تشدّد الشاعرة الصاعدة "شاهيناز برّاح" على أنّ الثقافة في الجزائر هي "آخر اهتمامات صُنّاع القرار، والهيئات الثقافية وما أكثرها، هياكل بلا روح"، لكن ذلك لا يؤثر في منظور "برّاح" على المقروئية، طالما إنّ الجزائريين "متعطشون للكتاب، والكتّاب يلعبون أدوارهم الريادية والطلائعية كما ينبغي". في حوار خاص ب"الشروق أون لاين"، تحلم "شاهيناز برّاح" ب"الانتصارات في زمن الهزائم"، وتقول إنّها "تحاول تقمص هموم هؤلاء الذين يموتون في صمت، ويتألمون في صمت"، وتبرز "شاهيناز" إنّ "مِخيال الشاعر حرّرته المشاعر والأحلام الكثيرة، كما حرّرته آلام الشارع وآلام الذين لا صوت لهم، والمبدع لا قيود تُكبّله، يصرخ حينما يُريد ذلك، ويغني حينما يريد الغناء". تابعوا نصّ الحديث: شهيناز برّاح إسم ناعم يراقص القافية، قدّمي نفسك للقرّاء .. أنا مبدعة ناشئة، مازلت أخطو الخطوات الأولى، أبحث عن فضاء يُمكني من قول ما إستقر في زنزانة الروح، أقول وجداني بصدق وحُريّة، وأحلم بالإنتصارات في زمن الهزائم... بدأت الكتابة في عمر مُبكر مقارنة بأترابي، وعشقت الحرف ومازلت مُغرمة به، أتنفس عبقه ورياحينه، وبه أعيش يومياتي فطوري الشعر غذائي الرواية وعشائي القصة. ماذا عن اللون الشعري الذي تفضلينه، وهل تعتزمين التنويع في الموضوعة والنمط، أمْ الوفاء لضرب شعري محدّد؟ أفضل القصيدة النثرية التي أرى إنها تُعطيني مساحة للتعبير والحكي، أما النمط فيفرض ذاته تَبَعًا للأحاسيس والمشاعر التي أحياها، فأنا أتأثر مثلما يتأثر غيري، والقصيدة وليدة لحظتها. أي قراءة تمنحيها لمسار الشعر النسوي في الجزائر حاليا، وهل تؤيدين القائلين بتواري القصيدة لصالح الرواية؟ لا أحبّذ التصنيفات والقوالب الجاهزة، الشعر هو الشعر، سواء كُتب من طرف امرأة أم من طرف رجل، إنما هناك أصوات فرضت ذاتها، وصَنَعَتْ مجدها ومازالت، هؤلاء قدّموا خدمة جليلة للإبداع لا يمكن نكران جميلهم، هُم عَبّدوا طريق الشعر، ورسّخوا القيم الإنسانية النبيلة، فلم يَبق لنا إلا تلوين المسار بالجماليات، سواء التي نستقيها من التراث أو من الحداثة، ويكفي أن نذكر هذه الأسماء الخالدة خلود الكلمة: محمود درويش، بدر شاكر السياب، سعاد الصباح، أدونيس، فدوى طوقان...إلخ أما القول بتواري القصيدة لصالح الرواية فهو قول مردود، وغير مؤسّس...للقصيدة أفقها ومساراتها وعالمها، وللرواية فضاءاتها، والكلّ يصبّ في بوتقة الإبداع، والمستقبل لهذه الكلمة الأخيرة – الإبداع- والجمال دون ذكورة أو أنوثة. هل تشاطرين الأصوات القائلة بوجود أزمة ثقافة في الجزائر؟ وكيف تقيمين نمط عمل الهيئات الثقافية المحلية؟ الأزمة الثقافية إن وُجدت فهي من صُنع سياسي، فهو الذي يُقرر النهج والهدف وحتى النوايا، وهو الذي يُحدّد الزوايا والمنحنيات والآفاق بياضها وسديمها... يكفي ذكر حجم ميزانية الثقافة ومقارنتها مع ميزانيات أخرى لنعرف الحقيقة المرّة، الثقافة عندنا آخر إهتمامات صُنّاع القرار، والهيئات الثقافية وما أكثرها، هياكل بلا روح. قدّر استبيان حديث في الجزائر، نسبة المقروئية بنحو 6.8 بالمئة، إلى ماذا يعود ذلك برأيك؟ وما الدور الذي يمكن لجمهور الكتاب في الجزائر أن يلعبوه على صعيد استعادة نهم القراءة بين مواطنيهم؟ أرى إنّ الإستبيان المذكور جانب الحقيقة، حضرت معرض الكتاب المُقام مؤخرا بالعاصمة، ولاحظت مدى تلهّف الجمهور لاقتناء الكتاب مهما كانت نوعيته وإختصاصه، والطرح في الأساس يُضمر خبايا ونوايا أُعدّت مسبقا، القصد منه تقزيم الثقافة والعلم والفكر... القارئ متعطش للكتاب، والكتّاب يلعب أدوارهم الريادية والطلائعية، كما ينبغي في ظل الغلاء الفاحش مع سقوط كارثي للعملة الوطنية، رغم ذلك هناك من يدفع ألف دينار لشراء رواية أو مجموعة شعرية، فالمقروئية بخير في ظل منافسة شرسة من طرف الأنترنيت، التلفزة ...إلخ ما المسافة الفاصلة الآن بين القصيدة والمتلقي في الجزائر، أو بالأحرى ما مدى تناغم الإبداع والشارع، ما الذي يمكن للعمل الأدبي الجديد أن يقوله هناك؟ المسافة قصيرة قِصر البصر من الشيء، والعلاقة حميمية وحارّة، والتناغم يُشكل سمفونية رائعة بما تحمله من ألق وزهو وعنفوان، أما عن العمل الأدبي الجديد يقول أشياء كثيرة منذ الأزل في البدء كانت الكلمة... إلى راهن مسكون بالضبابية والقلق، مع ذلك هناك أنظمة أسقطتها الكلمة ورفعتها الكلمة... ماذا يمثل لك الإبداع وماذا يعني لك الأدب، وهل طقسك الأدبي يميل إلى التحديث أم المواربة ؟ الإبداع يُمثل لي الكثير، والأدب بشكل عام يعني لي الكثير، أنا أتنفس الكلمة، ولولا الشعر لما كانت هذه "الشاهيناز". أما عن طقوسي الأدبية، فأنا بكل تواضع أحاول ترجمة أحاسيسي وذاتي بطريقتي الخاصّة، كما أحاول أن أتقمص هموم هؤلاء الذين يموتون في صمت، ويتألمون في صمت. أميل إلى كل ما هو إنساني يحمل قيمة، وأحاول تفكيك هذه المتناقضات التي ميّزت عصرنا، بما يحمله هذا العصر من شك وغموض وعنف ومواربة... في القصيدة، مخيال الشاعرة يتبدى أكثر وضوحا وحقيقية وجنونا من صورتها في المرآة، هل تؤيدين هذا التصور؟ مِخيال الشاعر حرّرته المشاعر والأحلام الكثيرة، كما حرّرته آلام الشارع وآلام الذين لا صوت لهم، والمبدع لا قيود تُكبّله، يصرخ حينما يُريد ذلك، ويغني حينما يريد الغناء. كيف لي إذن أن أكتشف عوالمي دون دليل بيتٍ تغمره الموسيقى الشعرية، يلج في كياني لينسج ترانيم قصيدة جديدة ... المرآة أحيانًا قد تعكس صورة الجسد، ولا تعكس صورة الروح، وصورة المشاعر، لذلك لا أؤيد هذا التصور البتّة. هل تؤمنين بتهيئة من يتعاطون الشعر لأرضية إبداعية، يستلهمون منها شواغلهم وتشنجاتهم وخراباتهم وطموحاتهم واقتراحاتهم واحالاتهم وانزياحاتهم، أم المسألة تفرض إنزياحا نحو توشية مشتلة مقهورة وقاهرة في الوقت ذاته ؟ تعاطي الشعر لا يُعد تهمة، وإن كُنت من الذين يريدون أن تُلصق بهم هذه التهمة وما أجملها. أليس الشعر خراب المعنى ... أليس الشعر "فاليوم" الروح... أليس هو تلك الرعشة التي أيقظت الميّت من خلايانا ... هل تعتقدين فعليا أنّ معظم المبدعات العربيات لا زلن مهمشات وحبيسات "الذهنية الذكورية" ؟ الذهنية الذكورية موجودة فقط عند الإنسان العربي والشرقي فقط، والتهميش كما يطال الأنثى يطال الذكر كذلك، وأعتقد إنّ التطوّر الرهيب والوسائط الجديدة ستزيل مثل هذه الذهنيات مع الوقت، بعد عشرين سنة من هذا التاريخ ذهنية الإنسان العربي ستضمحل وتتلاشى، والمستقبل للكلمة الجميلة المبدعة لا غير... ماذا يمكن أن تقولي حول التجارب الأدبية الشابة في الجزائر والعالم العربي؟ وهل ثمة ما يمكن انتظاره على صعيد الكاتبات الشابات ومستقبل الأدب النسوي؟ أتوسّم فيها الخير كلّه، هناك تجارب فرضت ذاتها، حاضرة بقوّة في المشهد الإبداعي، والمستقبل لها دون تصنيف طبعًا... هم يملكون رؤيا حالمة لا تؤمن بالعوائق والمثبطات، لا يهمها إلا الآتي البهي... ماذا عن جديدك الإبداعي؟ جديدي الإبداعي يتمثل في : *مجموعتي الشعرية الأولى الموسومة ب" تأشيرة المُتعة"، وهي تحت الطبع، شرّفني بتقديمها أحد أعمدة الأدب العربي *سماؤنا الثامنة" مجموعة شعرية أسهر على تنقيحها قصد نشرها ربما بمناسبة الاحتفاء بقسنطينة عاصمة الثقافة العربية، بالإضافة إلى الكثير من الأعمال والمشاركات التي سأكشف عنها في وقت لاحق... ********************************************* من تواقيع شاهيناز براح: حين يبكي الفرات يا حُفاة القلوب كيف لي من جُحود المطر وهو يسَّاقطُ من عينيَّ حين اُقدِّم على طبق الحنين صوت ممشاي في عروق الرخام يَرِقُّ الحمام
** * * * * ويبكي الفرات وتساقط من عينيه اللآلئ لتكون أصابعي قاب نعيين أو أدنى وتسيل دماء قلبي حين يُذبحُ الرمش ** * * * * ويبكي الفرات ويوصى بغربلة الدمع فرجالنا الأشاوس على أهبة القدوم الجديد أيقظ فِيّا العطر وعلمني كيف أعيش فلم يبق من الربيع لونٌ بعد ذهوله غير الصّفار ** * * * * ويبكي الفرات يحترم جلدك مصيبتي وجنائز السلام تمدح دموعا بلون وجهي وما تبقى من ريح الغمام ** * * * * ويبكي الفرات ينسى مداراتي ومرايا الأطفال الضائعة ومسالك الخيبة المولعة عبر ممرات اليقين الموجعة آه، إني أرى الرجال أجنّةٌ خُلقت ميتة ** * * * * لا تنس قبرك مرة أخرى على كتفي مع خلاخل قهري لن يُقبّل جدارك العالي ولو خيال شفتي لينقلب عالمي في سوق النخاسة كما سميراميس في سوق نينوى ** * * * * حين يبكي الفرات... يجد كراريسي الصغيرة في حضن قلقيليا ومهدَ سُباتي على لسان دجلة المظفر الذي نُقش عليه النور سأقبَلُ بكل المغامرات طالما وجهتها أنتْ فمرايا المهاوي الكبرى إرمً ذات الوِدادِ ** * * * * ويبكي الفرات يتأجَّجُ الإيوانُ بُهرة يدي زغاريدي تُباركُ جَبَاليونَ أخي في طولكرم وتُأوِّدَ الأخرى الفاتحة وتمورُ المهاوي في فتنة الأحوال الزائلة ** * * * * ويبكي الفرات أجدني بين السبايا واهنةً في دروب البذَخ تتفجرُ مني مأساةٌ تعضُّ على الطرفْ الأسى في دمي معتكفْ أبدد الصواريخ عن شهيدِ الغفلة أنعية بصبايَ والنخوة تنتفض في الضفة الوسطى ما بين النهدين تُراقب من عل الميعاد إذ ائتلفْ ** * * * * ويبكي الفرات... ينبجسُ طوفانُ الهوى على الرعايا وعينايَ على سقيِ زهور بابل لا تغمض وحيُ يافا أيّكُ و مواويله المندثرة صلبانه المحجرة بين الفُرس و العجمُ ** * * * * ويبكي الفرات تُدقُّ نواقيسُ قامتي يُسدلُ ستار الربابة تزقزقُ سمايَ وتلجمها جدرانُ الصبابة ليسقُطَ القمرُ مُغمى عليه