مقدمة المترجم: إن الهدف من ترجمة هذا المقال، والذي قد يجد فيه القارئ الجزائري والناطق بالعربية عموما وجهة نظر قد تبدو للوهلة الأولى شاذة، هو إبراز قراءة أخرى مختلفة لما يحدث حولنا. قراءة ومقاربة يتبناهما كثير من كبار العلماء في الطب وعلوم الأوبئة، قد نعرض ترجمة لآخرين منهم في الأيام القادمة. إن هذا المقال لا يعبر عن قناعة المترجم ولكن الغاية الرئيسة منه هي وضع القارئ الجزائري والناطق بالعربية عموما وكذلك أصحاب القرار أمام مقاربة علمية دقيقة ترى الأزمة من زوايا مختلفة، زوايا لا يطرقها الاعلام العالمي ، إعلام يسحب الرأي العام العالمي واصحاب القرار السياسي ودوائر ودول ومن ورائهم شعوب في اتجاه واحد. اتجاه قد لا يكون بالضرورة هو الاتجاه العقلاني الذي يحفظ الأنفس والبشرية، فالمسألة ليست بالضرورة "اقتصاد مقابل عدد من الأنفس"، كما قد يتصور البعض، ولكنها قد تكون مقاربة" عدد من الأنفس مقابل عدد أكبر من الأنفس"، من دون انقاذ الأنفس الأولى!. "في خضم استحكام جائحة الكورونا، إننا نتخذ قرارات من دون معلومات جديرة بالثقة" البروفسير John P.A. Ioannidis، جامعة ستانفورد، أمريكا (*) ترجمة: جمال ضو مرض فيروس كورونا الحالي، كوفيد-19، أُعتبر أنه الجائحة التي تحدث مرة في القرن، ولكن هذا قد لا يعدو كونه مهزلة الأدلة التي تحدث مرة في القرن. في الوقت الذي يحتاج فيه كل شخص لمعلومات افضل، ابتداءً من المختصين في نمذجة الأمراض وانتشارها إلى الحكومات إلى من هم تحت الحجر الصحي أو التباعد الاجتماعي، نفتقد شواهد وأدلة موثوق فيها حول عدد الإصابات بفيروس سارس-كوف-2 أو من لا يزالون يتعرضون للإصابة. إننا بحاجة لمعلومات أفضل لإرشادنا في اتخاذقرارات وإجراءات ذات دلالة كبيرة ومتابعة تأثيراتها. فهناك إجراءات شديدة القسوة تم اعتمادها في عدد كبير من الدول. فإذا ما تلاشت هذه الجائحة- إما من تلقاء نفسها أو بسبب هذه الإجراءات- فإن إجراءات قصيرة المدى تشمل التباعد الاجتماعي الشديد والغلق التام يمكن تحملها. ولكن إلى متى يجب أن تستمر مثل هذه الإجراءات إذا ما استمرت هذه الجائحة في التحرك بلا هوادة؟ كيف يمكن لصانعي السياسات أن يحددوا ما إذا كان ما يقومون به نفعه أكبر من ضره؟ ايجاد لقاح أو عقار في المتناول يحتاج شهورا، وربما سنوات، لتطويره واختباره بشكل صحيح. وفي ظل هذه الآجال الزمنية فإن تبعات إجراءات الغلق الكلي طويلة المدى مجهولة تماما. المعلومات والاحصائيات التي جُمعت لحد الآن حول عدد المصابين وعن كيفية تطور الوباء لا يمكن تماما الوثوق فيها. فنظرا لمحدودية علميات الكشف لحد اليوم فإن عددا من الوفيات، ومن المحتمل أغلبية الاصابات بفيروس كورونا- 2 ، لا نعلمه. فنحن لا نعلم هل نحن نخطئ في تقدير الاصابات بمعامل 3 مرات أو 300 مرة. فثلاثة شهور بعد تفشي الفيروس، أغلب الدول، بما فيها الولاياتالمتحدة، تفتقد القدرة على إجراء عمليات كشوف على عدد ضخم من الناس، ولا دولة لديها احصائيات موثوق فيها عنمدى انتشار الفيروس وسط عينة عشوائية تمثل عامة الناس. هذا الاخفاق التام في معرفة الشواهد يخلق عدم يقين كبير بخصوص خطورة الوفاة بسبب كوفيد -19. فمعدلات الوفيات المعلن عنها، مثل المعدل الرسمي 3.4% لمنظمة الصحة العالمية، تسبب رعبا، ولكن لا معنى لها. فالمرضى الذين كانت نتائج الكشف عن اصابتهم بكوفيد -2 إيجابية غير متناسب مع اولئك الذين لديهم أعراض شديدة وتبعات سيئة. بحكم أن أي نظام صحي لديه سعة كشف محدودة، الاختبار المتحيز للعينات يمكن أن يزداد سوءا في المستقبل القريب. الحالة الوحيدة التي تم فيها الكشف عن عينة بشرية مغلقة هي حالة الرحلة البحرية على السفينة Diamond Princess ومسافريها المحجور عنهم صحيا. معدل الاصابات القاتلة هناك كان 1%، ولكن هذه العينة هي إلى حد كبير مجموعة بشرية من كبار السن،وسطها يكون معدل الوفيات بكوفيد-19 مرتفعا. بإسقاط معدل الوفيات في تلك السفينة على معدل التركيبة البشرية لسكان الولاياتالمتحدة فإن معدل الوفيات وسط المصابين بفيروس كورونا سيكون 0.125 %. ولكن بما أن هذا التقدير يعتمد على احصائيات ومعلومات صغيرة – كان هناك فقط ثمانية موتى من بين 700 مسافر مصاب في السفينة- فإن معدل الوفيات يمكن أن ينزل إلى خمس مرات أقل (0.025% ) أو يرتفع إلى خمس مرات أكبر ( 0.625%). من الممكن أن بعض المسافرين المصابين سيتوفون لاحقا، أو ربما أنهم يعانون من أمراض مزمنة- عوامل تزيد من خطورة تبعات الاصابة بفيروس سارس-كورونا-2 لديهم- أكثر من عامة الناس. بإضافة عوامل عدم اليقين هذه إلى بعضها فالتقدير المعقول لمعدل الوفيات في الولاياتالمتحدة يكون بين 0.05% و 1%. هذا الهامش الكبير يؤثر بشكل ملحوظ على مدى خطورة الجائحة وما يجب القيام به. فعلى مستوى السكان، معدل وفيات 0.05% أقل من معدل الوفيات بالأنفلونزا الموسمية. إذا كان هذا المعدل صحيحا فإن غلق العالم مع كل تبعاته المحتملة والهائلة اجتماعيا وماليا الهائلة يمكن أن يكون غير عقلاني تماما. فالأمر يشبه فيلا هاجمه قط أليف، ومن شدة هلعه ومحاولته اجتناب القط، يقفز خطأ من جرف ويموت. فهل يمكن أن يكون معدل الوفيات بكورونا-19 بهذا الصغر؟ البعض يقول لا، مشيرين إلى معدل الوفيات العالي لدى كبار السن. لكنه من المعلوم منذ عقود أنمعدل الوفيات بسبب ما يعرف بالكورونا"المعتدلة" يمكن أن يصل حتى إلى 8% وسط كبار السن في دور رعاية المسنين. في الواقع الكورونا " المعتدلة" تصيب عشرات الملايين سنويا ويُعزى إليها وفاة ما بين 3% إلى 11% في مستشفيات الولاياتالمتحدة ممن يعانون من التهابات تنفسية أقل حدة كل شتاء. فيروسات كورونا "المعتدلة" هذه يمكن اقحامها في آلاف عديدة من الوفيات سنويا عبر العالم، بالرغم من أن الأغلبية منها لا يتم توثيقها بعد كشف دقيق، وعوضا عن ذلك تضيع وسط 60 مليون وفاة لأسباب مختلفة سنويا. بالرغم من وجود أنظمة متابعة ناجحة للأنفلونزا منذ فترة طويلة، الاصابات التي يتم تأكيدها مخبريا تمثل أقلية صغيرة من الحالات. في الولاياتالمتحدة مثلا، هذا الموسم تم الكشف عن 1,073,976 حالة ومن بينها 222,552 (أي 20.7%) حالة ايجابية للأنفلونزا. في نفس الفترة، العدد المقدر للإصابات بأعراض مرض الأنفلونزا هو بين 36 مليون و 51 مليون، وعدد وفيات مقدر بين 22,000 و 55,000 . لاحظ عدم اليقين بخصوص الوفيات بسبب الأنفلونزا: هامش 2.5 يمثل عشرات الآلاف من الموتى. كل سنة بعض حالات الوفاة هذه تكون بسبب الأنفلونزا أو فيروسات أخرى مثل الكورونا"المعتدلة"، أو ما يعرف أيضا بنزلات البرد العادية الناتجة عن فيروسات كورونا. في سلسلة من عمليات التشريح استهدفت الكشف عن فيروسات الجهاز التنفسي في عينة من 57 من كبار السن ممن توفوا خلال موسم أنفلونزا من 2016 إلى 2017 ، تم العثور علىفيروسات أنفلونزا في 18 % من العينات، بينما تم العثور على فيروسات الجهاز التنفسي الأخرى في 47% من الحالات. في بعض ممن توفوا بسبب اصابات فيروسية تنفسية، أكثر من فيروس عُثر عليه بالتشريح وغالبا البكتيريا حاضرة. لهذا فإن نتيجة ايجابية للكشف عن فيروس كورونا لا يعني بالضرورة أن الفيروس هو السبب الأول المسئول عن وفاة المريض. إذا افترضنا أن معدل الوفيات بسبب كورونا -2 هو 0.3% وسط عموم السكان- وهذا مجرد نسبة مخمنة من تحليل حالة الرحلة البحرية Diamond Princess – وأن 1% من سكان الولاياتالمتحدةالأمريكية انتقلت إليهم العدوى ( حوالي 3.3 مليون نسمة)، فهذا سيترجم إلى 10,000 حالة وفاة. هذا يبدو للوهلة الأولى رقما كبيرا، ولكن هذا يدفنوسط تقديرات عدد الوفيات بسبب أمراض شبيهة بالأنفلونزا. إذا لم نكن نعلم بوجود فيروس جديد هناك، ولم نقم بعمليات الكشف الفردية باستعمال كشوفات PCR ، عدد الوفيات الكلي بسبب أمراض تشبه الأنفلونزا لن يبدو غير عادي هذه السنة. في أسوأ الأوحال يمكن أن نلاحظ أن نزلات البرد هذا الموسم اشد من المعدل العادي. التغطية الاعلامية لهذه الظاهرة تكون أقل من تغطية مباراة NBA بين الفريقين الأقل أهمية في الدوري. البعض يشعر بالقلق أن عدد الوفيات 68 بسبب كورونا-19 في الولاياتالمتحدة إلى غاية تاريخ 16 مارس سيتصاعد بشكل أسي إلى 680 ، 6800، 68000، 680000.. بنفس النمط الكارثي عبر العالم. فهل هذا سيناريو معقول أم علم خيال؟ كيف نعرف عند أي نقطة يتوقف المنحنى؟ المعلومة القيمة الأكثر أهمية للإجابة على هذه الأسئلة هي معرفة كيفية انتشار العدوى حاليا بين عينة عشوائية من الناس واعادة الدراسة خلال فترات زمنية منتظمة لتقدير حدوث اصابات جديدة. المؤسف أن هذه المعلومات لا نمتلكها. في ظل غياب المعلومات، منطق "استعد للأسوأ" يؤدي إلى اجراءات تباعد اجتماعية قاسية وحجر كلي. للأسف لا نعلم ما إذا كانت هذه الإجراءات ستنفع. غلق المدارس، مثلا، يمكن أن يُنقص معدل انتقال العدوى. ولكن يمكن أن يرتد علينا عكسيا ما إذا مارس الأطفال التواصل بأي شكل، إذا أدى اغلاق المدارس إلى قضاء الأطفال مزيدا من الوقت مع أقارب كبار في السن وأضعف مناعة،..إلخ. كما أن غلق المدارس قد يقلل من حظوظ توليد الأطفال لمناعة القطيع ضمن فئة عمرية تجنبهمأمراضا خطيرة. فكرة مناعة القطيع كانت هي الدافع للمملكة المتحدة لترك المدارس مفتوحة، على الأقل إلى غاية كتابة هذه الاسطر. في ظل غياب معلومات عن المسار الحقيقي للوباء، لا ندري ما اذا كانت وجهة النظر هذه رائعة أم كارثية. تسطيح أو تسوية المنحنىلتفادي انهيار النظام الصحي تبدو نظريا فكرة جيدة. وهي صورة انتشرت على نطاق واسع في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول كيفية جعل منحنى الوباء ينزل تحت العتبة التي لا يمكن للنظام الصحي تحملها والتعامل معها في الوقت الحالي. الآن، إذا لم ينهر النظام الصحي تحت وطأة الكورونا، أغلبية حالات الوفاة الأخرى يمكن ان تكون ليس بسبب فيروس كورونا ولكن بسبب أمراض وحالات معتادة مثل السكتات القلبية، سكتات دماغية، نزيف، وما شابه لأنها لم تعد تلقى العناية الكافية. إذا أدى مستوى الوباء إلى انهاك المنظومة الصحية بالفعل والإجراءات القاسية كانت ذات فعالية محدود، فإن تسطيح المنحنى يمكن أن يجعل الأمور أسوأ: بدل أن يُنهك النظام الصحي خلال فترة قصيرة، حادة، سيبقى النظام الصحي منهكا إلى فترة ممتدة. وهذا سبب آخر يجعلنا بحاجة إلى معلومات عن مستوى نشاط الوباء. من بين الأمور الأساسية هنا أننا لا نعلم إلى أي مدى يمكن الإبقاء على اجراءات العزل الاجتماعي والحجر الكلي من دون تبعات كبيرة على الاقتصاد، المجتمع والصحة العقلية للناس. تطورات غير متوقعة يمكن ان تظهر، من بينها أزمات مالية، عدم استقرار، صراع أهلي، حرب، انهيار النسيج الاجتماعي. نحتاج على الاقل معلومات غير متحيزة عن انتشار وحصول العدوى لترشدنا في اتخاذ القرار. في أسوأ السيناريوهات الممكنة، والذي لا أتبناه، إذا ما اصاب الفيروس 60% من البشرية و1% منهم توفوا، وهذا يترجم إلى 40 مليون وفاة عالميا، معادلا رقم جائحة الأنفلونزا الاسبانية، فإن الأغلبية سيكونون ممن معدل حياتهم المتوقع ضعيف. على عكس جائحة الأنفلونزا الاسبانية لسنة 1918 أين توفي كثير من صغار السن. المرء يمكنه فقط أن يأمل أن تستمر الحياة، مثلما كان عليه الحال سنة 1918. بينما بالعكس، الغلق الكلي لشهور، إذا لم يكن لسنوات، الحياة بشكل كبير ستتوقف، تبعات قصيرة وبعيدة المدى مجهولة تماما، وملايير، وليس فقط ملايين، من الأنفس يمكن أن تكون في النهاية على محك. إذا قررنا أن نقفز من الجرف، نحتاج بعض المعلومات لندرك ونعرفمدى عقلانية ما نقوم به وماهي حظوظنا بالنزول بأمان في مكان ما. (*) John P.A. Ioannidis هو أستاذ الطب وعلوم الأوبئة والصحة السكان، وأيضا بروفسير شرفي للطب الحيوي في جامعة ستانفورد لكلية الطب، بروفسير شرفي للإحصاء في جامعة ستانفورد للعلوم الانسانية والعلوم، والمدير المشارك لمعهد METRICS بجامعة ستانفورد.