منذ الشروع في تحرير هذه الخواطر حول "فتن المسلمين بين الشبهة والبيان" التمست العذر من القارئ وقلت إنني: "لست مختصا لا في التاريخ الإسلامي، ولا في المواضيع الأكثر تعقيدا كتلك التي لها صلة بالصراعات والخلافات الأصولية المذهبية والفقهية، التي استحضرها وتستحضرها الأطراف المتنازعة على السلطة منذ نشأة دولة المسلمين" لأجل ذلك لا يعول علي كثيرا للفصل برأي معلل حول واحد من أخطر المواضيع التي لم يحسمها الفكر السياسي الإسلامي، وظل يزاور حولها ويمتنع من طرح الإشكالية كما يجب أن تطرح، لأن المسألة لا تخرج عن أحد الأمرين: الأول: هل الخلافة كمؤسسة حكم، هي مؤسسة ونظام وحكم قد أمر بها الشارع بهذا المصطلح مصطلح الخلافة، ونص عليها بما لا يترك أي فسحة للمسلمين للاجتهاد أو التأويل؟ الثاني: أم أنها كما زعم علي عبد الرازق ليست من الدين، والقول: "بعدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة؟" ويبقى السؤال مطروحا على العلماء والفقهاء وعلى بقية النخب الفكرية المسلمة، لأن حسمه وتحقيق إجماع معلل بشأنه، بشواهد من القرآن والسنة كفيل بتجنيب الأمة الانزلاق إلى الفتن التي كانت وما تزال تنشأ على هامش الصراع على السلطة، بما فيها الفتنة الكبرى التي نقلت إمارة المسلمين من الحكم المؤسس على الشورى إلى الملك العضوض، وقسمت المسلمين إلى شيعة وسنة يكفر بعضهم بعضا. ولأجل ذلك توقفت مطولا عند حادثة سقيفة بني ساعدة التي شهدت تراضي الصحابة من المهاجرين والأنصار على تولية إمارة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بشكل سلس ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله وسمح بقيام حكم راشد قد تجل بأفضل صوره ومعانيه في عهد الخلفاء الأربعة بتفاوت في الاجتهاد بينهم له مبرراته وظروفه. أسئلة فرعية كثيرة سوف تطرح علينا ونحن نتعقب مواقف الصحابة رضوان الله عليهم في اليومين الذين أعقبا وفاة سيد المرسلين: أولا: ما الذي حمل صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أن يكونوا على الأقل في ثلاثة مواقع: أنصار على وشك تأمير واحد منهم هو سعد بن عبادة، ومهاجرون على رأسهم الصديق وعمر يسارعون للتشاور مع إخوانهم الأنصار، وفريق ثالث منه علي والزبير وقد تخلفا عن البيعة حين عقدت بالمسجد حتى دعيا إليها؟ ثانيا: هل كان الخلاف بين الصحابة على طبيعة الإمارة، أم على من له الحق في إمارة المسلمين أم حول طريقة اختيار وبيعة الخليفة؟ ثالثا: لماذا وصف الخليفة عمر ما حدث في سقيفة بني ساعدة ب"الفلتة" وقال: ألا وأنها كانت فلتة وقانا الله شرها"؟ رابعا: هل كان الحوار بين الصحابة يدور حول "ولاية أمر المسلمين" أم عن خلافة رسول الله؟ دعونا نتوقف عند هذه الأسئلة وقد سبق الإجابة عن بعضها في حلقات سابقة، ونؤجل البقية لوقت لاحق، ونعود إلى بداية القصة حول سقيفة بني ساعد، ونسأل: ما هو الحادث الذي حفز سيدنا عمر على فتح ملف سقيفة بني ساعدة وهو خليفة؟ لنقف عند بيت القصيد، وعند الموقف الشرعي الذي لم يكن ليختلف حوله اثنان، يكشف لنا لاحقا كيف أن الفتنة الكبرى لم يكن مقدر لها أن تنشأ مع حرص الصحابة رضوان الله عليهم على إنفاذ النص الشرعي الآمر بالشورى، ثم اجتهاد الخلفاء الأربعة في إدارة الأمر بهدي من الكتاب والسنة.