ببرز في أعماق المحيط الشباني لجزائر 2015، كثيرا من التعاطي الغريب لطلائع الجيل الجديد مع مختلف الرمزيات الوطنية والتاريخية، في حالة انشطارية غريبة يعزوها نفسانيون وسوسيولوجيون إلى رواسب خيبة وإحباط. بعيدا عن رنات الخطاب الرسمي، لا يبدي شباب الراهن كبير مبالاة بتاريخ الجزائر وتضحيات الأمس، فهل عجزت منظومات العائلة والمدرسة والمسجد والإعلام عن ترسيخ قيم الوطنية والذاكرة؟، ثمّ كيف ينظر الشباب نفسه إلى تواصل رسالة نوفمبر خلال الفترة الراهنة ومفرداتها في ترجمة هذه الرسالة إلى واقع ملموس؟. طرح "الشروق أون لاين" العديد من الأسئلة على عينة مدروسة من شباب جزائر 2015، حيث اخترنا قطاعا من "اليائسين" الذين يمنون أنفسهم بالهروب مما يسمونه (جحيما)، كما اقتربنا من شباب (نخبوي) آثروا الاندراج في الحركية السياسية والاجتماعية العامة، وبين هذا الفريق وذلك سعينا إلى ملامسة شعور الشباب الجزائري بمختلف أطيافه، حول ما تمثله الذاكرة الجمعية في قاموسهم. التاريخ = إعادة طهي عظام الشهداء ! بلهجة يائسة خاطبنا يزيد (29 عاما) العاطل عن العمل قائلا: "لم يعد التاريخ يعني أكثر من إعادة طهي عظام الشهداء في كل مرة"، وبغضب ظاهر ذكرت سامية (27 سنة) أنّه بالنسبة لها لم يعد للذاكرة أي بريق، واستطردت بعد لحظة صمت: "أتمنى أن نتوقف عن العودة إلى الماضي، ولنلتفت إلى المستقبل ونبحث عن انطلاقة نحو ما هو آت، لأنّ المجاهدين الحقيقيين ماتوا". ويعتقد محمد (23 سنة) الطالب بكلية الطب، أنّ تاريخ الجزائر عنده ليس سوى مناسبة لتكريم المجاهدين، وإقامة الاحتفالات واجترار الأغاني، ويبني محمد فكرته على استيعاب الجزائر حاليا لمن يعتبرهم "أناسا لا يمتون بصلة إلى المجاهدين الحقيقيين، وهم لا يمثلون الشعب أبدا"، على حد تعبيره، معلّقا بمرارة: "كنت منذ شهرين في فرنسا، رأيت المستوى المعيشي والبيئة والأبعاد التي ينعمون بها". ويلاحظ أيمن وزميله رياض وهما طالبان بمعهد علم الاجتماع، أنّ رعيل الثورة كان عملتهم الوحيدة هي الصدق والصفاء، أما اليوم فالكل يتصرف – مثلما يقولان– بما يسميانه "خداع" و"مكر" لأجل مصالح ومنافع شخصية فقط، ويستخلص أيمن ورياض أنّ أمّ المشكلات التي تعانيها الجزائر ناجمة عن هذا المناخ "الملوّث" على حد وصفهما. ورغم حداثة سنه، ينبّه بلقاسم (17 سنة) إلى أنّ كل ما له صلة بالوطن متأصل في وجدانه، ملحا: "أنا كشاف تعلمت الوطنية وحب واحترام الثورة من هذه المدرسة"، إلا أنّ الأعياد الوطنية أضحت – بحسبه - محصورة في استعراضات متكررة لأفلام وأناشيد، بدل من فتح نقاشات حول الأفق القادم، ويستند بلقاسم إلى كون عديد الشباب وحتى الأطفال "لا يدركون قيمة الثورة". الأعياد الوطنية .. عطل راحة بجسارة، قال "عبد الغني" (26 سنة): "5 جويلية أو الفاتح نوفمبر مجرد عطلتان أستغلهما للراحة لا أكثر ولا أقلّ، هو يوم لا يعني لي شيئا (..)"، ويدافع عبد الغني عن اتجاهه بالقول: "حين استقلت الجزائر كان المجاهدون يعدّون على الأصابع، أما الآن فقد أصبح الجميع "من قدماء الثوار" وأضحى الكل "أبناء شهداء"، فهل هذه حقيقة؟ أنا شخصيا أشعر بغصة المخدوع". ورغم حنقها الواضح على الوضع السائد في الجزائر، إلا أنّ سعاد (30 سنة) تنتقد بروح بناءة: "أدرك تماما أنّ استقلال الجزائر كان نهاية لحقبة سوداء، لكن وهج هذا التاريخ تلاشى"، وتشير سعاد بيديها إلى رفوف المؤلفات المتراكمة في المكتبة العتيقة التي تعمل بها "هناك كتب كثيرة في التاريخ الإسلامي، التاريخ الثقافي الجزائري، وتاريخ الثورات في العالم، لكننا نعاني من نقص كبير في كتب الثورة الجزائرية ومذكرات مجاهدينا، على مؤرخينا وصنّاع التاريخ توعية هذا الجيل الذي يعاني من فراغ معرفي رهيب، لقد أصبحت هذه الذكرى عندنا مرتبطة بسلسلة أفلام وأغاني لا تسمن ولا تغني من جوع". لا للتعامي عن الذاكرة والرموز في الجهة المقابلة، التقينا بشباب مهووس ملتصق إلى حد القداسة بذاكرة ورموز بلاده، وهو معنى يعبّر عنه عبد القادر (24 سنة) المتربص ببنك خاص، بقوله: "هل يُعقل أن ندير ظهورنا ونتعامى عن ثورة ضربت أروع الأمثلة في التفرّد والتميّز في كل شيء، إذ لم يدفع أي شعب من قبل، وفي فترة سبع سنوات، ضريبة باهظة زادت عن 1.5 مليون شهيد". وبلهجة خاشعة عدّدت وهيبة (24 سنة) المعاني الكبيرة للعيد الوطني قائلة: "الخامس جويلية والفاتح نوفمبر حدثان عظيمان لأمتنا، لولا الثورة لما ذقنا طعم الحرية، ولما تمتعنا بالاستقلال، فالحرية لم تأت من العدم، هناك مشاعر كثيرة تنتابني.. أتمنى لو عشت تلك الفترة، لكنت مت شهيدة، أو كنت على الأقل صديقة مجاهدات كجميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي وغيرهن". بدوره، يروي محمد العيد (28 سنة) "منذ كنت طفلا، كان بدني يقشعر بمجرد حلول العيد الوطني، لم أعش ثورة التحرير لكنّي من فرط حبي لها أقرأ عنها في كتب التاريخ وأتلذذ ببطولات الثوار، أنا أتنفس حب الجزائر أكثر من المجاهدين، وأقدّر كثيرا هذا اليوم وأتمنى بالفعل أن يكون الاحتفال بهذا اليوم عظيما بقدر عظمة الثورة". ويقول أحمد (25 سنة) العامل بمستشفى: "أقدّس وطني الذي يشكّل عنوانا كونيا لتحرر بلد من ربقة احتلال استمر أكثر من قرن ونيف، وتوّج 5 جويلية ثورة المعجزات"، بدوره يشدّد رمضان (28 سنة) الموظف بمؤسسة خاصة: "من ذا الذي لا يأبه بهوية وذاكرة بلاده؟، ثورتنا وكينونتنا عظيمتان عظمة شعبنا". الوطن لا يُختزل في شعارات وتمظهرات كما يحكي "فضيل" (27 عاما) و"عبد الصمد" (31 سنة) المتخرجان من كلية الإلكترونيك، عن شغفهما بتاريخ الجزائر، ويعبّر كل واحد منهما عن هذا الارتباط من خلال نشاط الأول في منظمة كشفية وتفاعل الثاني ضمن الحركة الجمعوية، في حين يقول "حسان" (29 سنة) و"لمياء" (27 سنة) إنّهما انضما حديثا إلى تشكيلة سياسية، إيمانا منهما بأنّ الدور سيأتي على طلائع الجيل الجديد لاستلام المشعل، كما يرفضان اختزال حب الوطن في مجرد شعارات وتمظهرات، والأجدى حسبهما يكمن في التشمير عن السواعد والإسهام في صناعة غد مشرق ورسم جزائر جديدة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم العظيمة. وفي رد منها على المنتقدين للنمط السائد، تتصور سميرة (29 سنة) العاملة بورشة خياطة، أنّه مثلما نجح الثوار ودبلوماسيو الجزائر في انتزاع الاستقلال من أعتى قوة عسكرية في العالم آنذاك، على الجيل الحالي أن يقتدي بنضال الجيل الأول، من خلال إكمال المسيرة وتلقين دروس الثورة للأجيال الصاعدة. الخيبات جعلت النكران عنوانا يذهب الأستاذ "أحمد فاضلي" المختص في علم النفس الاجتماعي، إلى أنّ "سلبية" قطاع من الشباب، ناجمة عن المشاكل الاجتماعية المتفاقمة التي جعلت من ثقافة النكران عنوانا كبيرا، ويرى المدرب في التنمية البشرية بمركز الراشد، أنّ حب الوطن ومفهوم الانتماء مغروس في نفوس الشباب بالفطرة لكن واقعهم المهزول، جعلهم يتنكرون لأعز ما يملكون في هذه الحياة وهي الحرية. من جانبه، يرى الأستاذ "محمد جيدة" المختص بالتاريخ، أنه من المسلم به وعلى الرغم من كل الاختلافات في آراء وتصريحات الشباب أن مسؤولية "تناسي" هكذا ثورة تتحملها السلطات بشكل عام، حيث من أخطر ما قيل هو تمني البعض بقاء الاستعمار الفرنسي، وكأنّ الحرية التي يتمتعون بها شيء إضافي، بل وكأنه عائق للعيش الحسن. قلة وعي وعدم إدراك يضيف "جيدة" أنّ ما يحصل من ردات فعل سلبية لدى بعض الشباب، ناتجة عن قلة وعي وعدم إدراك كاف، فلو عاش هؤلاء الشبان معاناة آبائهم وأجدادهم لما تجرّأ أي منهم على التفكير أصلا بهذا الشكل، ويذهب محدثنا إلى أنّه يمكن محاججة المعنيين، وينبغي للسلطات المعنية أن تتحمل مسؤولياتها، فلا يمكن لمقررات التاريخ وحدها مثلا أن تعطي ذلك المعنى الوطني للانتماء واحترام الثورة. يتابع "جيدة" أنّ البداية يجب أن تمر – حسبه- عبر إعادة كتابة التاريخ بموضوعية لتنوير هؤلاء الشباب بالحقائق التاريخية الصحيحة، حيث كان هامش الأحاديث المنقسمة سببا في حدوث إسقاط آخر على انفصال رأي الشباب، إذ لم يخف الكثيرون شعورهم بالخيبة من سماع أفعال الخيانة والعمالة لصلح المستعمر، وصرحوا بأمنية واحدة ووحيدة تكمن في معرفة الحقيقة وفقط، بعيدا عن الأكاذيب التي تلفق بصورة مستمرة. طبعا هي رغبة صادقة منهم كي لا تبقى الصورة المشوهة، واختصارها بأفلام تُعرض بالأبيض والأسود، وأناشيد وطنية تشيد بالحرية والوطن، وأعلام تعلق في الساحات والمؤسسات والطرقات ورصاصات تطلق عند منتصف ليلة الفاتح نوفمبر، وغرة الخامس جويلية من كل عام. توليفة "علم في كل بيت" لم تصنع الفارق أطلقت السلطات قبل سبع سنوات حملة واسعة أطلق عليها محليا "علم في كل بيت"، وبررها رعاة التظاهرة آنذاك بالرغبة في ترسيخ قيم المواطنة وحب الوطن في المجتمع، من خلال جمع وتوزيع 5 ملايين علم، تلك الخطوة لم تحظ بتجاوب كبير، وسط مساجلات محتدمة بين فعاليات شبابية وأخرى أكاديمية، بين من بارك الفكرة وبررها بحتمية استبعاد الشوائب التي تطبع المشهد الوطني تبعا لظاهرتي "الحرقة" و"الانتحار" وتوابعهما. في المقابل، رأى قطاع آخر أنه ليس هناك من خطر يتهدد "الشعور بالانتماء الوطني"، ولخصوا أصل المشكلة في عجز السلطات عن إدماج المواطنين سيما طلائع الجيل الجديد، ضمن حركية اجتماعية اقتصادية شاملة، لذا جزموا بأنّ الحل ليس في توزيع الرايات الوطنية، بل ينبغي أن يكون في اتبّاع خطط حيوية تجعل هؤلاء في منأى عن فخاخ البطالة والهجرة والموت البطيء. معضلة تقتضي مقاربة أكثر شمولية بداية، يعتقد الباحث السوسيولوجي "عبد الناصر جابي"، أنّ اهتداء السلطات إلى ترسيخ حب الوطن وسط الجيل الجديد من خلال نشر ثقافة العلم الوطني"، شيء جميل لكن الأمر حسبه يتطلب مقاربة أكثر شمولية من مجرد حصرها في كومة شكلانيات، ويضيف "نحن أمام تحديات كبيرة بالنظر إلى العدد الكبير للشباب وثقل الطلب الاجتماعي"، مؤكدا على "المجهودات الضخمة التي يجب بذلها في مجال التربية والترفيه والتوعية ومكافحة البطالة"، والذهاب إلى أم المشكلات، على غرار "استقالة السلطة الأبوية" و"تفكك" خلية الأسرة، إلى جانب "اختلال ميزان" القيم. ويلاحظ الإعلامي البارز "هيثم رباني" إلى أنّ تهافت الجيل الرابع من أبناء المغتربين الجزائريينبفرنسا على ارتداء الألوان الفرنسية، والرمي عرض الحائط بالألوان الوطنية على منوال ما حصل ل"نبيل فقير" قبل أسبوع، معناه أنّ هناك إشكالية كبيرة متعلقة بإدماج الشباب، مشيرا إلى أنه "يتعين على الجزائر من الآن فصاعدا التفكير في مشروع إدماج ينهي مطرقة الاستعلاء وسندان الانعزال. وبهذا الصدد، يرفض متابعون وصف أولئك الذين يختارون الهجرة عبر زوارق الموت ب "فقدان الروح الوطنية"، وإصرار جيل المخضرمين على اتهام الجيل (الصغير) بكونه غير وطني ولا يحب الوطن، ولا يقوم بمجهود إلى آخره، في وقت يتهم الشباب هذا الجيل بأنه "لا يسيّر الأمور بطريقة جيدة" و"لم يحقق الرفاهية للبلد وبأنه قد يضيع الاستقلال الوطني من الأساس". تباعد القمة والقاعدة يرى "هيثم رباني" أنّ علة هذا التقاذف مبررة بالتباعد الحاصل بين القمة والقاعدة وتكرّس "حوار الطرشان"، مع أنّ الجميع يقرّون هناك بفشل الحكومات الجزائرية المتعاقبة في الإحاطة بمشاكل الشباب وتفاقم نسب البطالة العالية وسوء حالتهم المعيشية، ما جعل اليأس يتمكن من هؤلاء وجعلهم يتعاطون بلامبالاة مع مختلف المواعيد الحاسمة التي شهدتها الجزائر في الفترة السابقة، وكان أشهرها اتساع رقعة المقاطعة واستيعابها لما يربو عن العشرة ملايين في الانتخابات الرئاسية ربيع العام المنقضي. دعائم المواطنة تمرّ من هنا يشدّد "محمد بوعلاق" القائد العام لمنظمة "الكشافة الإسلامية الجزائرية"، على أنّ ترسيخ دعائم المواطنة وتحسيس سائر المواطنين بانتماءاتهم الوجدانية والفكرية إلى حضارتهم ووطنهم، يقتضي دورا أسريا ومجتمعيا متعاظما، مع سعي السلطات لتكريس مقومات "المواطنة" عبر تشبع الجيل الجديد بقدرته على المشاركة في العمل العام والترشح للمناصب المختلفة، والوصول إلى المراكز الإدارية والتعبير عن الرأي بشكل حر في الفضاء العام. ويرفض "بوعلاق" ما يتردد عن عدم تشبع الشباب الجزائري بالوطنية، بل يجزم أنّه لا يقل وطنية عن جيل الثورة الجزائرية قبل نصف قرن، ويتصور "بوعلاق" أنّه يتعين فقط على كل المؤسسات الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والإعلامية العمل على احتواء الشباب وتعزيز حبه وانتمائه لوطنه ومن ثم افتخاره بمواطنته". كما ينفي "بوعلاق" التنميطات التي سعى البعض لإلصاقها بشريحة الشباب، حيث نفى الرأي القائل إنّ شبان الجزائر بعيدون كل البعد عمّا يدور حولهم من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، وبعيد أيضا عن استيعاب معاني الوطنيّة والمواطنة، غير أن الواقع يثبت عكس ذلك، فلا يعني أن الشاب البطال أو الطامح في الهجرة لا يحب وطنه ولا انتماءه إليه، وإنما يفتقد إلى من يستوعب استيعاب هواجسه ورهاناته وآماله من طرف مؤسسات اجتماعية كفؤة تنجح في تعزيز ثقة الشباب بوطنه، وتتجاوز مطبات اللاتوجيه وسوء التكوين الأخلاقي للشباب.