إن جانب الإبداع الأدبي في أي مجتمع ما تساهم في تحقيقه وإبرازه عوامل عدة تستطيع من خلاله رسم معالم ثقافات سائدة وأخرى ولت، مشكلة بذلك فسيفساء مجتمعية تحكي رؤى وإبداعات فريدة لا يقتصر شأنها على جانب الرجال منه عن فئة النساء، اللاتي أبين أن يتركن بصماتهن جنبا إلى جنب مع شقائقهم من الرجال، ما ترك بدوره انطباعا إيجابيا يحمل معايير التفاهم والمسؤولية المشتركة بينهما، هذا ما أدى بدوره بالمرأة إلى خوض تجربة الإبداع الأدبي متحدية أحيانا المعايير الاجتماعية السائدة. ومن بين هولاء اللواتي أثبتن وجودهن في مجال الشعر والرواية بمنطقة الأغواط نجد الشاعرة والروائية فاطمة قدوري التي زارتها جريدة الشعب وخصتها بهذا الحوار. هل لك أن تعرف قراء “الشعب” بشخصك الكريم؟ فاطمة قدوري من مواليد الأغواط العام 1963 من أسرة محافظة، حافظة لكتاب الله، من أب متصوف مولع بسماع المديح الديني، ينحدر من أصول الأبيض سيدي الشيخ “ولاية البيض” ، وكذا من أخ عازف على آلة العود ، وخال يمتهن الرسم . نشأت في حي شعبي عريق يدعى “القواطين” يمتاز بقربه من “واد جدي” الذي كان لسحر طبيعته أثر كبير في عشق للطبيعة والتي انعكست على أعمالي، فأنا الآن روائية، وشاعرة، ورسامة، كما أني أترأس جمعية تعنى بالأدب والفنون. كيف كانت النشأة والبدايات والإنطلاقة المرصعة بالإبداع؟ كانت أول ملامسة لي للقلم في الكتاتيب، ثم التحقت بالمدرسة، وقد اكتشف معلمي “جميل مداني” موهبتي أثناء كتابة موضوع بعنوان “أمنية فلاح” فنال إعجابه وذكر لي خلالها كلمات وضعتها في جبيني ، وقال بالحرف “لو واصلت في هذا الطريق لصرت ذات يوم أديبة” ، لكن ومع للأسف ففي السنة الخامسة من التعليم الابتدائي أصبت بمرض أبعدني على مقاعد الدراسة لمدة ثلاثة أشهر، وبعد التحاق مجددا تحصلت على المرتبة السابع عشرة فلم يرق لي ذلك على اعتبار اعتيادي المرتبة الأولى، فمزقت الدفتر الدراسي وقررت التخلي عن الدراسة، وابتعدت خلالها عن الدراسة لمدة تفوق العشر سنوات، وخلال تلك الفترة بدأت كتابة الخواطر، والرسم لأنها كانت المتنفس الوحيد للتفريغ عن الاكتئاب الذي أصابني جراء تخليني عن الدراسة، وهكذا كانت الإنطلاقة. ما مدى استعداد الأهل لتقبل فكرة أن ابنتهم الروائية والشاعرة؟ وهل عانيت من هذا الجانب؟ حقيقة لم تبد عائلتي أي معارضة في بداية مشواري، بل على العكس أصر أبي وأخي الأكبر على ضرورة مواصلتي هذا المشوار، وقد كان حينها أبي سيفعل المستحيل لأواصل الدراسة ولو كلفه ذلك الانتقال بي إلى العاصمة. ما هو سر عشقك للرواية ...عفوا أقصد هذه الفنون؟ ومن أية زاوية تعلّقت بهذه الفنون؟ سر عشقي للرواية على وجه الخصوص هو شغف بالأساطير والحكايا التي كانت ترويها لنا الجدات، مثل حكايات “سمّاع الندى”، و«جازية أم سبع سوالف” وغيرها من الحكايات، وكذلك غياب وسائل الإعلام بالشكل المعروف حاليّا. وقد جاء تعلقي بالرواية في محاولة تقليد هذه الأساطير لكن بشكل واقعي من خلال كتابة السرديات التي تعالج الظواهر الاجتماعية كالكذب وعواقبه. تعرفين بمدينة الأغواط بكنية “عاشقة الليل”... ترى من أين استوحيت هذا الإسم؟ هذا صحيح، فقد كان ذلك خلال أمسية شعرية، طلب مني خلالها منشط الأمسية بالقاء قصيدة شعرية وإذا بي أحمل الكراسة التي كانت قد سقطت عليها الشمعة التي كنت أكتب على نورها، وأحرقت جزء من قصائدي،وعند استفسار منشط الأمسية عن سبب ذلك أخبرته بحقيقة ما حصل بالفعل وتم تقديمي للجمهور بهذا الإسم. ما بين زواج فاشل، ومسؤولية ملقاة ،وشغف بالقراءة والكتابة، كيف انعكست هاته المتغيرات على حسك الإبداعي؟ كانت هذه بمثابة الحافز للمواصلة والتشبث بما وهبني الله عز وجل، والتي أعتبرها فترة بلاء وامتحان صعب لتأدية رسالة القلم. من ناحيتك، كيف تمكنت من تجاوز الظروف القاسية التي مررت بها... وهل كان لها أثر على مسارك الإبداعي؟ إن نمسكي بديني، والأخلاق الحميدة، وكذا تربية للأبناء بالدرجة الأولى هي الدافع والمحفز لهذا التمسك، فبعد العسر يأتي اليسر. كيف انسابت الأديبة “عائشة” ما بين أدوارها المحورية؛ إنسانة، شاعرة،راوية، رسامة ... وأين الرجل داخل سطور قلم عائشة ؟ أ?- فاطمة “الإنسانة”، المحبة للخير، التي لا تعرف الكره أو الحقد، المتسامحة مع الذين يتوجب معهم التسامح. ب?- فاطمة “الشاعرة”، شاعرة لا تعترف بوجود الظلام في هذا الكون، ولا يوجد الظلام لمن يستمد النور مما خطه القلم على الأوراق البيضاء. ت?- فاطمة “الروائية”، إن للقلم كلام لايستطيع أن يتفوه به اللسان، ومن لديه الإحسان آن له أن يروي ما تراه العين وتسمعه الأذن، ويقول ما يعجز المجتمع عن سماعه. ث?- فاطمة “الرسامة”، ذكر ما يجلي عن القلب الحزن وكل شيئ له علاقة بالطبيعة من ماء ،وخضر، ووجه حسن. أين يكمن الواقع الحاضر في روايتك وقصائدك ؟...ومن أين تستحضرين وتستنبطين أفكارك ؟ الواقع والحاضر شيئان لا ينفصمان في أعمالي، فالواقع هو مدرسة الحياة اليومية، أما الحاضر فهو الأرض الخصبة التي نزرعها الآن لتعطينا ثمار المستقبل.أما عن الأفكار فأنا روائية تحاور العالمين (المعلن والخفي). بعض الكتاب يستلهم الواقع لرسم شخصياته. بعضهم الآخر يستمدها من خزينه الشخصي ، وذاته وخلاصته، مؤلفا نماذج مركبّة هي خليط من حيوات وحكايا الآخرين، ما مصدر شخصيات روايتك وقصائدك ؟ مصدر شخصيات أعمالي هي شخصيات اجتماعية بطابعها ومستوحاة من واقعنا، فنحن لسنا بحاجة إلى شخصيات قد لا يتقبلها القارئ لأنها في الحقيقة تبتعد كل البعد عن ثقافتنا. من يقرأ قصائدك يلامس تفاؤل يتكرر... بأية صور تتفاءل فاطمة وتتمنى أن تولد من جديد، وكيف؟ هو تفاؤل طبيعي، و فطرة بشرية يتطلع لها كل إنسان، ففي لحظة الضنك يتطلع المرء إلى الأفق.كما أن الحياة هي مسار لا يعرف العودة إلى الماضي. عجزت في بعض قصائدك عن البوح بروحية معينة، هل لكي حدود؟... وإن وجدت فأين الخط الأحمر من تلك؟ لم أعجز يوما عن البوح بروحية معينة، لأني أستمد هذا الغيض بالخالق عز وجل، كما أني لا أعترف بالحدود ولا الخطوط الحمراء، فلولا صدق المشاعر لما كان هناك شعر وشاعر، بالإضافة إلى ذلك فإن صدق الإحساس لا يعرف المبالغة ما لم يبالغ الإنسان في توظيفه. من خلال تجاربك، ماذا يفضل المثقف، أي الوسيلتين أقرب للمثقف الذواق؛ أهي المقروءة أم المسموعة ، وكيف؟ أرى أن المثقف الذّواق هو من تستثيره الوسيلة المقروءة، لأن المقروء أقرب للحس وأوطدها علاقة بالذاكرة. أحلام مستغانمي،واسني الأعرج، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، أسماء جزائرية وعربية استطاعت بلوغ العالمية ، ترى ما ذا يمثل هولاء بالنسبة إليك؟ ... وهل هناك روائيون أجانب أثرو فيك...؟ بالنسبة لأحلام وواسيني، أرى فيهما النور الذي استطاع أن ينير الدروب أمام الأديبات والمثقفات لمواصلة مسيرة “زهور أونيسي”، و«آسيا جبار” للمضي معا، كما أني أفتخر لكون أنتمي لمثل هذا الجيل والذي به زميلات من الأغواط مثل الروائية فاطمة العقون ... أما عن نجيب محفوظ، وإسحاق عبد القدوس، أرى في أعمالهما مكافحة الإنسان عبر الأجيال، ونقل الصورة الحية لمعاناة المواطن الريفي والطبقة الكادحة في المجتمع العربي. وعن الروائيون الأجانب الذين أثرو علي، فمنهم البريطانيين “كارل براون”، و«أغاثا كريستي” والفرنسي “إميل زولا”. على ذكر الأثر، ماهي الأعمال الأدبية التي تركت أثرها فيك...وفي أعمالك التي أنجزتها أو تريدين إنجازها ؟ بالنسبة للأعمال الجزائرية فأذكر “فوضة الحواس”، و«ذاكرة الجسد”للروائية أحلام مستغامي، أما الأدباء العرب فمنهم نجيب محفوظ عن أعماله “بيت سيئ الصمعة”،و”حكاية بلا بداية ولا نهاية”، وبالنسبة للأدباء الغربيون فعمل “فندق برترام لأغاثا كريستي. بلدك الجزائر ،مدينتك الأغواط، الرصاصة الطائشة ، والزمن؛ إحداثيات تشكل محصلات عدة في رواياتك وأشعارك وحياتك ... كيف تتجلى؟ أ?- الجزائر: هي منبع الحياة ب?- الأغواط: الماء والهواء والروح التي أستمد منها هذه الحياة. ت?- الرصاصة الطائشة: هي لمحة من الواقع التي ما زلت أذكرها وسأذكرها لآخر رمق، لأنها تعبر عن صورة حية عشتها وعايشتها لمدة عشر سنوات. ث?- الزمن: عجلة دائمة الدوران، لا تتوقف لطارئ. على ضوء ذكر روايتك “رصاصة طائشة”، ورواية “رصاصة في الرأس”للروائية العالمية أغاثا كريستي، هل لنا أن نعرف سر تقارب الروايتين ؟ أم أنه مجرد تقارب في العنوانين؟ وهل وصلت رصاصتك الطائشة الجمهور كجمهور رأس أغاثا؟ أبدأ برصاصة في الرأس فإن إمكانية فقدان الشخص بها هي 99% ، بينما الرصاصة الطائشة فقد تصيب الشخص أيّ كان وإمكانية النجاة عالية جدا، وعن سر التقارب فيكمن فقط في العنوانين، لأن رصاصة طائشة هي مستوحاة من واقع معاش. وأصابت رصاصتي فئة من الجمهور لكنها لم تبتعد كثيرا في انتظار من يمد يدا العون لطباعتها. سمعنا أنك تحصلت على الجائزة الأولى لأحسن رواية عن روايتك”رصاصة طائشة” لسنة 2000 ، ولكنك لم تستلميها ولم يصلك شيئ منها... أهذا حقيقي ؟ كانت جمعية “الملائكة للإبداع الفني والأدبي” هي من تبنت عملي على أساس المشاركة به في مسابقة أحسن رواية برعاية كلا من جريدة دنيا الجزائر أنذاك، ووزارة الثقافة، فرغم إعلان فوز وصدوره بالجريدة ،علمت بعدها من بعض الأصدقاء ممن اطلعوا على خبر فوز كأحسن عمل روائي والجائزة الأولى، لكن لللأسف لم تتصل بي أية جهة إلى يومنا هذا. من خلال واقعك بماذا تعللين عزلة الفئات النسوية عن الكتابة والبروز...ما أسباب ذلك في رأيك؟ هذا صحيح، فالفئة النسوية وخاصة الشابة منها تعيش في مجتمع محافظ بالدرجة الأولى، فالمعايير الاجتماعية لا أعتقد أنها ستحول دون السماح للفئات الراغبة في الإبداع ، وإثبات تواجدهن على الساحة الإبداعية، كما أن للتكلفة الباهضة للطباعة تتجاوز حدود التأليف. أسست مؤخرا “جمعية الرائد للأدب والفنون” من أين أتت فكرة التحاقك بالنشاط الجمعوي ... ومتى كان ذلك ... ولما أسستها ؟ الفكرة أتت في أني أردت أن أواكب الطاقات المبدعة للفئات الشابة بالمنطقة، وكذا الاهتمام بالمبدعين الصغار للحفاظ على هذا الموروث الثقافي المتنوع. ما هي السمات التي تجدينها في الأعمال الأدبية الجزائرية عن نظيراتها العالمية، أم أننا نكرر نفس المشهد ولكن بلسان عربي ؟ الأعمال الأجنبية يغلب عنها الطابع الخيالي أكثر من الواقع، بينما الأعمال الأدبية الجزائرية فجل صورها مستوحاة من الواقع الجزائري، وخاصة إذا ارتبط بالجانب بالماضي التاريخي والاجتماعي للجزائر. هل هناك فجوة بين الروائي والإعلام في الجزائر....وإذا كان كذلك كيف ترين هذه الفجوة ؟ هناك فجوة عميقة ما بين الإعلام والمبدع، فنظرا لعدم إبراز الإعلام للمبدعين، فإنهم بالتالي يختارون العزلة والتهميش ومن ثمة قد تختفي وتفقد ملكة الإبداع لديهم. ما هي النجاحات التي حققتها ...؟ وأين وقف عجزك عن الأمل الذي تمنيت تحقيقه ولم تنجح؟ النجاحات التي حققتها تكمن في الرصيد الهائل من الروايات (أكثر من 20 رواية) ، وبعض القصص، وخمس دواوين شعرية ، ولم أستطع طبع أي عمل من هذه الأعمال، كما أتمنى أن تجسد هاته الروايات في أعمال درامية. تقاس الحركية الأدبية في أي بلد بمدى نشاط الإتحادات بها،كيف تعاطيت مع اتحاد الكتاب الجزائريين ، وهل برأيك، هذا الاتحاد يمثل ضمانة لتواصل المشروع الثقافي الوطني؟ كان لي الشرف بأن كنت أحد الأعضاء المؤسسين لمكتب الأغواط، أما عن المكتب الوطني فأنا منخرطة به. وبخصوص تحقيقه للتواصل فأرى أنه إذا عمل القائمون على إتحاد الكتاب بجدية تامة، فهذا يمكنهم من توصيل المسيرة الثقافية إلى أبعد الحدود، وأما أحوجنا وهذه الأيام إلى إتحاد يُسمع صوت الكاتب الجزائري ويوصله إلى بر العالمية. عمل أدبي يشغل حيزا كبيرا من تفكيرك هذه الأيام ؟ حاليا أنا في اللمسات الأخيرة في كتابة رواية “بين القلوب”. كيف تقيمين الواقع الإبداعي بمدينة الأغواطوالجزائر عموما من خلال تجربتك الأدبية؟ الأغواط تزخر بموروث إبداعي لا يحص، وخاصة الفئة الشبانية منها التي لم تر أعمالهم النور بعد، ويتطلعون لإبرازهم. كلمة توجهينها للروائيين الجزائيين،والمخرجين، والقائمين على قطاع الثقافة ببلادنا...؟ 28- الروائيون: عليهم الاستمرار في التأليف من أجل إبراز ملامح الصورة الحقيقية للمجتمع الجزائري وثقافاته الخاصة لدى الشعوب الأخرى. 29- المخرجون: عليهم أن يتبنوا الرواية الجزائرية وتشجيعها من خلال تحويلها إلى سيناريو تجسد خلالها الروايات الجزائرية في أعمال سينمائية و تلفزيونية لكي نواكب بها سيرورة الدراما الاجتماعية في العالم العربي. 30- القائمون على الثقافة: أن يكونوا العين التي ترى ما بين الحرف والقلم والرقة للعمل على دعم الطاقات الإبداعية ، والأخذ بيد الكاتب إلى الوجهة الصحيحة. في ختام هذا الحوار، هل سيحضى القارئ ببعض من الأبيات الشعرية التي نظمتها ؟ بالطبع، هذه بعض الأبيات الشعرية من قصيدتي الأخيرة بعنوان “إسقني كأساً” في مدح خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، والتي نظمتها بتاريخ 10/04/2011. إِسقيني كأساً من خمرةِ التوحيدِ ودَعنِي أَهيمُ في ذِكرِ الحبيبِ كأساً يذهب ما بي من حَزَنٍ مزيجة مسك وطيبِ إن كان بالروحِ والقلبِ عِلَّةٌ فنعمَ الخليلُ هُو والطبيبُ به اهتدت الأمة للخير بقيةٍ عدد الخلائقِ وما غرَّدَ العندليبُ يا صفوة الروح يا محمد إن السائلَ باسمكَ لهُ الحقُ أن يستجيبَ وللمُتوسلِ وللمُتضرع بِالودِّ خَصِيبُ أُمتي أُمتي شافعًا مُشفعًا رحيمًا بالخلائقِ وحتى بالغريبِ إِسقني كأساً من خمرةِ التوحيدِ ودعني أَهيمُ بِذكرِ شمائلِ الحبيب??