* لا الترجمة ولا دور النشر ولا الجوائز ولا العلاقات تصنع العالمية . * رغبة النخبة الجزائرية في ركوب الحراك الشعبي يجعلني متشائما أكد الروائي سمير قسيمي أن علاقة النقد بالكتابة لم تعد صحية تماما، أمام الإغراءات الحياتية التي توضع أمام المشتغل في مجال النقد، لدرجة أن النقد أصبح مجاملاتيا وخلّانيا، كما تحدث قسيمي عن علاقته بالعاصمة وهاجس الكتابة عنها، وعن روايته "سلالم ترولار" التي كتبها بنحو فنتازي، واشتغل فيها أكثر على الشق السياسي، إضافة إلى تصريحات أخرى تابعوها في الحوار التالي : * كلّ من قرأ رواية "سلالم ترولار"، يخرج بانطباع واحد: رواية كسرت كل التوقعات وتناولت الواقع المعاش بالجزائر باختصار وجرأة،حدثنا عن ذلك ؟ - لا أدري بصراحة، أعتقد أن الكتابة بطبيعتها فن اللامتوقع. لعبة إذا شئنا بين الكاتب والكاتب، وبين الكاتب والقارئ، أساسها عقد أخلاقي يجمع الكاتب بالقارئ، يتعهد فيه ألا يضيّع عليه وقته وجهده وماله، وهو تعهد لا يتحقق بالتمني ولا باعتقاد الكاتب أن كل ما تكتبه أصابعه بعيد عن الرداءة. لا يتحقق هذا التعهد بوقوف الكاتب على شرفة أعلى ناطحة سحاب، ليتمكن من رؤية العالم. هذا التعهد أيضا، يفرض على الكاتب نوعا من الجهد الذي يسمح له بكتابة نص جيد وغير متوقع أيضا، لا من حيث الموضوع فحسب، بل أيضا من حيث مسار الأحداث. تعهد صعب ولعبة ممتعة ولكنها تستحق. * قبل التفصيل في الرواية، حدثنا عن الجديد فيها، فقد صرحت أنها أول عمل من ثلاثة أجزاء؟ - في البداية كانت الفكرة أن أكتب شيئا عن العاصمة. أية قصة، لم أكن أعلم، فهاجس العاصمة والكتابة عنها قد تجدينه متشكلا وموزعا في بعض أعمالي السابقة: " باش جراح في يوم رائع للموت" ، "ميسونيه في تصريح بضياع" ، " بيردو في هلابيل" ، "باب الواد في الحالم" وهكذا.. فأنا أومن أن الرواية فن مديني بامتياز، وأومن أكثر أن الكاتب الأكثر إلماما بمدينة ما ، هو الذي سبق له أن خلق حميمية مع هذه المدينة، حميمية الميلاد والنشأة أولا، وهي مشاعر قد تصب في خانة الحب ولكنها لأسباب كثيرة قد تكون مشكلة من مشاعر متناقضة تماما فيما يخص هذه المدينة. شخصيا أحب العاصمة ولكنني أكرهها. أسعد بالتواجد فيها وفي نفس الوقت أتحين فرص الخروج منها. تدهشني عمارتها وهندستها الفريدة، ولكنني أتقزز من قذارتها ووسخها. هذه المشاعر وغيرها، خلقت بداخلي هاجسا للكتابة عنها. كان قد سبق وتحدثت مع صديقي الروائي عمارة لخوص في هذا الشأن وأخبرته برغبتي في كتابة عمل مستمر عن العاصمة، وطرحت أفكارا كثيرة في الموضوع ، ربما حدّثت آخرين كذلك ولكنني لم أعد أذكر. كل ما أذكره أنه قبل أربع سنوات قرأت تقريرا لضابط فرنسي اسمه روزات، حرره عام 1833 يصف فيها الجزائر العاصمة، جاء في التقرير هذه الجملة ".. أنها مدينة سلالم.."، أعتقد أنها الجملة التي جعلتني أختار رمزية السلالم لتكون تيمة هذا العمل.. الفكرة، هي ثلاث روايات تتناول العاصمة بنحو فنتازي، ليس تاريخيا ولا واقعيا، فنتازيا تخلق انطباعا فريدا لدى القارئ، بحيث لا تشكل هذه الروايات أجزاء أو تتمات لبعضها، كما أنه لا علاقة لأي رواية بالأخرى لا من حيث الأحداث ولا من حيث الشخصيات ولا الفكرة، كل ما يربطها هو العنوان نفسه الذي ستحمل هذه الروايات.الرواية الأولى هي " سلالم ترولار "، بعنوان خفيّ هو أبواب، الثانية ستكون بنفس العنوان " سلالم ترولار" وهكذا. أدرك أنه سيكون تحديا بالنسبة لناشري أن يصدر لي ثلاث روايات بنفس العنوان، ولكن لننتظر ونرى.. * بالعودة إلى سلالم ترولار ... من أين استوحى سمير قسيمي فكرة هذا النص الرائع؟ - تقصدين بلا شك فكرة "مدينة بلا أبواب". الأمر وما فيه أنني رجل محظوظ، فلحدّ اليوم لم أبذل أي جهد في إيجاد أفكار رواياتي، فلطالما كانت الصدفة أكبر حليف لي في الحياة، بما فيها الكتابة، فقد حدث أني قررت يوما طلاء شقتي، كان ذلك بمناسبة رمضان، فأنا رجل يحب التقاليد التي ورثتها عن والديّ، وأسعى دائما أن أورثها لأولادي، مثلا أضع الحناء في كل عيد، أحب التزيّن في كل جمعة والكثير الكثير مما رباني عليه والديّ (رحمهما الله). ما حدث أنني فعلت وكما اعتدت دائما، حشرت أنفي في أمور لا علاقة لي بها من قريب أو من بعيد، فعوض أن أبحث عن دهّان، قلت لنفسي أنه عمل بسيط يمكنني القيام به، وهكذا شرعت في طلاء البيت. كانت مجزرة حقيقة، نتج عنها جدران يمكن أن تصفيها بأي شيء إلا أن تكون جدرانا، وكأي رجل يملك عقلا، لم أفكر في طلاء أبواب الغرف إلا في آخر ليلة، لهذا تحيّنت فرصة أن نام الجميع، وقمت بخلع الأبواب واحدا تلو الآخر وجعلتها في الشرفة أين طليتها، ومن أجل أن تجف تركتها هناك واستلقيت لأنام. في صبيحة اليوم التالي استيقظت على صوت ابني وكان إذ ذاك في الرابعة من العمر مذعورا يصرخ بأن الأبواب اختفت. كان الرعب الذي شاهدته في عينيه ولاحقا في عيني زوجتي ما جعل فكرة «مدينة بلا أبواب» تغرس في عقلي، ومن ذلك اليوم من عام 2014 وأنا أكتب في الرواية وأعيد كتابتها، حتى توقفت فجأة منتصف العام الماضي وكلي يقين أنني لن أنهيها أبدا، بسبب أنني احتجت إلى عين أخرى تقرأ العاصمة غير عيني أنا، بصراحة قرأت عددا عظيما من الكتب والمقالات بلا جدوى، أعتقد أن آخرها انطباعات الصديق كمال الرياحي التي دونها في كتابه "واحد صفر للقتيل"، ولكنني وجدتها سطحية للغاية ،وكنت لأتخلى عن العمل لو لم يحدث أن أقمت في مدينة مرسيليا لمدة شهرين كاملين، وبفضل هذه المدينة جاءتني فكرة الرسالة التي يرسلها الكاتب إلى زوجته، والتي فيها يخلق صورتين بمدينتين لعين واحدة، كانت تلك آخر قطعة من قطع الرواية. * الرواية حظيت بتناول عربي أكثر منه محلي، لماذا في رأيكم ؟ - بصراحة، هذا أمر لا يشغلني تماما، فيقيني أن عمل أي كاتب ينتهي عند إصداره لروايته، ما يحدث لاحقا لا يجب أن يشغله. لكن، إن كان لي أن أضيف شيئا، فلا شك أن يكون حول علاقة النقد بالكتابة خاصة في العالم العربي ، وبالتالي في الجزائر أيضا، وهي علاقة لم تعد صحية تماما، أمام الإغراءات الحياتية التي توضع أمام المشتغل في مجال النقد، بحيث لم يعد هذا الأخير مرآة عاكسة لواقع الكتابة الإبداعية، على الأقل في معظمه. أصبح النقد مجاملاتيا وخلّانيا، كما أن الناقد العربي فقد بوصلة العقل التي كانت تسمح له وإلى وقت قريب، بالتمييز بين الكاتب والكتاب، بين الراوي والروائي. أنا مع الرأي القائل أن أزمة النقد في العالم العربي من أزمة العقل العربي، فما نسميه بالحركة النقدية العربية ليست أكثر من مجرد دراسات لتحصيل شهادات ما، أو لدعم رتب جامعية بعينها. بالطبع هناك استثناءات قد تعد على أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك فهي استثناءات تم إفسادها بالمال تارة وبالشهرة تارة أخرى. * هل كان للحراك بصمة في روايتك " سلالم ترولار "؟ - «سلالم ترولار» سبقت الحراك بسنوات، واكتملت مسودتها قبل سنة من بدايته، وانتهى عمل محررها قبله بأشهر و قد كتب ناشري على غلاف الرواية أنها كانت تنبؤية استشرفت بدقة ما حدث لاحقا، وهو ما يسعدني أنني توصلت إليه، ليس لأنني كنت سباقا إلى ذلك، بل لأن استشرافي هو أكبر دليل بالنسبة لي على علاقتي الصحفية بمجتمعي، أكبر دليل أنني أتقمص واقعي ويتقمصني. * ترجمت لك الكثير من الأعمال إلى اللغات الأجنبية حدثنا عنها و ماذا أضافت لسمير قسيمي؟ - تماما ما تضيفه إلي الجوائز: قراء أكثر، ورصيد أكبر في البنك. أما إبداعيا فلا أرى ما يمكن أن تضيفه لي جائزة أو ترجمة، فأنا بعربيتي أشعر أنني أكتب بأهم وأغنى لغة في العالم، التقيت بالكثير من الروائيين في الخارج خاصة في فرنسا، وحين كنت أحدثهم عن العربية كلغة إبداع، كانوا يستغربون مني أن أقول ذلك، فالكليشيهات المعهودة تفترض أن يقوم الكاتب الجزائري خاصة في فرنسا بجلد نفسه وإبداعه، أحيانا-وكنت شاهدا على ذلك- يعتذرون لأنهم يكتبون بالعربية، معتقدين أن هذا الانبطاح سيجعلهم في مراكز أفضل عندهم. هناك أمر مهم يتعلق بتلك العلاقة السخيفة التي يتوهمها الكتاب العرب ، وهو أن ترجمة أعمالهم تجعل منها عالمية. هذا أكبر وهم يتعشش في العقل العربي. لا الترجمة ولا دار النشر ولا الجوائز ولا الدعوات المستمرة إلى المحافل الأدبية ولا العلاقات ولا حتى المبيعات تصنع العالمية أو تدفع نصا ما ليكون عالميا. * بما أن روايتك تناولت قراءة لمستقبل آت، فهل كنت تنتظر ما يعرف بالحراك بالجزائر بعد سنوات طويلة من الصمت الشعبي؟ - بالطبع لا. لا أحد بمقدوره ادعاء ذلك. لكنني صرت متشائما في الفترة الأخيرة، بسبب عدم قدرة النخبة الجزائرية-إن صح تسميتها بذلك- في مسايرة هذه الإرادة الشعبية، كل ما يوجد حتى هذه اللحظة، هو رغبة هذه النخبة في ركوب الحراك، وهو ما يجعلني متشائما جدا.