د/ محمد العربي الزبيري لقد كان وقف إطلاق النار ، في التاسع عشر مارس سنة 1962 ، دليلا قاطعا على انتصار جبهة التحرير الوطني ، ما في ذلك شك ، لكنه كان ، في نفس الوقت ، إيذانا بانتهاء الثورة الجزائرية التي تعرضت منظومة أفكارها إلى زلزال قوي تردد مرات عديدة ولم يتفطن لهزاته الأولى سوى الشهيد يوسف زيغود الذي كان ، بمجرد انتهاء أشغال مؤتمر الصومام ، قد ذكر لمساعديه المقربين ، في لقاء مضيق ، أن " الاستقلال مؤكد ، طال الزمن أم قصر ، لكن الثورة التي ظللنا نحلم بها سوف لن تتحقق لأن فيروس الانحراف قد وجد طريقه إلى جسمها ". وتتالت ، بعد ذلك ، المناسبات التي تضاعف فيها ذلك الفيروس دون أن تنتبه القيادة العليا إلى الموت البطيء الذي كان يزحف بخطى ثابتة ، والذي وقع ،عمليا ورسميا ،على إثر انقلاب الثاني والعشرين من شهر جويلية بذات السنة . كان زيغود أكثر حيطة من رفاقه، وقد من الله عليه بالشهادة فلم يحضر مشاهد الردة التي عمت كل القطاعات بفعل ما فرضته اتفاقيات أيفيان من قيود منعت جبهة التحرير الوطني من مواصلة مهمتها الموسومة في نصوصها الأساسية . لقد كانت الاتفاقية المذكورة سببا رئيسيا في انتشار الفتنة التي عصفت ، في تلك الصائفة ، بوحدة القيادة العليا وتشتيت الطاقات الوطنية الحية التي كان من المفروض أن تتفاعل ، صفا واحدا ، لمواجهة المؤامرة الكبرى التي نسجت خيوطها الإدارة الكولونيالية قصد فتح المنافذ التي يتسلل منها صغار الزعماء ممن أبدوا كل الاستعداد للمساعدة على إجهاض الثورة . هكذا ، وقع الانقلاب على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وتم تجميد المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي كان ، إلى غاية شهر جويلية ، هو الهيأة العليا فيما بين مؤتمرين ، وأقصي من الحياة السياسية معظم أعضاء المؤسستين المذكورتين من دون أدنى سبب ،إذا استثنينا المصلحة الشخصية والتسابق نحو السلطة وروح الانتقام التي كانت تسكن أعضاء قيادة الأركان في ذلك الحين . وفوق كل ذلك وقع التخلي عن منظومة الأفكار التي اعتمدتها جبهة التحرير الوطني طيلة سنوات الكفاح المسلح ، وشرع في عملية البناء والتشييد من دون مشروع مجتمع واضح ، ومن دون الأخذ في الاعتبار للملاحظات القيمة التي تضمنها برنامج طرابلس . وبالفعل ، فإن البرنامج المذكور قد تفطن إلى كون الحكومة الفرنسية زرعت ، من خلال اتفاقيات أيفيان ، ألغاما كثيرة يحول انفجارها دون استمرارية الثورة ويمكن، بالتدريج ، من " توجيه استقلال البلاد حسب مقتضيات سياستها الاستعمارية ، مع العلم بأن فرنسا لا تعتمد ، فقط ، على قواتها العسكرية وعلى الأقلية الأوربية للحيلولة دون تطور الجزائر المسترجعة استقلالها ، بل إنها ستستغل التناقضات السياسية والاجتماعية داخل جبهة التحرير الوطني فتعمل على تكوين حلفاء موضوعيين تدفعهم إلى الانسلاخ عن الثورة قبل أن تشكل منهم قوة مضادة لها ". وأكثر من استغلال التناقضات ، فإن فرنسا كانت تراهن على الصعوبات الجمة الناجمة عن اثنين وتسعين شهرا من حرب الإبادة التي خاضتها جيوشها المختلفة والتي تركت إرثا ثقيلا يتمثل في مئات آلاف الأرامل والأيتام والمعطوبين والمصابين بالأمراض العقلية والنفسية ، وفي عديد المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تسبب فيها ، خاصة ، تسريح أكثر من مليونين من الجزائريات والجزائريين الذين كانوا يقبعون في السجون وفي المعتقلات والمحتشدات ، والذين أحدث إطلاق سراحهم ، دفعة واحدة ، أنواعا من الفوضى والاضطراب . وللتذكير ، فقط ، نشير إلى أن اتفاقيات أيفيان قد أحكمت قواعد الاستعمار الجديد ووضعت التوجهات الفكرية الضرورية لتحقيق مخطط الجنرال ديغول الرامي إلى إبقاء "الجزائر فرنسية في كثير من جوانبها حتى ولو تخلصت من الاحتلال المباشر" . ومن جملة التوجهات المذكورة ازدواجية اللغة في التعليم والإدارة والقضاء قصد فصل الجزائر عن عروبتها وترسيخ جذورها في دائرة الفرنكوفونية التي هي مذهب سياسي يرمي إلى نشر الفكر الاستعماري في البلدان التي لها استعداد لقبول التبعية بجميع أنواعها ، وإلى تعميم أنماط الحياة المؤدية إلى سلخ المجتمع عن أصالته وربطه بظروف الحياة التي لا علاقة لها بواقع الجماهير الشعبية الواسعة . إن هذه الازدواجية التي تبدو ثقافية في ظاهرها لأخطر بكثير من الاحتلال الاستيطاني . ولقد كان المفاوضون الفرنسيون يدركون هذه الحقيقة ، ويعرفون ، أيضا ، أن اللغة لا يمكن أن تكون محايدة ، كما أنها ليست مجرد وسيلة تبليغ ، بل إنها وعاء حضاري وثقافي ، وعنصر أساسي من مقومات الشخصية ، بالإضافة إلى كزنها أداة فعالة لاكتساب المعرفة ولصياغة نمط الحياة المميز للفرد والمجتمع على حد سوا . وكان يمكن التغلب على كل ما وقع من مشاكل ، والتصدي بنجاح للمناورات الاستعمارية ، بل كان من الممكن تفكيك الألغام التي تضمنتها اتفاقيات أيفيان لو لم تحدث تلك الخلافات التي أدت إلى إقصاء أغلبية القياديين والإطارات الفاعلين واستبدالهم بمن هم أقل منهم تجربة وكفاءة . وكانت كل الخلافات التي عرفتها الجزائر المستقلة حتى نهاية الفصل الأول من سنة 1963 من أجل الصدارة في مجالات السلطة فقط. وحتى تلك الخلافات التي قادت إلى أزمات دامية فإنها كانت في جوهرها مجرد تسابق على منصب الحاكم الأول في البلاد. لكن بدايات الفصل الثاني من عام 1963 كانت عكس ذلك إذ عرفت صراعا من نوع جديد يضرب بجذوره في أعماق منطلقات إيديولوجية متناقضة. فالمجلس الوطني للثورة الجزائرية كان، في دورته الأخيرة بطرابلس، قد أعاد الثقة في الحكومة المؤقتة وأوصى بأن تواصل جبهة التحرير الوطني مهمتها إلى أن يعقد المؤتمر الشامل في الأراضي الجزائرية، كما انه أوصى بان تتبع الجزائر توجها اشتراكيا في إطار المبادئ الإسلامية . لكن المجلس الوطني التأسيسي المنتخب يوم 20/09/1962 عين حكومة جديدة برئاسة السيد احمد بن بلة الذي صرح من تلقاء نفسه في ندوة صحفية، "إن الجزائر اختارت رسميا اشتراكية فدال كاسترو" التي هي الاشتراكية العلمية الماركسية اللينينية. ولقد عارض هذا الاختيار كل من الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والرئيس فرحات عباس. ورأى هذا الأخير أن الاختيار الجديد فيه اعتداء صارخ على الإسلام وعلى الشيوعية في آن واحد، إذ يحكم على الأول بأنه "صالح روحيا وفاسد اقتصاديا" وعلى الثانية بأنها "فاسدة روحيا وصالحة اقتصاديا" . ثم تنبأ بأن "الخلط بين أيديولوجيتين متناقضتين سوف يقود البلاد إلى الفوضى وإلى الشلل الاقتصادي" . وكان هذا هو أيضا، موقف السيد محمد خيضر الذي كان عليه أن يصارع على جبهتين. فمن جهة كان يتصدى لرئيس الحكومة الذي صار يمنعه من تأدية مهامه كأمين عام للمكتب السياسي ومسئول على التحضير للمؤتمر الوطني، ومن جهة ثانية كان يقف بقوة في وجه الشيوعيين الذين كانوا ، جراء الفراغ السياسي المهول ، يسعون إلى طمس أدبيات أطراف الحركة الوطنية قبل انعقاد المؤتمر . أمام كل هذه الأوضاع المعقدة ، كان الزعيم الكبير الجديد ، أي " النظام العسكري " قد أحكم خطته المتمثلة في السيطرة على جبهة التحرير الوطني يستعمل شرعيتها الثورية وفي توظيف بعض الوجوه البارزة ، سياسيا ، والمعروفة دوليا ، لكنه لم يتفطن إلى ضرورة وضع مشروع مجتمع بديل وبرنامج تنموي قوي، وإقامة تشكيلة سياسية فاعلة تعطى لمناضليها ما يجب من إمكانيات لربح ثقة الجماهير الشعبية التي هي أساس نجاح عملية البناء والتشييد .