ليسوا أقزاما..بل هم رجال "أقزام"... هذا هو الوصف الذي يلاحقهم كلما وقعت عليهم عينٌ في مدينة سيدي بلعباس، لكنهم يستميتون في مقابل ذلك دفاعا عن أنفسهم بالقول إنهم قصار قامة وليسوا أبدا أقزاما، كما أن مشكلة الوصف أو الاسم لا تتعلق فقط بمزاجية الناس بل تمثل أيضا عائقا قانونيا. * حالات انتحار في أوساط قصار القامة بسبب التهميش * فهم لحدّ الآن غير مصنّفين ضمن المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة ولا أيضا ضمن فئة الناس الأسوياء، وبالتالي يصبح الوصف ثقيلا أيضا من الإدارة التي همّشتهم في كثير من المرات.. "الشروق" زارت مقر جمعيتهم في سيدي بلعباس والتقت مع رجال ونساء قصار القامة حقا لكنهم بقلوب كبيرة وقامات أخلاقية رفيعة! * عندما حدّدنا موعدا مع حسين بلحاج، رئيس جمعية قصار القامة، كان لتوّه خارجا من لقاء مع والي بلعباس، فكان لابد أن يكون سؤالي الأول عن جديد اللقاء، وما إن كان بيروقراطيا لا فائدة منه أم فعّالا وإيجابيا، فأخبرني حسين مسرعا "بل سمعت كلاما جيّدا من السيد الوالي وطلب مني فقط تقديم مقترحات مكتوبة من اجل صياغتها واقعيا خصوصا فيما يتعلق بضمان مناصب شغل لهذه الفئة أو بخلق مشاريع لها ضمن الصيغ التي تطرحها الدولة"، لكن حسين عاد ليقول حتى لا يخطئ سامعوه ويعتقدون أن كل المشاكل قد حلّت .."بيد أن هذا لم ينهِ تماما الحقرة والظلم والتهميش الذي نعاني منه فلا تزال تلك المنغّصات هي نكهة حياتنا التي مللنا منها".. * جمعية قصار القامة التي تأسست يوم 24 أكتوبر 1995، تقطع اليوم زمنيا مشوارا عمره حوالي 13 سنة، بأيامها ولياليها، بأحلامها وعذاباتها، 13 سنة لم تتحرك المياه الراكدة فيها سوى بإرادة الفاعلين من المكتب والأعضاء، وماعدا ذلك فلا يزال الأمر حبيس بعض الإرادات التي لا تريد للحلم أن يبدأ، ولا للمأساة أن تنتهي، حتى أن حسين أخبرنا بمفاجأة من العيار الثقيل "تصوروا أنه منذ التأسيس تلقى المكتب نداءات استغاثة من 18 ولاية لأجل تأسيس الجمعية الوطنية، وكان الحلم قد بدأ يتحقق عندما تم تحديد تاريخ 8 أوت 1998 لتنفيذ الخطوة الأولى في ذلك، لكن بعض المشاكل الأمنية التي كانت تعيشها البلاد في ذلك الوقت أعاقت الحلم واغتالته في المهد"...، "واليوم -يقول حسين- وبعدما رجع الهدوء والأمن، استعدنا الحلم ولم يعد من خصم أمامنا سوى الإدارة التي تمارس بعض الأطراف فيه التعتيم والتيئيس المتعمدين". * * سفيان، فيصل والآخرون * كان لا بد على حسين أن يعرفنا بسفيان، هذا الشاب الذي تحدث معنا دون عقدة ولا مركّب نقص، بل كان يتصرف بحرية وطلاقة وكأن الناس جميعا تضاءلت أحجامهم فأصبحوا مثله، أو بالأحرى أنّه هو من تغلب على قصر قامته فرأى نفسه أطول من الجميع! * سفيان صاحب السابعة والثلاثين عاما (حتى لا نقول ربيعا) ما يزال ينتظر الفتات من الشبكة الاجتماعية، لكنه على الأقل أفضل بكثير من غيره المعاقين والمحبوسين في بيوتهم وأيضا أولئك العاطلين الذين حولتهم الأيام إلى أجساد بدون روح، أو جثث تنتظر قرار الموت في عجالة! * سفيان، الذي يدرس في الجامعة يعاني حقا من عدة أزمات اجتماعية ونفسية، ومع ذلك فهو يحافظ على أناقته ويمارس الرياضة وأيضا يستمع إلى الموسيقى ويبحث عن زوجة صالحة مثله مثل كل الناس دون استثناء وبدون عقدة، الأمر ذاته نجده عند فيصل، وأيضا عند حسين الذي يلاصقه رفيقيه في كل أعمال الجمعية، فرئيس هذه الأخيرة متزوج من امرأة عادية بقامة طويلة وله منها أربعة أبناء أخبرني متندرا أن نصفهم قصير والنصف الثاني "نورمال"..، لكن حسين يتبع كلمته بالقول سريعا "الحمد لله" ربما لأنه يعرف أن وضعه أفضل بكثير من غيره، وأن ما وصل إليه هو بفضل إرادته وجرأته اللتين يفتقد الكثير من الأسوياء إليهما في هذا الزمن الجزائري الملطّخ بالعجز والفشل عبر أكثر من صعيد! * * حالات انتحار وأشخاص يحبسون أنفسهم في سجن انفرادي * يعرفهم جميع من يسكن في مدينة سيدي بلعباس، بل نكاد نجزم أن المدينة هي من أصبحت تعرفهم ومعروفة بهم، فهم أبناء شوارعها القديمة والجديدة، أنفاسهم تسمعها عبر كل الأحياء، من بلاس كارنو، إلى قمبيطا، مرورا بحي البساتين، وسيدي ياسين والباطوار وفيلاج تيار، وأيضا في ضواحي المدينة، في سيدي إبراهيم ورأس الماء وتلاغ... يلتقيهم الناس وخصوصا منهم الأطفال في المسرح، وكبرت معهم أيضا أجيال عدّة في مجسم القبة السماوية بوسط المدينة، حيث كانوا يمارسون نشاطهم، والحقيقة أنه ليس مقرا بل هو مكان عمل حسين بلحاج الذي قال بأسف وتحسّر "أيعقل أن لنا من الوجود سنوات طويلة ولا نحتكم إلى مقر شرعي حتى الآن، حتى أن جميع من يزورنا من الأجانب والضيوف لا نجد لهم أمكنة غير بيتي لاستقبالهم"، يقول حسين قبل أن يواصل مضيفا "قبل فترة عندما زارنا وفد لجمعية قصار القامة في فرنسا وعدونا بالمساعدة لكن حتى الآن لا يمكن تمرير المساعدات دون غطاء قانوني، كما أننا لا نستطيع عقد اتفاقيات تعاون أو تبادل طالما أنه غير معترف بنا في بلادنا من حيث المقر والمساعدات المالية والمعنوية".. * مشكلة المقر كبيرة وعويصة، لكنها ليست الوحيدة، قبل سنوات قليلة ودّعت الجمعية حوالي 5 من أعضائها ماتوا انتحارا أسفا لأوضاعهم، البعض الآخر لا يخرج من منزله منذ سنوات خوفا من أنظار الناس وتعليقاتهم، آخرون يهدّدون بقتل أنفسهم ظنّا منهم أن ذلك يعدّ السبيل الأوحد للفرار من هذا المجتمع المليء بالعقد، كما قال حسين بلحاج الذي راسل الرئيس بوتفليقة قبل أيام وما يزال ينتظر الردّ. إن الفئة تعاني أيضا من مشاكل متعلقة بالمحيط العام مثل الأرصفة العالية، الطرقات، الموزعات، ووسائل النقل، وبمقارنة بسيطة مع قصار القامة في فرنسا نجد أن هؤلاء يصنفون ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة ويتمتعون بكل الدعم وبمنحة شهرية تعادل الأجر الأدنى المضمون 1200 أورو.. * قصار القامة في سيدي بلعباس فاق عددهم خمسين فردا، وقد أصبحوا اليوم يشاركون في صنع ظاهرة السكاتشات القصيرة مع نجوم الكوميديا، كما شارك بعضهم الممثلة بيونة إحدى حلقات مسلسل "ناس ملاح سيتي" في رمضان، وحققت مسرحيتهم عن بياض الثلج والأقزام السبعة نجاحا كبيرا وسط الأطفال في كثير من الولايات، لكن مع ذلك يبقى الفرح مؤقتا ومرهونا بالمساعدات "صحيح أن البلدية ومديرية التشغيل ساعدتنا كثيرا في بلعباس لكن حجم المشاكل كبير ولا نستطيع احتماله بقاماتنا القصيرة، كما أن الوجع اتّسعت مساحته إلى حد العجز عن احتوائه".. قال لنا حسين بلحاج الذي تركناه رفقة فيصل وسفيان في مكانهم العادي بالمقهى الخلفي لمسرح سيدي بلعباس، يعدون مشاكلهم وينظرون إليها بتفاؤل، لأنه وزيادة على أن شعارهم أن العين بصيرة والقامة القصيرة... إلا أنهم يؤمنون أيضا أنه لا يأس مع الحياة ولو كان الواحد قصيرا أو معاقا! * * 400 قصير قامة على المستوى الوطني وما خفي..أعظم ! * بلغ عدد قصار القامة على المستوى الوطني حوالي 400 شخص، لكن هذا الرقم يظل تقريبيا وغير محدّد من طرف الجهات المسؤولة، خصوصا أن غياب نص قانوني محدد وواضح منع الجميع من معرفة حجم هذه الفئة أو تعدادها، كما أن جمعية قصار القامة التي يوجد مقرها في ولاية سيدي بلعباس، وتشتغل على المستوى المحلي، تعدّ في صفوفها 39 منخرطا من قصيري القامة، ويقول رئيسها أن العدد أيضا تقريبي، فكثير من الأشخاص منعتهم العقد والخوف من التصريح والخروج إلى الناس من الاقتراب من الجمعية لتسجيل أنفسهم ضمن أعضائها، لذلك فإن عدد 39 لا يعبر بالضرورة عن الواقع، بل هنالك أزيد من خمسين شخصا في بلعباس وحدها.. * ومن المعطيات الأخرى التي تجعل من أمر تحديد الحجم صعبا، أن الكثير من أعضاء الجمعية الذين تزوجوا وتخلصوا من عقدهم المزيفة أنجبوا أطفالا قصيري القامة أيضا، وهو ما يعني أن العدد في تزايد، لكن ذلك التوسع لم يقابله تمثيل جمعوي فعال، فوجود جمعية واحدة بإمكانيات بسيطة يبدو أمرا عبثيا، خصوصا أنها تنشط على المستوى المحلي فقط، رغم أنها الوحيدة على المستوى الوطني، والإفريقي أيضا، رفقة جمعية مماثلة في الكاميرون. ودليل رغبة الكثيرين في البحث عن تمثيل من هذه الفئة، أنه عندما حاولت جمعية قصار القامة في بلعباس أن تتوسع وطنيا، وصلتها طلبات الانخراط عبر أكثر من 18 ولاية، وبأعداد فاقت جميع التوقعات، لكن الظروف الأمنية الصعبة وقتها منعتها من تنفيذ المشروع الذي كان مليئا بالطموحات. وبحسب أعضائها، فإنهم يتوقعون في حالة إخراج الفكرة مرة أخرى من الأدراج ستكون الفرصة سانحة لإبراز الكثير من الحالات التي يغيبها النسيان. *