يواصل العقيد محمد الطاهر عبد السلام في الحلقة الثانية في حواره مع "الشروق" سرد شهادته، حول المآلات والتبعات التي لحقت بالبناء الهرمي للمنظمة الخاصة "لوس" بعد اكتشافها من طرف المصالح الفرنسية، ثم ينزل بنا إلى قاع الخلاف السحيق، بين المصاليين والمركزيين، الذي كاد أن يقضي على الكيان الحزبي خاصة، والحركة الوطنية عامة، لا سيما في هدفها المنشود وهو إشعال فتيل الثورة وانتزاع السيادة. ويشرح المجاهد محمد الطاهر أسباب وإثارة هذه "الفتنة" الحزبية العاصفة، والتي مهدت لبزوغ خيار ثالث تمثل في ميلاد اللجنة الثورية للوحدة والعمل، على يد رجال المنظمة الخاصة، الذين أخذوا على عاتقهم "خيار الضرورة" بالذهاب للكفاح المسلح مباشرة، في عملية نأي تام عن مناورات ومماحكات المصاليين والمركزيين وشنآنهم العقيم. وعرج المتحدث على الإرهاصات الأولى للجنة الثورية للوحدة والعمل في تبسةوسوق أهراس، ناهيك عن انضمامه إليها على يد الشهيد باجي مختار، مبرزا ملابسات استشهاده مع رفاقه. ماذا عن الأربعة الخاطفين، كيف كان مصيرهم؟ تم اعتقال اثنين منهم في واد زناتي، كما تم اعتقال عمار بن عودة في عنابة، وبدوره كشف للمصالح الفرنسية عن البناء الهرمي للمنظمة الخاصة "لوس" في عنابة، وتم القبض عليهم، وقد بلغ عدد المعتقلين من رجال المنظمة الخاصة، من تبسة إلى مغنية زهاء 1200 مناضل، وقد تمت محاكمتهم، فيما تراوحت الأحكام ما بين سنة واحدة إلى ثلاث سنوات، وفي هذا المقام أختم برأي شخصي لا ألزم به أحد، لو قدر ولم تكتشف المنظمة الخاصة "لوس" لكان انطلاق الثورة أفضل بكثير مما انطلقت عليه في 1 نوفمبر 1954. ما هو مآل المنظمة الخاصة بعد اكتشافها على المستوى الحزبي؟ تم تجميد نشاطها من طرف الحزب، بالمقابل تكفل الحزب بالمعتقلين عندما انتدب لهم كوكبة من المحامين للدفاع عنهم مع تسديد مستحقاتهم، كما تكفل الحزب ماليا بعائلاتهم، عندما شرع في جمع التبرعات لعائلات المساجين عبر دفتر يسمى (دفتر دعم ضحايا القمع) ناهيك عن قيام الحزب بالرد السياسي والإعلامي على الإدارة الفرنسية عندما أطلق مصطلح "المؤامرة" لحماية الحزب قانونيا وسياسيا. وفي هذا المقام يمكنني التنويه بما تعرض له بعض مناضلي تبسة، فمثلا الطيب مسلم (والد الوزيرة مونية مسلم) تم حجز بيته من طرف الإدارة الفرنسية، وقد مسّ الضر مناضلي تبسة وضواحيها والمقدر عددهم ب 1200 مناضل بعد اكتشاف المنظمة الخاصة، وكان لكل مناضل أتباع ومتعاطفون، كون هؤلاء يتمتعون بالسمعة الطيبة وبالقدوة الحسنة، بل هم رمز للتضحية والتفاني. كيف ذلك؟ هل ممكن أن تسمح لي باستكمال فكرتي حول نوعية المناضلين تفضل.. سأضرب مثالا في غاية الوطنية السمحة من خلال نوعية المناضلين السالفي الذكر، فمن ثمار الحركة الوطنية فكرا وممارسة في تبسة وغيرها، تمكنت من اجتثاث ورم العرقية وتفكيك لغم العروشية، وتجفيف مستنقع الجهوية، وتقديم الكفاءات الوطنية على حساب النعرات القبلية، فالمعروف في تبسة يتقاسمها عرشان حضورا ونفوذا، وهما النمامشة وأولاد سيدي يحي، فمحمد العمري المكنى "بحما" كان يشتغل في السكك الحديدية، هذا الأخير من المكون الاجتماعي الوافد على تبسة والذين ينحدرون من أولاد الدراج (ضواحي بريكة والمسيلة) رشحه الحزب لرئاسة بلدية تبسة وقد تم التصويت عليه بالإجماع، هذه القيم النبيلة والعقيدة الوطنية الصلبة انهارت تماما، ومن مكارم هذا الرجل، تشييده لمسكن محترم لبناته الخمس حتى يسكنّه، لكنه آثر على نفسه وحوّله لمدرسة ووهبها لحزب الشعب وأشرف عليها الشيخ عبد الحفيظ بدري كمدير لها، وكانت هذه المدرسة تحصد النتائج الأولى متفوقة على كثير المدارس بما فيها مدرسة الشيخ العربي تبسي. كيف عايشتم أزمة الحزب عشية الانقسام بين المركزيين والمصاليين؟ كانت الإرهاصات الأولى سنة 1953، حيث تمت دعوتنا إلى اجتماع حزبي فجأة، وقد ترأسه مراقب الحزب في الشرق، صافي بوديسة المكنى "أحمد الماريكاني" (إن لم تخني ذاكرة) وقام لنا باستفتاء داخل هذا الاجتماع، والسؤال هو كالآتي: بعد استقلال الجزائر هل سيكون النظام ملكي أم جمهوري؟ ومن يكون الملك في حالة الملكية؟ ومن يكون الرئيس في حالة الجمهورية؟ وقد تم الاستفتاء في مقر الحزب، وخلصت نتيجة الاستفتاء بالإجماع لصالح مصالي الحاج، فهو الملك في حالة الملكية، وهو الرئيس في حالة الرئاسة. ما الهدف من هذا الاستفتاء؟ الراجح عندي هو عملية سبر آراء القواعد، ومدى تمسكها بمصالي الحاج كزعيم. هذا من جهة المصاليين، ماذا عن المركزيين أو أعضاء المنظمة الخاصة "لوس"؟ عشية الأزمة جاء ديدوش مراد بمعية مساعد له قادمين من قسنطينة كممثلين للحزب، وتم الاجتماع في بيت خمام الساكر، وقد اقترح علينا في هذا الاجتماع التزام الحياد في هذا الصراع الدائر بين المركزيين والمصاليين، مشدّدين على المحافظة على وحدة الحزب، والاستعداد للذهاب إلى الثورة، وبعد النقاش فهموا أننا مع الشرعية (مصالي الحاج) ونحن بدورنا فهمنا أنهم من جماعة "لوس". ما هو موقف المناضلين في تبسة في عز هذا الخلاف؟ تبسة كانت تعج بمئات المناضلين من الحركة الوطنية، كانوا بمثابة شعلة، لكن غداة الانقسام انكمش عددهم وصار يعدّ على الأصابع كمناضلين ينشطون، ومرد هذا التقلص يعود لقناعة المناضلين الذين كانوا يتأهبون لاندلاع الثورة ومادام –حسبهم- لم يعد فيه موعدا للثورة، ففضلوا الانسحاب باتجاه بيوتهم، حتى ينأون بأنفسهم من الصراع، ويربؤون بحزبهم عن الانقسام. هل يمكن رصد أسباب الانشقاق بين المركزيين والمصاليين حسب وجهة نظركم؟ حسب قناعتي المتواضعة، الحزب لما اتسع وكبر استقطب عديد المتعلمين والمثقفين، وأغلبهم من خريجي المدارس الفرنسية وكان لهذه المدارس تأثير عليهم، وانعكس ذلك على مواقفهم داخل الحزب. كيف تم ذلك؟ لقد تصرفوا داخل الحزب على أنه حزب ديمقراطي لا حزب ثوري، وعشية نشوب الخلاف بين المركزيين والمصاليين، فالذين اتبعوا مصالي كانوا من البوادي والذين اتبعوا اللجنة المركزية كانوا من خريجي المدارس الفرنسية، وكمناضل عايش هذا الانشقاق، يمكنني القول والحقيقة تقال إن أغلبية الأغلبية كانت مع مصالي الحاج وخاصة القواعد، وآية ذلك أن تبسة كان فيها 1200 مناضل، فمن ساروا في ركب المركزيين يعدون على الأصابع وقد تعرضوا للضرب والتوبيخ في الشارع، من طرف المصاليين تحت مبرر أنهم انحرفوا عن خط الحزب الثوري. أي الفريقين اخترت وعلى أي معيار ومقياس تم الاختيار؟ أصدقك القول بعد 80 حولا ونيف، لا زالت قناعتي راسخة وموقفي ثابتا، بأن المركزيين كانوا على خطأ، وأنهم ظلموا مصالي الحاج من خلال لائحتهم التي تدعو إلى إلغاء منصب رئيس الحزب، وطبعا الهدف من ذلك واضح وجلي، هو زحزحته من رئاسة الحزب. أليست هذه وجهة نظر متحيزة لموقعك وموقفك؟ كلا…لأن رأينا في مصالي الحاج، أنه رجل ثائر يدعو للثورة، أما المركزيون فهم مجرد جهاز بيروقراطي، يريد أصحابه النضال داخل المكاتب، وهنا يمكنني ترك ملاحظة تخص مناضلي تبسة، عشية استفحال الانقسام التزموا بيوتهم ولم يرغبوا في الدخول في هذه الانشقاق، حتى لم يبق بها إلا زهاء عشرين مناضلا ينشطون من المصاليين. انبثق من رحم هذا الانشقاق خيار ثالث على يد مناضلي "لوس"، سمّي باللجنة الثورية للوحدة والعمل، كيف بلغكم نبأها وكيف تعاطيتم معها؟ ذهبت للشهيد الهادي زمالي مناضل قديم، يكفي أن ديدوش مراد عندما ينزل تبسة يقيم عنده، ففاتحته بخصوص قراري بالانسحاب من الحزب في ظل هذا الانقسام، رد قائلا: وما يدريك أن الثورة ستنطلق غدا؟ ثم أشار إلى الصندوق الخشبي الذي كنت أجلس عليه قائلا: وما يدريك أن هذا الصندوق محشو بالسلاح؟ ثم ختم كلامه بدعوتي إلى عدم الفشل، في سبتمبر 1954 التحقت بباجي مختار في سوق هراس، حيث انتميت إلى اللجنة الثورية للوحدة والعمل. كيف باشرتم نشاطكم من خلال اللجنة الثورية للوحدة والعمل؟ في سبتمبر من سنة 1954 كنت عائدا من مخيم الكشافة بلباس الكشفية، وأثناء مروري بجنب المقهى نادى عليّ المناضل الكبير رحيّم بولحية، وأشار إلى شخص بجنبه قائلا "هذا يمشي معاك"، فطلب مني رحيم بولحية نزع اللباس الكشفي والعودة لهم (ممنوع الجلوس بالبزة الكشفية في المقاهي) فلمّا عدت لهم، قدم لي إبراهيم هوام موفد الشهيد باجي مختار والقادم من سوق أهراس، طلب مني المجيء إلى سوق أهراس للعمل معهم في محل خياطة، فرفضت، قام ثم استدار قائلا: ثمة ما هو أهم، تلقفت قصده، ثم أردف قائلا: يوم الاثنين القادم انتظرك في المحطة، ومتى نزلت تراني من بعيد فاتبعني، وتم السفر يوم الاثنين 16 سبتمبر عبر القطار، عندما نزلت ساحة السردوك رأيته يلبس قشابية ونحن في عز الحر، تقدمت نحوه فأشار عليّ فاتبعته، حتى وصلنا محل خياطة، قدم لي رجلا على الفور قائلا: هذا الحاج علي السوفي. من هو الحاج علي السوفي؟ مناضل من أخلص الرجال، ينحدر من مدينة واد سوف، وهو من جماعة 1948 الذين حاربوا في فلسطين، وبعد توقيف حزب الشعب، ذهب إلى القاهرة وكانت تربطه علاقة جد طيبة بالمناضل الرمز عبد الكريم الخطابي وكذلك بأحمد بن بلة، هذا الأخير أرسله سنة 1954 كقائد عسكري، باشرنا الجلسة بنقاش حول الخلاف الدائر بين المصاليين والمركزيين وأبديت له تمسكي بشرعية مصالي، لكن حشرني في زاوية النقاش بسؤاله: هل أنت مع الثورة؟ أجبت: لو يقوم بها شلومي (يهودي) سيجدني في صفه، هنا صافحني وقال لي اتفقنا، وضرب لي موعدا على الساعة السادسة لمقابلة باجي مختار الذي لم أكن أعرفه أو أعرف عليه شيء. كيف تم اللقاء مع باجي مختار؟ جاء في الوقت المحدد والتقينا عند رصيف شارع الجمهورية، فأشار إليّ فالتحقت به ودار النقاش ونحن نسير على الرصيف، وخاطبني أنهم في ذروة تحضيرهم للثورة وحسبه ستندلع قريبا، وطلب مني اقتراح اسم من رجال المنظمة الخاصة الذين كانوا معه في السجن من تبسة، حتى ينضم إلينا في مشروعنا الثوري، فأشرت على اسم أحمد علاق، مباشرة وافق ثم كلفني بالاتصال به، حيث سلمني سي مختار قصاصة مختوم عليها بالفرنسية "كريا" وهي مختصر اللجنة الثورية للوحدة والعمل، مستوصيا أن يتكفل أحمد علاق بضم ما يمكن من رجالنا في تبسة إلى مشروع الثورة، ثم أشار علي أنه في حالة أي اتصال عاجل، يمكنني الاتصال بالحلاق سي الطيب، مانحا إياي كلمة السر "يالله يا محمد" والتي أقولها عند جلوسي متى دخلت محل الحلاقة، توجهت لتبسة وأبلغت الرسالة لأحمد علاق، وهنا ينبغي علي الإشارة أن كل من علي السوفي وإبراهيم هوام بمجرد وصولي لسوق اهراس، قد غادرا باتجاه الجبل ملتحقين برفاقهم مبكرا قبل اندلاع الثورة، وبعد استشهاد القائد العسكري علي السوفي خطأ على يد رفاقه، تحتم على باجي مختار الصعود للجبل لقيادة مرؤوسيه. ما هي الظروف التي استشهد فيها باجي مختار وكيف بلغكم نبأ ذلك؟ استشهاد باجي مختار في 18 نوفمبر 1954، تمّ على إثر وشاية، حيث تم تطويقه في ضواحي مزاج الصفاء رفقة 17 من إخوانه المجاهدين، وبعد معركة أبلوا فيها بلاء حسنا، سقط فيها شهيدا رفقة 4 شهداء، من بينهم باجي مختار وعنتري مسعود واثنان آخران، فيما تم أسر 13 مجاهدا، وقد جاءني مناضل من البادية من بني بربار، وأكد لي استشهاد سي مختار، طالبا مني مغادرة سوق أهراس على عجل، قبل إلقاء القبض عليّ، منبها أنني رفقة كثيرين من المناضلين تحت رقابة المصالح الفرنسية ومنهم مجموعة تم القبض عليها، فأخذت القطار وسافرت إلى تبسة، وبمجرد وصولي التقيت مع الشريف فارس صدفة، فسألني هل حقا استشهد باجي مختار؟ فأجبته: بالنفي (للتمويه) وأنها لا تعدو كونها مجرد دعاية من طرف المستعمر، مؤكدا له أني البارحة كنت معه حتى لا أحبط معنويات المناضلين في الأيام الأولى من الثورة. كيف كان مصير إبراهيم هوام؟ تم القبض عليه في المعركة التي استشهد فيها باجي مختار، هذا الأخير هو من جاءني قادما من طرف باجي مختار الذي كلفه أن ينتقي له شابا من تبسة للانضمام اللجنة الثورية للوحدة والعمل، إبراهيم التقيته فيما بعد رفقة الطاهر زبيري في السجن بقالمة، في هذا المقام أختم أن إبراهيم هوام كان مسؤول الحزب في الونزة، كلفته المنظمة الخاصة بحضور مؤتمر بلجيكا الذي نظمه مصالي الحاج حتى ينقل لهم كل تفاصيل ما حدث، وهو رجل نقي وتقي حافظ لكتاب الله وملم بالفقه، صعد الجبل وهو في عمر متقدم. يتبع