د/محمد العربي الزبيري لقد شاهدت ، صبيحة يوم الجمعة الأخيرة ، مناظرة حادة بين الدكتورين أحمد بن نعمان ومحي الدين عميمور بثتها فضائية " المستقلة " بعنوان : الثورة الجزائرية : نظرات تقييمية واستشرافية.تمنيت ، عندما قرأت العنوان ، لو كانت التلفزيون الجزائرية هي صاحبة البث حتى تتاح فرصة المشاركة إلى أكبر عدد ممكن من الجزائريات والجزائريين القادرين على الإدلاء بدلائهم في موضوع تستحق معالجته عشرات الحصص، وتتطلب برودة أعصاب واعتماد النصوص . كانت الحصة بمناسبة إحياء الذكرى الثالثة والخمسين لاندلاع الثورة ، وقد أعجبني تمسك الدكتور أحمد بن نعمان بمنظومة أفكار جبهة التحرير الوطني قبل وقف إطلاق النار في التاسع عشر من شهر مارس 1962 ، ولفتت انتباهي عودته ، من حين لآخر ، إلى وثائق كانت مكدسة أمامه وهو ما يدل على أن الرجل بذل جهدا في الدراسة والبحث قبل الإطلالة على المشاهدين . لكن ذلك لا يعني أنني أوافقه في كل ما جاء به . وعلى العكس من ذلك ، كان الدكتور محي الدين عميمور ذاتيا، إلى أبعد الحدود ، في نظرته إلى قضايا خطيرة مثل المسار التاريخي للحركة الوطنية وإلى نكبة التعريب التي هي نتاج الانحراف الأيديولوجي ولا يتحمل مسئوليتها إلا من كانت له سلطة القرار منذ أن استرجعت البلاد سيادتها الشكلية إلى يومنا هذا . إن مناقشة كل ما جاء به الطرفان ، في تلك الحصة القصيرة ، لا تكفيها المساحة المخصصة لهذا المقال ، ولذلك سوف أتوقف، فقط ، وبكثير من الإيجاز، عند خمس نقاط هي على التوالي : 1- قال الدكتور عميمور:" إن فرحات عباس لم يحقق شيئا" ، وهذا خطأ فادح واعتداء على التاريخ الذي سجل ، في صفحاته المشرقة ، أن الرجل توقف عدة مرات في مساره السياسي، مقيما ومقوما، وهو ما لم يفعله ، قبله ، سوى الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس على إثر عودته من باريس سنة 1936 . وكان الرئيس الراحل فرحات عباس ، كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى ، يجر معه مجموعة كبيرة من الرفاق والأنصار ، ويفتح أبوابا واسعة في اتجاه النضج السياسي والأيديولوجي الذي جعل الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري يعقد مؤتمره بمدينة سطيف ، أيام 25 /26 /27 /9 / 1948 ، ويضمن لائحته السياسية ما يلي : " إن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري يندد بالاتحاد الفرنسي باعتباره امتدادا للإمبراطورية القديمة ، ويدين نظام العسف والاستبداد المفروض على الشعب الجزائري بعد ثلاث سنوات من تحرير فرنسا ، ويعلن عن استعداده للنضال حتى يحقق الشعب الجزائري طموحاته الوطنية التي تجسدها الجمهورية الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية " . ألا يرى الدكتور الفاضل أن ذلك هو الهدف نفسه الذي حددته جبهة التحرير الوطني في بيان أول نوفمبر ؟ معنى ذلك أن فرحات عباس كان سباقا في تحديد نظام الحكم الجزائري بعد استرجاع الاستقلال الوطني ، وبديهي أن في ذلك دليلا قاطعا على وعي الرجل السياسي وتفاعله مع تطور الحركة الوطنية وعلى أن نشاطه ، في سائر المجالات ، قد حقق نتائج إيجابية كثيرة تستحق التنويه والتوقف ، مليا ، عندها حتى يعطى كل ذي حق حقه . وفي سياق الحديث عن الحق ، تجدر الإشارة إلى مقال نشره السيد فرحات عباس سنة 1936 يرد فيه على الفرنسيين والتغريبيين من الجزائريين الذين لاموه على مطالبته بترسيم اللغة العربية . لقد جاء في صلب المقال المذكور : " إذا كان المسيحيون يؤمنون بأن الكنيسة هي وسيلتهم للاتصال بالمولى عز وجل ، فإن اللغة العربية هي التي تقوم بذلك الدور بالنسبة للمسلمين لأنها لغة القرآن الكريم ". 2- قال الدكتور عميمور : " إن رئيس الحكومة ورؤساء الأحزاب ، وليس رئيس الدولة ، هم الذين يتحملون مسئولية نكبة التعريب في الجزائر ". إن هذا الحكم لغريب من مثله ، خاصة والجميع يعلم أن رئيس الحكومة ، في بلادنا ، كان دائما وما يزال مجرد موظف يطبق تعليمات رئيس الدولة ، وأن الحكومة كلها لا تعمل وفقا لبرنامج مسطور مستنبط من مشروع مجتمع واضح المعالم ومصادق عليه ، بعد المناقشة ، من طرف أغلبية المواطنات والمواطنين. وكان يمكن ألا يصاب التعريب بنكبة لو أن الذين تولوا زمام الحكم ، في الجزائر ، منذ الإعلان عن استرجاع الاستقلال الوطني، كانوا من المؤمنين بالتعريب كشرط لا بد منه لاستعادة السيادة كاملة ، ولو لم تسند مناصب الحل والربط ، في معظمها ، إلى من اتفق على تسميتهم بالطلقاء . ففي هذا المجال ، تجدر الإشارة إلى أن حجج الدكتور أحمد بن نعمان كانت دامغة ، في حين ظل الدكتور عميمور يدور في حلقة مفرغة حتى أنه لخص حركة التعريب في " خمسة أشخاص كانوا يجولون كافة أنحاء الجزائر لترسيخ المبدأ " . لا أر يد ، هنا ، أن أدخل في جدال مع الدكتور حول "الأحرار الخمسة" الذين ذكرهم والذين لم يكن أغلبهم قد شارك بالفعل في حملات التعريب التي قامت بها جبهة التحرير الوطني خاصة في عهد الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد ، والتي تألقت فيها أسماء كثير من المناضلين الذين ضربوا المثل في التضحية بأتم ما في الكلمة من معنى . حدث ذلك بينما كان بعض الذين نوه بهم الدكتور يلتزمون الحياد السلبي ويرفضون اتخاذ المواقف الصريحة خوفا من أن يتهموا بالرجعية والتزمت . إنني لا أظن أن الذين عاشوا سنوات السبعينيات من القرن الماضي ،سواء في الشارع أو في الجامعة ، يستطيعون، اليوم ، نسيان تلك المعارك الطاحنة التي خاضها عديد الطلبة والأساتذة ضد الإدارة في كل القطاعات من أجل تعريب المحيط وتعريب التعليم والعدالة على وجه الخصوص . ولقد كان الدكتور أحمد بن نعمان موفقا في اختيار الدليل على مناهضة القيادات العليا للتعريب عندما أشار إلى أنها كانت ترفض إسناد مناصب الحل والربط إلى المعربين المؤمنين بالمبدأ . لكن النزاهة تقتضي استثناء الرئيس الشاذلي بن جديد الذي بذل جهدا كبيرا لترسيخ التعريب وإحلاله مكانته الحقيقية. يكفي التذكير ، هنا ، بما أنجزته المدرسة الأساسية ،وبكل التعليمات التي كان يصدرها لحمل الإطارات ، بكل مستوياتهم ، على تعلم اللغة العربية . وفي عهده ، أيضا ، نفيت اللغة الفرنسية من أشغال مجالس الوزراء والحكومة، وكان المسئولون السامون يجتهدون للحديث باللغة الرسمية كلما تعلق الأمر بالسيادة الوطنية . وفي عهده ، كذلك ، صدر قانون تعميم استعمال اللغة الوطنية الذي يوجد ، حاليا ، رهن الاعتقال بفعل فاعل ، ولم تكف صرخات الجماهير الشعبية الواسعة لإطلاق سراحه . مع العلم أن رئيس الدولة وحده هو الذي يستطيع الإفراج عنه ، وهو أمر غير وارد في الوقت الحالي على الأقل . وفيما يخص رؤساء الأحزاب ، فالدكتور يعرف جيدا أنهم بعيدون عن السلطة الفعلية بعد السماء عن الأرض ، غير أن ذلك لا يعني أن الأحزاب لا تتحمل جزءا كبيرا من مسئولية ما يرتكب من جرائم ضد الثقافة في بلادنا . ويعود ذلك ، طبعا ، إلى كونها لا تتوفر على الشروط الضرورية لقيام التشكيلات السياسية ، ولأن نظام الحكم يريد ذلك حتى لا يحدث التغيير الذي قد يذهب بالمصالح الشخصية . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فإن الأحزاب المتعددة ، في بلادنا ، قد وقعت فبركتها ، فقط ، لمحاربة جبهة التحرير الوطني أو، على الأصح ، لطمس معالم مشروع المجتمع الذي كانت تدعو إلى تجسيده على أرض الواقع ، والذي ظلت تبذل كل ما في وسعها ليبقى قائما يذكر الأجيال بتوجه ثورة نوفمبر الخالدة . ولأن الأحزاب لم تؤسس في إطار مشروع مجتمع واضح المعالم ، ولأنها لم تنطلق من مرجعية فكرية بينة ، ولأنها ، نظرا لذلك ، لم تعد سوى مصالح تهريج تحركها الإدارة متى شاءت لتخدير الجماهير الشعبية ، أو للقيام بدور التيس المحلل ، فإنها قد أضاعت كل مصداقية أمام الأغلبية الساحقة من الشعب وفقدت قدرتها على تأدية رسالة التوعية والتعبئة والتوجيه والرقابة . وإذا كان هذا هو حال أحزابنا السياسية ، فكيف نحملها مسئولية الإفلاس العام الذي يطبع واقع البلاد ، اليوم ، ويمنعها من الخروج إلى دائرة الضوء لإعادة الربط مع المؤسسات المنتخبة بحرية وديمقراطية، بعيدا عن كل تدخل من أية جهة كانت، ولكي يسترجع الشعب حقه في اختيار مسئوليه وفي مشاركتهم الفعلية أثناء قيامهم بالواجب الوطني . ( يتبع )