يستمر العقيد محمد الطاهر في نثر كنانة شهادته، حول ملابسات اعتقاله وظروف محاكمته، ناهيك عن رحلة السجون الطويلة، بدءا من سجني تبسةوقالمة ومرورا بسجون كدية وسركاجي ووهران وانتهاء بسجن برواقية، ولقائه داخلها بكوكبة من رواد الحركة الوطنية ورجال اللحظة النوفمبرية، مثل دماغ العتروس وعبد الرحمان كيوان ومولاي مرباح وعثمان بلوزداد وزبير بوعجاج ومفدي زكريا وشهيد المقصلة أحمد زبانة. عدتم من سوق أهراس إلى تبسة بعد استشهاد باجي مختار، كيف واصلتم نشاطكم الثوري؟ ذات مرة كنت مع رحيم بولحية، جاء الشيخ بلقاسم البيضاوي من عين البيضاء، حيث أخبرنا أنه عائدا لتوه من عند مصالي الحاج، وقد روى لنا محتوى نقاشه معه، حيث سأله كيف تشعل الثورة ولا تخبرنا بها؟ أجابه مصالي قائلا: الثورة لم نكن نحن وراء تفجيرها، بل إخوانكم من جماعة "لوس" هم من فجروها، وأنصحكم الالتحاق بها لأن الثورة –حسبه- إن فشلت فلن نستطيع فعل أي شيء في 25 سنة (ربع قرن). كيف باشرت السلطات الاستعمارية موجة الاعتقالات؟ بعد الاعتقالات اكتشفنا أن بن سي سعيد الشريف قبائلي من مواليد تبسة، مسؤول عسكري كلفه كمال ساكر على منطقة النمامشة، هذا الأخير اتصل بدربال لمين عن طريق مناضلين من بئر العاتر، منهم صالح سليماني وصالح سكتة وأحمد سلامة وعطاف لخضر، جميعهم تم القبض عليهم بعد استشهاد لمين دربال، هذا الأخير كان في الأصل متمردا رفقة عائلته على الاستعمار، فطلب منه أن يكون مسؤولا على منطقة النمامشة بدلاً عنه، فرد عليه: أنا أمّي لا أحسن القراءة والكتابة، لكن هذه رقبتي عربون اجعلوها فداء للثورة، تم تعيينه ومنح له ختم مسؤول على النمامشة، لكنه استشهد يوم 22 ديسمبر 1954، ولقد تم اعتقال إخوته الثلاثة بأولادهم الحفناوي ومسعود وإبراهيم وحكم عليهم بخمس سنوات. ما هي الأسباب التي أدت إلى سلسلة الاعتقالات ؟ في منطقة الزاوية ثمة شباب يلتقون داخل دكان يخوضون في السياسة ويتناقشون حول الثورة، وقد استرق جار لهم السمع فبلغ بهم الشرطة، فتم اعتقالهم، وهم خمسة من الشباب لم تتجاوز أعمارهم عشرين سنة، وتم الحكم عليهم بثلاث سنوات سجنا، فيما تم قتل الخائن المبلغ عنهم واسمه عبد الرحمان، وأثناء تعذيبهم نطق أحدهم وأخبرهم، أن المسؤول عنهم هو الطاهر بن جدو، وعلى الفور تم اعتقاله وأخضع لتعذيب ثمانية أيام حتى انهار من شدة التعذيب، فطلب منهم أن يطلقوا سراح الشباب كونهم غير متورطين، ثم قدم لهم قائمة أسماء الخلية وهم: أحمد علاق وكمال ساكر وعبد الرحمان الفاسي، ورحيم بولحية ومحمد الطاهر وبن سي سعيد الشريف وحسين بوزيدي. ماذا حدث بعد الحصول على قائمة الأسماء؟ تم اعتقالهم جميعا وكان ثمة ضابط شرطة يسمى محمد غريب وطني مؤمن، خاطبه كمال ساكر قائلا له: قد تم اعتقالي سنة 1950، وأنه الآن يعاني من مرض السل، ولا يقوى على التعذيب، وإن يخضع له سيذكر كل سكان تبسة، ثم صارحه أنه يملك 20 مسدسا وشبكة من العلاقات مع المناضلين، طالبا منه أن يمكنه من الهروب، فاستجاب لطلبه حيث وضعه في فناء مركز الشرطة، وأغلق عليه الباب ليمكنه من الهرب عبر السور، وفعلا تمكن من الفرار وبات ليلته في بيته ثم غادره متنكرا في لباس "لحاف" سيدات، حتى وصل إلى تونس ثم انتقل إلى ليبيا واستقر بها وكان جد مقرب من بن بلة أيام إقامته وتردّده على ليبيا، وقد أبرق لنا ساكر توصية شفهية، يطلب فيها منا عدم الهروب، وقد انضبطنا، لأن هروبنا –حسبه- سينجر عليه تطويق تبسة وسيتم كشف التنظيم. ما هي الظروف التي تم اعتقالكم فيها؟ تم القبض علي ليلا في البيت المنزلي، بعد وشاية من طرف مفتش شرطة من تبسة يشتغل في سوق أهراس اسمه محمد بورقعة، وعند وصولي إلى مركز الشرطة، وجدت قد سبق اعتقال حسين بوزيدي وبن سي سعيد ورحيم بولحية وعبد الرحمان الفاسي وأحمد علاق، وتم ذلك في 25 ديسمبر 1954. هل من تفاصيل عن مجريات التحقيق معكم؟ تمت مواجهتي مع طاهر بن جدو فسأله المحققون، هل هذا محمد الطاهر؟ أجاب بنعم، ثم التفت لي وخاطبني وهو يتحسر، أنا قد انتهيت (صحيا) وأنت لازلت شابا يافعا ويمكنك أن تخدم بلدك، ملتمسا مني أن أعترف حتى لا أتعرض للتعذيب، وقد تم عرض تقرير الاعترافات عليّ، فاعترفت بأنه مسؤولي المباشر، وأن دوري يرتكز على توزيع الجريدة، كذلك اعترفت بأني ذهبت إلى سوق أهراس للعمل في محل خياطة، فشرعوا مباشرة في ضربي بسياط والركل والصفع ثم التعذيب بالماء عبر ثلاث جلسات، فاعترفت لهم بدوري السياسي أما الثوري فقلت لهم بأنه يكذب عليّ (للتمويه). كيف تعاملوا مع اعترافاتك؟ ضابط المباحث سألني قائلا: لو يطلب منك مسؤولك الطاهر بن جدو وضع قنبلة في المحكمة هل تزرعها؟ قلت: لا، رد وهو يستفزني بتعقيبه، هكذا تكون خائنا لأوامر قادتك، انفعلت ولم أتمالك نفسي ومن دون شعور، قلت له: لو يطلب مني قتلك سأنفذ فيك الأمر فورا، هنا طلب الضابط من المحقق أن يدوّنها في المحضر ويوقف التحقيق. كم دام مكوثك عندهم؟ بقينا في مركز الشرطة نحو ستة أيام من التحقيق المرفوق بالتعذيب، وكان في هذا المركز مفتش شرطة اسمه أحمد بن الفاتح هو من قام بتوقيف كامل المجموعة، تجرأ علينا ووجه لنا كلمة جارحة قائلا "ألمان وطاليان ومغلبوش فرنسا واش ربحتو نتوما الآن، وأمهاتكم يبكين عليكم وانتم في الحبس وزعماؤكم في المنافي خيضر وبن بلة، هل زيكم رايح يخرج فرنسا"، مردفا "كل قصتكم عندكم بندقية و50 كرتوشة واحد يتكلم و49 ما يتكلموش حابين تخرجوا فرنسا روحو للحبس الآن"، تم تحويلنا لقاضي التحقيق الذي بدوره أودعنا السجن. كيف عشتم أيامكم الأولى من سجنكم؟ عشتها بصدمة استعمارية لا تزال محفورة في جوارحي، تظهر مدى خبثه ومكره في تلطيخ الثورة، فعشية دخولنا للسجن طلب منا الشهيد شريف حشايشي شقيق الجنرال حشايشي (كان شرطيا) تأديب شخص اسمه رويغي رواق، كونه أساء للثورة بقدومه رفقة زوجته على أكل ابنتهما، مشيرا أن جريدة "كونسنتين ديباش" قد عنونت الصفحة الأولى بهما. كيف أكل ابنتهما؟ فاتحنا رويغي في الموضوع فروى لنا القصة ومفادها، أن ابنته خرجت من البيت تلعب فتاهت في أحراش الغابة، كونه يسكن في الجبل، فخرج للبحث عنها فلم يعثر عليها، فتوجه للدرك وأودع شكوى بذلك، لكن الدرك بدل أن يساعده في البحث عنها راح يتهمه بهتانا بأنه أكل رفقة زوجته ابنته وأرغمه على التوقيع على محضر التهمة وتم سجنه برفقة زوجته وابنه الرضيع محمد ذي ستة شهور، تألمنا لسماع قصته التي أراد الاستعمار تحريفها، عبر آلته الإعلامية الجهنمية لشيطنة هذا الشعب الملتف حول ثورته، ولتشويه سمعتها بغية إعطاء صورة مقززة وهمجية عن الشعب الجزائري. كيف تعاملتم مع الموضوع؟ ظهر مستجد في قضيته نودي عليه للذهاب للقاء القاضي المسمى ماركتي، فأستوصيناه أن يواجه بتمسكه برواية الدرك الملفقة، سأله القاضي هل أكلت ابنتك رفقة زوجتك؟ قال له نعم؟ سأله القاضي مجددا، هل أنت متأكد وثابت من قولك؟ أجابه رويغي: نعم، وكما جاء في تقرير الدرك، قام القاضي وفتح درجه وأخرج منه خرس (قراط) ثم سأله هل هذه تعرفها، فبكى مباشرة وأجابه بنعم (تعود لابنته)، رد القاضي لقد عثرنا على جزء من جسد ابنتك بعد أن أكلها الذئب في الغابة، وقرّر القاضي إطلاق سراحه، لكن رد عليه رويغي: "هذه هي عدالة فرنسا التي قاجيت على جالها"، وفي هذا المقام أتمنى أن يكون محمد على قيد الحياة ويتعرف على قصته التي عمرها 66 سنة. نعود للمناضل الصلب كمال ساكر، كيف انتهى مصيره بعد تمكّنه من الفرار؟ كمال ساكر أدرك الاستقلال وكان من مقربي الرئيس أحمد بن بلة ناهيك عن كونه عضوا في المجلس التأسيسي، لكن بعد الانقلاب سنة 1965 تم تهميشه، وسأضرب مثالا عن نزاهة هذا الرجل، كانت ثمة مزرعة تابعة لجيش التحرير في ليبيا مدوّنة باسمه (المزرعة الجزائرية النموذجية) ولم يستغلها يوما أو يستحوذ عليها، وعندما حصل على ترخيص من شريف بلقاسم عندما كان مسؤولا للحزب، للاستفادة منها اعترض عليه علي كافي الذي كان سفير الجزائر في ليبيا، بل نزعها منه وتنازل عليها لصالح السلطات الليبية، نكاية في ساكر الذي كان مقربا من أحمد بن بلة، لخلافات بينهما. بالعودة لسجنكم، كيف جاءت مجريات محاكمتكم؟ تبسة لم تكن بها محكمة كونها بلدية، فقط تتوفر على قاضي تحقيق فيما المحاكم كانت متواجدة على مستوى باتنةوقسنطينةوقالمة، والتهمة التي وجهت لنا هي المساس بأمن الدولة الفرنسية في الداخل والخارج، والمادتان المتعلقتان بها 82 و83، وقد تم نقلنا نحن الستة إلى سجن قالمة، التقينا هناك بالموقوفين القادمين من مدينة الونزة وسوق أهراس، منهم إبراهيم هوام وطاهر زبيري، أما المحاكمة فقد تمت في باتنة، وصدر الحكم في حقي بسنتين سجنا لصغر سني، وهنا ينبغي مني الإشادة بالموقف الرجولي لإبراهيم هوام، فأثناء المحاكمة أنكر صلته بي حتى يخفّف عني الحكم. ما هو رد فعلكم عند النطق بالحكم؟ كانت لنا تعليمات صارمة من طرف الحزب، وفحواها مهما كان الحكم ولو بشهرين ينبغي رفضه مباشرة عبر الاستئناف، وهو ما قمنا به حيث استأنفنا الحكم الابتدائي، وكان الاستئناف يتم على مستوى العاصمة، ومنه تم نقلنا نحن الستة إلى العاصمة، فيما تم نقل إبراهيم هوام وطاهر زبيري إلى قسنطينة، وهذا الأخير هناك التقى بمصطفى بن بولعيد وفرّا سويا من السجن. هل تحدثنا عن تفاصيل محنة السجون؟ رحلة السجون انطلقت من تبسة إلى قالمة ثم الكدية بقسنطينة، وانتهى بنا المطاف في سركاجي، هذا الأخير كان عبارة عن ملتقى سياسي وفكري، كونه يعج بكوكبة من خيرة المناضلين من رواد الحركة الوطنية والثوار الذين اعتقلوا ليلة غرة نوفمبر، خاصة منهم أعضاء اللجنة المركزية الذين كان يفوق عددهم 20 عضوا، أذكر منهم دماغ العتروس وعبد الرحمان كيوان ومولاي مرباح، معتقدين أن حزب الشعب هو من كان وراء تفجير الثورة، وبعد أن تأكدوا أنهم ليسوا كذلك، تم إطلاق سراحهم وفق الإفراج المشروط تحت التوقيع على بندين، الأول منه الاعتراف بعدم تفجير الثورة، والثاني عدم مواصلة النشاط السياسي، باستثناء مولاي مرباح الذي تأخر إطلاق سراحه إلا بعد شهرين، بسبب موقفه عند ملء الاستمارة ومفاده أنه لم يشارك في الفعل الثوري لكنه موافق عليه. من هي الأسماء التي قاسمتك الزنزانة؟ عثمان بلوزداد وزبير بوعجاج وعباسي مداني، وفي وقت لاحق تم جلب مجموعة من النوفمبريين من قسنطينة وبوفاريك والغرب الجزائري، منهم الكتروسي والزروق وعثمان، وهم من المفجرين في تلمسان ليلة أول نوفمبر، وقد تأثرت كثيرا بالشيخ الكتروسي الذي كان يدرب المجاهدين ويعدهم للثورة على طريقة الصحابة، حيث كان يقول لهم "فلتجمعوا بين القرآن والقتال". بعد سجن سركاجي ..أين كانت الوجهة؟ ثم نقلنا إلى سجن وهران عبر القطار وكنا في تعداد 170 سجين ومكثت فيه سنة ونصف سنة، ومن بين الذين التقيتهم قويني عبد القادر المكنى بناصر، رفيق العربي بن مهيدي وعبد الحفيظ بوصوف، هو من قام بمعركة لمفرده ليلة أول نوفمبر ببندقية صيد في تموشنت، وفي هذا السجن تم إخضاعنا للأعمال الشاقة من خلال صناعة حبال البواخر من الحلْفاء، فكانوا يرفضون أن ننفضها من الشوك، حتى غدت أيدينا سوداء ومثخنة بالجراح. هل من مآس أخرى تود الحديث عنها من أيام محنة السجن؟ بودي أروي قصة تظهر مدى بشاعة المستعمر، فقد كان معنا سجين اسمه عبد القادر محكوم عليه بالإعدام في قضية حق عام، وكان هو طباخ السجن، ذات يوم كان يعد طبق الكسكس وأثناء صعوده ليحرك القدر بمجرفة نحاسية زلت رجله وسقط في القدر، فتم إخراج بعض أجزائه وترك ما تبقى من جسده يطهى دون توقف أو استبدال الوجبة، ورغم اعتراض زملائه السجناء الذين يطبخون معه، إلا أن إدارة السجن أصرت على تقديمها لنا بصفة عادية دون علمنا، حتى مرض جميع المساجين بالتسمم، وقد مات سجين معنا من مشونش (باتنة) اسمه محمودي محمد متأثرا بهذا التسمم. تزامن وجودكم في سجن وهران مع تواجد شهيد المقصلة أحمد زبانة، هل من تفاصيل عنه؟ الشهيد أحمد زبانة لم نكن نلتقيه لأنه محكوم عليه بالإعدام، يتم إخراجه كل يومين للفناء لمدة ساعة أو ساعتين ثم يتم إدخاله للزنزانة، يمر من أمامنا مكبل الرجلين واليدين بالسلاسل ويمشي على عكازين، وأثناء مروره في الرواق يحيّ المساجين بيديه المكبلتين مرفقة بابتسامة وهو يردد تحيا الجزائر، لكن الفيلم الذي أخرجه أحمد راشدي وكتب نصّه عز الدين ميهوبي، أساء إلى تاريخه وشخصه ورمزيته وحتى لتاريخ الجزائر. كيف أساء له؟ كان يفترض أن يكون الكاتب ملمّا بكل حيثيات شهيد المقصلة أحمد زبانة، فمثلا كانت رجله اليسرى مكسورة فكيف يقدم في الفيلم على أنه سوي القدمين؟ وفي الأصل كان يمشي بالعكازين، ناهيك عن أنه فقد عينه اليسرى يوم اعتقاله، كثير من التفاصيل المهمة تم إخفاؤها وإغفالها، فمثلا كان المعمّرون يأتون كل أحد أمام السجن مطالبين بإعدامه، وقد تم نقله من وهران إلى العاصمة عبر القطار وتحت حراسة مشدّدة وبتغطية طائرة، مخافة أن يتعرضوا لكمين على يد المجاهدين لتحريره.