن الاستغناء عنه وإن لم نستغن هو مجرد مساحة سخيفة للترويح، ليست الثقافة بالنسبة لي هذا النوع من التهريج بل هي روح الأمة، سلوك حياة بشكل خاص، وتخلي المثقف عن دوره الفاعل هو جريمة بحد ذاتها وجرم لا يمكن غفرانه. المثقف ليس ضحية بل شريكا في الفساد بكل أنواعه. روايتك تمنح أدوارا محورية لشخصيات مهمشة ك”عصام كشكاصي” و”أولغا” أو حورية التي هي شخصيات منبوذة. لماذا تحب الهامش كثيرا؟ ببساطة لأنه أكثر اتساعا من الرسميّ، وعلى عكس ما نتصوّر ليس هامشا بل نصّا أصليا، بديل ما يحدث في الواقع، فالانتفاضة على الظلم والفساد والسلطة المتسلطة لم يصنعه أناس يجلسون في صالونات الفنادق الفخمة ويظهرون لنا في كل حين على بلاتوهات التلفزيون ينظرون لما لا يفهمون، لم تصنعه النخبة المنشغلة بمصالحها وتحصيل ما يجب تحصيله من ثراء ومناصب ومواقع اجتماعية على حساب شعب فقير يعيش في دولة غنية، الهامش يصنع الاختلاف لأنه مختلف بطبعه فحسب، لا تحكمه قوانين الفيزياء والتطوّر ولا يأبه باستشراف وتوقعات المثقفين مما لا ذمة لهم أو ممن يعتقدون أنهم أفضل من العامة، فقط لأنهم بشكل ما يوصفون بالمثقفين. في حديثك عن المدينة العاصمة تحديدا تفتح سيرة أزمة اجتماعية غير معلنة وهي نظرة المركز “العاصمي” الذي يتميز بالاستعلاء وينظر بدونية للآخرين. في اعتقادك هل هذه النظرة وريثة خطاب استعماري “إنديجان” أم هي حصيلة فشل عقد اجتماعي بعد الاستقلال؟ كنت واضحا في “سلالم ترولار”، فقد تطرقت إلى نظرة استعلاء من جهتين: العاصميّ وغير العاصمي، فبقدر ما ينظر العاصمي باستعلاء لغير العاصميين، ينظر هؤلاء باحتقار للعاصميين، حتى أن كل جهة تملك نظرة تكاد تكون عنصرية حين تتناول الجهة الأخرى، انظري فقط عدد النكت التي اخترعها الوهرانيون بخصوص المعسكريين، وعدد الأمثلة التي يحفظها الجواجلة في وصف الميليين، وكذلك ما نعتقد أنها موروث من الحكم والأمثلة التي تخص كل منطقة على غرار سور الغزلان والقبايل والبساكرة …. لقد نظرت إلى هذا الواقع ووجدته عنصريا بامتياز، فهناك من زرع فينا بذور كره بعضنا البعض، وصدقيني لا علاقة لهذا الكره بالمستعمر بل بنا نحن، بدليل الجهوية التي تمارسها السلطة والتي تتمظهر في تنصيبات الوزراء، المسيلي يوظف مسيليين والتلمساني يوظف التلمسانيين وهكذا. الغريب في الأمر، هو جنوح بعض كتابنا ورضاهم بهذا الواقع العنصري بامتياز، حتى أنني أقرأ منذ 1999 في أغلفة كتب أحد كتابنا هذه الجملة دوما “روائي من تلمسان”، وهي طريقته للتقرب من السلطة الحالية التي معظمها من هذه المنطقة. الرواية على ما أعتقد هي نتيجة ورشة إبداعية في مارسيليا.. هل أنت من اختار موضوعها أم تم بالاتفاق بين أصحاب المنحة؟ لا علاقة للرواية بورشة مرسيليا، فقد كتبت خلال أربع سنوات وأكثر، كما أن العمل المنوط بالورشة منشور في شكل كتاب رقمي ومحاضرات مسجلة. الرواية تتقاطع أحداثها مع ما تعيشه الجزائر اليوم خاصة في تلميحك إلى غياب الرئيس وتدخل الأجهزة في صناعة الرؤساء،هل هو تنبؤ أم حدس كاتب؟ خلال كل السنوات التي قضيتها لكتابة الرواية، كنت أفكر بجدية في الجهة التي ستنشر هذا العمل. فقد أردته أن يكون جريئا يخوض في السياسة على نحو ما بعد حداثي، يمزج الواقع بالفانتازيا ولكن يصب كله في نقد النظام، وهو ما فعلته في روايتي “في عشق امرأة عاقر” ولكن بشكل أقل حدة، ومع هذا تم تجاهل هذه الرواية عن قصد داخليا، بل ومنعت من ندوات كانت قد برمجت بها. الجميل أن بعض من منعها يتظاهر الآن أنه ضد النظام والسلطة، سأكون لبقا وأدعي أن هؤلاء تابوا. أدعي فقط. الآن وأنا أشاهد الشعب يتحدث بلسان واحد بكل تلك السلمية والحضارية والتحضر، أشعر بالسعادة أن تقاطعت أحداث روايتي بما يحدث الآن، وأشعر بسعادة أكبر وأنا أرى التحام الشارع واعتزازه بلغتيه العربية والأمازيغية بما تعنيانه من ثقافة متنوعة، على عكس بعض المتحدثين هنا وهناك. أظهر الشعب ببساطته نضوجا فريدا من نوعه لم تظهره النخبة الجزائرية، ومثلما يستحق هذا الشعب نظاما أفضل يستحق مثقفين أفضل. هل هو تنبؤ؟ لا أدري، كل ما أعلم أن يقيني الأبدي في استفاقة الشعب ذات يوم تحقق، وأن إيماني بالهامش على أنه أكثر اتساعا ورحابة كان إيمانا حقيقيا وليس مجرد سفسطة روائي لا علاقة له بالشعب إلا الادعاء أنه منه. هل هو حدس؟ لا أدري أيضا، كل ما أعرفه أنني كاتب نقدي، لم أومن قط بأن الشهرة يصنعها سرد مراهقاتي كالذي حاول روائيو الواجهة الرسمية فرضه والذي نقرأ فيه قصصا مخدرة للعقل بشاعرية مقيتة ولغة ملتوية وبجمل لا يفهم منها إلا حروفها. لم أومن قط أن السعي إلى النفوذ الدائم في دوائر السلطة والظهور المرضي في البلاتوهات المشكوك في ذمتها يصنع أدبا. لم أعتقد يوما أن الأدب يصنعه الإعلام والجوائز واللباقة الكاذبة والسعي المكلوب للمشاركة في كل المعارض. الأدب خاصة الرواية بالنسبة لي هو فن الطبقة الوسطى من الشعوب، وهو السبب الوحيد الذي جعل روايتي وأحداثها تتقاطع مع انتفاضة الشعب الجزائري الرواية تقدّم واقعا أسود للبلاد، يعني لا شيء إيجابي بمنظورها. لمَ أنت متشائم إلى هذا الحدّ؟ لم أكن متشائما ولست كذلك الآن، فواقع البلد يقول ما تضمنته سلالم ترولار، لا شيء ولا قطاع لم يمسه الفساد، فسلالم ترولار كانت بشكل ما وصفا دقيقا للواقع، وهي تقول أيضا إن خلاصنا كأمة وكشعب هو في تخلصنا من المرض الذي استشرى في روح الأمة أي في الثقافة. لأنه بالثقافة وحدها يمكن الإبقاء على الحد الأدنى من الوعي الذي يسمح للشعب بعدم الرضوخ مجددا تحت سلطة اللاقانون. أنا أحدثك الآن عن دولة القانون، وهي كيان على عكس ما وصفته حين تناولت “الدولة – المدينة”، كيان يؤسس بإرادة الشعب، يكون فيه الدستور كتابا مقدسا لا يمكن المساس به ولا تقبل المواد المتعلقة بهوية الشعب وبهوية الدولة أي تعديل. أذكر أنه حين طرح للنقاش فكرة فتح العهدات الرئاسية، كتبت مقالا مطولا أتحدث فيه عن خطر فتحتها، وكانت مرجعية المقال تكويني كقانوني أولا وقراءاتي ثانيا، ولكن للأسف لم أجد أي منبر يقبل بنشره بما فيها منابر لشخصيات معروفة أصبحت لاحقا ضد العهدة الرابعة أو الخامسة، وكان هذا المقال يتحدث على أن دولة القانون تقوم على فكرة أن رئيس الجمهورية مجرد موظف سامي يوظفه الشعب، لهذا كنت دائما أستغرب جنوح بعض المثقفين كلما ذكروا الرئيس قالوا “فخامته” وكلما ذكروا وزيرا أضافوا “معاليه”. الشخصيات النسائية في العمل هامشية وبلا إرادة تقريبا من أولغا أو حورية إلى زوجة الكاتب وأميرة ابنة الرجل صانع الآلهة..لماذا؟ ببساطة لأن كل شخصيات الرواية كانت هامشية بما فيها الرجالية، البطل الوحيد في سلالم ترولار كان الوطن. إنها رواية كما قلت كتبت من القلب وفي المقاهي وفي أكثر من بلد. كان ميلادها مؤلما وصعبا لأنها استمدت مادتها من واقع أحسن ما يوصف به هو أسوأ ما قد يتصوّره الناس في دولة غنية بها شعب فقير. هي رواية مأساة، تاريخ غير رسمي لجزائر ما بعد 1962. انتقدت فيها بصراحة خيارات السلطة وإعمالها للجهوية واختراعها لطبقية غير موجودة أصلا، سلطة تمتهن الاحتقار وتعاقب بالشطب من كتاب الوجود. وهي كما قلت في سلالم ترولار لا ترى ضرورة في إسعاد الشعب بل كل همها تحقيق سعادتها ولو على أجداث الزوالية. سلالم ترولار خطبة سردية ضد مثقف السلطة والمثقف الطفيلي الذي يرضى بتهميش سواه من مثقفين تحصيلا لمنافع شخصية، هي انتقاد لنخبة الواجهة الرسمية التي نراها اليوم تحاول بلا حياء ركوب موجة الانتفاضة الشعبية. إنني بهذه الرواية أثبت أن الرواية هو فن الشعب الذي لم يعد يرضى بغير الواقع، والذي هو مختلف عن الواقع الذي يحاول البعض إيهامه به من خلال كتاباتهم المراهاقاتية التي تحتقر عقول البسطاء، بحيث توهمهم أن مشاكلهم متعلقة بالحب والجنس وبالله والدين، فأنا شخصيا لا أومن أن “التابو” هو الدين أو الجنس بل السياسة وفقط. صحيح أنني عانيت كثيرا بسبب هذا الاعتقاد وأتصور أن معاناتي مستمرة، ولكنني كنت ولا أزال من النوع الذي يكتب لأنه يؤمن بما يكتب، ومن النوع الذي يبحث عن نصّ يعيش أطول من عمره. في طريقة سردك كنت ديكتاتوريا بحيث لم تمنح الكلمة لغير السارد، لماذا هذا الخيار؟ بصراحة، أعدت كتابة هذه الرواية تسع مرات، وفي كل مرة كنت أختار أسلوبا سرديا مختلفا: راوي عليم، تعدد الروات، تقاطع المشاهد، حتى أنني مرة جمعت بين هذه التقنيات، ووجدت في النهاية أن الراوي العليم يمنحني مساحة أكبر. هناك شحنة من الغضب والانفجار في عملك. كيف ولدت الرواية؟ ولدت من رحم الحي الشعبي الذي أنا منه. لا أعيش فيه فقط، بل أنا منصهر فيه إلى درجة استحالة فصلي عنه، حتى حين أشرع في الكتابة، بدليل أنني لا أكتب أبدا خارج المقاهي الشعبية بكل ما تعنيه. وفي هذا الحي الشعبي يوجد ككل بقعة من الجزائر كم هائل من الغضب ورغبة ملحة في الانفجار في أي لحظة. غضب قد يخفيه الإنسان الجزائري بابتسامات مؤقتة وبلباقة تدل على حيائه وبتأفف يتسلل بين أنفاسه رغم صبره. ولدت هذه الرواية في وقت اعتقدت فيه أنها شهادة لكاتب عاش عصر الآلهة المتجدد بظلمه وجبروته، وإذا بي لحسن حظي تولد كشهادة على عصر قال فيه الشعب “لا” لهذه الآلهة المدمنة حمقها.