بات ذهاب الحكومة الحالية برئاسة الوزير الأول نور الدين بدوي شبه مؤكد، وفق مؤشرات كثيرة وتسريبات متواترة عن قرب الرحيل المحتوم، ومع ذلك، قد تحدث المفاجأة ولا يرحل! تصاعد الخرجات الإعلامية لعديد الفاعلين في المشهد السياسي حول ضرورة استقالة آخر حكومة رسّمها عبد العزيز بوتفليقة نهاية شهر مارس الماضي لا تنطلق من الفراغ، بقدر ما تصبّ في عملية التسخين السياسي تهيئةً لانسحابها المبرمج، حسب مراقبين، وهو ما يجعل من الخطوة المرتقبة مكسبا مهمّا على طريق الحراك في نظر الرأي العام، بعد ما تصدّر إبعاد فريق بدوي أولويات مطالبه منذ شهور. وإذا كان استمرار الوزير الأول وطاقمه في مهامه الحكومية يبقى واردا ولو بهامش ضئيل يكاد يؤول إلى الصفر، فإنّ تشديدات رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، محمد شرفي، على ضرورة الاستقالة يوحي أن الأمور محسومة، في انتظار ترتيبات زمنية فقط، وهو ما يعززّه ربط مرشحين محتملين، في صورة علي بن فليس وعبد الرزاق مقري، وحتى عبد العزيز رحابي، لنزاهة الانتخابات، بالتخلّي عن الحكومة الموروثة عن عهد ما قبل 22 فبراير، لأنّ ذلك سيحرّرهم من عقدة الجماهير الرافضة للانخراط في العملية الانتخابية، ومن ثمّة يفتح أمامهم الآفاق وأمام السلطة، في توفير فرسان ومناخ لموعد 12 ديسمبر المقبل. وما يزيد من قرائن ترحيل الحكومة القائمة، الذي سيأتي حتمًا على شكل استقالة طوعية، تناغما مع القيود الدستورية، هو سكوت رئيس الدولة المؤقت بشأنها، في لقائه الأخير بأعضاء لجنة كريم يونس، في موقف يناقض الاعتراض المبدئي الذي أبداه عبد القادر بن صالح خلال الاستقبال الأول لهيئة الحوار والوساطة، بحجة المانع القانوني. استعمال ورقة رابحة بعد نهاية مهمة ويعتقد متابعون للشأن الحكومي أن فريق بدوي قد أنهى إعداد الملفات الحاسمة في هذه المرحلة، على غرار قانوني “السلطة المستقلة” ونظام الانتخابات، فضلاً عن مشروع قانون المالية، وتقريرها لجملة من التدابير ذات البعد الاجتماعي، ما يجعل مغادرتها أقلّ تكلفة الآن. وسبق لمراقبين أن توقعوا منذ فترة قبول السلطة بترحيل الحكومة، مدرجين تأجيل مصيرها ضمن منطق إدارة التفاوض ولعب الأوراق الرابحة في الوقت المناسب، ويبدو اليوم، برأيهم، أن الموعد مناسب ولا يحتمل التأخير في إشهارها، بعد استنفاد كل المراحل اللازمة، لاستيعاب قطاع واسع من المشككين في مسار الانتخابات وظروف تحضيرها، بهدف الاطمئنان إلى مخرجاتها الشعبية. ولا شكّ أن إزاحة حكومة بدوي من المشهد العام في هذا التوقيت الحرج سيضعف حجج المرتابين وأولئك المراهنين على دفع المواطنين نحو العزوف لإجهاض المسار الانتخابي، وبالتالي تعزل أصحاب المطالب التعجيزية والأجندات الحزبية، وتسحب البساط من تحت أرجل المغامرين الذين برهنوا من خلال “الرفض المزمن” أنهم لا يؤمنون أصلا بالاحتكام إلى الصندوق، بل يبحثون عن وضعيات الانسداد لأجل التفاوض السرّي من وراء ظهر الشعب، حتّى ولو أقررْنا أن هناك انشغالات أخرى مشروعة، ربما تثير الشكوك، وعلى السلطة أن تعمل أكثر على التفاعل معها إيجابًا، بما يكرّس بيئة تنافسية وشفافة في الاستحقاق المقبل. هل ترحل الحكومة جماعيّا أم جزئيا.. وكيف تواصل عملها؟ من جهة أخرى، تثير استقالة الحكومة قبل ثلاثة أشهر من الموعد الرئاسي عدّة إشكالات تتعلق بحجم التغيير وسيناريوهات الاستخلاف، وهنا يطرح البعض عدة فرضيات. وبشأن الجزئية الأولى، فإنّ مراقبين يرجحون، بالنظر إلى الضغط الزمني، أن يمسّ التعديل رأس الوزارة الأولى فقط، وبعض الوزارات ذات الصلة اللوجستية بالانتخابات، أو تلك القطاعات الحساسة التي يشرف عليها وزراء محسوبون على المحيط الضيق لنظام بوتفليقة سابقا، دون حاجة إلى ترحيل كلّي لأعضاء الجهاز التنفيذي. أما بخصوص الجزئية الثانية، فإنه يجب تعيين وزير أول وطاقم وزاري لتعويض الفريق المنسحب في الوضع العادي، لكن الرئيس المؤقت لا يتمتع بهذه الصلاحية وفق المانع الدستوري المقرر في المادة 194، ما يضع الرئاسة أمام ورطة قانونيّة لو رغبت في ذلك. قد يعود البعض إلى سابقة تسمية بلقاسم زغماتي في وزارة العدل خلفًا لسليمان براهمي المُقال، وفق بيان الرئاسة، لتبرير حقها في التصرف الحكومي، لكنّ آخرين يعتبرون أنّ مؤسسة الرئاسة عدلت عن سلوكها بترك منصب وزارة الثقافة شاغرا، عقب استقالة مريم مرداسي، وكلفت وزير الاتصال حسان رابحي بتسيير القطاع بالنيابة، ما يعني، حسبهم، أنها تراجعت ضمنيّا عن موقفها الأول، دون أن نغفل الفرق من حيث الأهمية والحساسية بين القطاعين، في سياق ثوري يلاحق تركة سلطة بائدة نخرها الفساد. وبالتالي ستكون الرئاسة إن قرّرت استخلاف بدوي وجماعته، في حاجة إلى فتوى من المجلس الدستوري، كأعلى مرجعية قانونية في البلاد، مع ما يثيره الأمر من لغط إضافي، حول شرعية هذا الاجتهاد الدستوري وسلامة فحواه، بل ومصداقية الهيئة ذاتها، وكل ذلك سيشكل عبئا سياسيّا يُفترض أن تكون السلطة في غنى عنه. وعليه يتوقع مراقبون أن تلجأ رئاسة الدولة إلى تكليفات بالنيابة في كل المواقع الوزارية الشاغرة، من مبنى الدكتور سعدان إلى باقي الوزارات، مثل ما حصل سابقا في عدة محطات انتخابية رئاسية، على غرار تعويض يوسف يوسفي، وزير الطاقة، بصفة مؤقتة، لوزيره الأول آنذاك عبد المالك سلال في 2014. ويسند هؤلاء استشرافهم لإدارة العمل الحكومي بالعوائق الدستورية أولا، ثم الأسباب السياسية كذلك، ذلك أن الاستخلاف المباشر سيطرح دون شك خلافات حادّة حول البدائل المناسبة، وكلّ الأسماء المحتملة قد تستفز طرفا ما، وتعقّد من إحداثيات المعادلة المتشابكة أصلا، كما أنّ تعيين طاقم جديد ظرفي لأجل مرافقة الانتخابات، ثمّ التخلّي عن خدماته كاملا بعد أسابيع، بموجب صعود رئيس جديد لقصر المرادية نهاية العام الجاري ليس أمرًا محبّذا، لأنه يؤثر أكثر على سمة الاستقرار المؤسساتي، وسيكون مكلفا اقتصاديا، في منعرج حرج، تجتهد السلطة في تقليل أضراره بكل الطرق الممكنة. وتبقى كل هذه التكهنات مجرد قراءات أولية لمشهد ضبابي يحتمل كل الفرضيات إلى أن يثبت العكس.