صورة من الارشيف الرهبانية التي عرفها الناس منذ القدم صورة واقعية للتصور السلبي الخاطئ الذي نشأ عن الجهل بطبيعة الإنسان ومهمته في الوجود، فأصحاب بعض الديانات الأخرى شطوا حتى ضلوا اعتقادا بأنهم يخلصون للّه. وفي الإسلام اليوم هناك من يدعو للرهبنة وما شابه، رغم أن الرسول (ص) تزوج وعاش حياة كريمة ولم يدعو يوما لإذلال النفس أو تحقيرها، والرهبنة تضاهيها طقوس بعض طوائف المسلمين، رغم أن أسس عقيدتنا التي يحاول البعض تحريفها لا تعترف بالرهبنة ولم ينزل الله بها من سلطان. * الراهب يعتبر الاغتسال نجاسة، فلا يلمس الماء جسده طيلة حياته * يقولون إن المرأة شيطان قاتل وينزعون رجولتهم لإرضاء الله! * * حكمة الله وإغواء الشيطان * * وجود الإنسان في الأرض له غاية سامية أرادها الخالق سبحانه منذ أن اختير للقيام بالمهمة العظمى »الخلافة في الأرض«، وأنيطت به مسئولية عمرانها بالصلاح والخير، وحتى لا ينسى الإنسان الغاية من وجوده. ولتقوم عليه الحجة أمام خالقه، جعل الله تعالى تلك الغاية جزءاً من تكوينه، مودعا إيّاها في أعماق نفسه، »فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ«: الروم:30. وبعث إليه الرسل ليكونوا نماذج حية لتحقيق هذه الغاية الإيجابية والدعوة إليها. * * لكن الناس بإغواء الشيطان لهم يضلون الطريق، فيغفلون عن غاية وجودهم، منغمسين في حدود المطالب العاجلة، أو يتصورون هذه الغاية على غير حقيقتها، فتضل أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. * * ومن تصور هذه الغاية على غير حقيقتها، الاعتقاد بتفاهة الحياة الدنيا إلى درجة إسقاط القيمة التي جعلها الله لها، والغلو في تهذيب النفس البشرية إلى حد التضييق والتعذيب، مع صرف النظر عن عمارة الكون التي هي جزء من الغاية العظمى. * * * بدعة تدعو لهلاك الجنس البشري * * رغم أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة، إلا أن للرهبانية النصرانية ظروفا وأسبابا بارزة تضافرت على إيجادها وتنميتها، حتى أصبحت أبرز مظاهر الدين الكنسي على مرّ العصور، فالنصارى يترهبون اعتقادا منهم أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة، فعاقبه الله بالطرد من الجنة وأسكنه التراب، وظل الجنس البشري يرزح في أغلال تلك الخطيئة سنين طويلة، حتى أنزل الله »ابنه« تعالى على ذلك علوا كبيرا ليصلب فداء للجنس الإنساني، وليبيّن للناس طريق الخلاص من هذه الخطيئة، فأصبح لزاما على الإنسان أن يقتل نفسه لمنحها الخلاص، فيقول إنجيل متّى: »من أراد أن يخلص نفسه يهلكها«، ويقول إنجيل لوقا: »من طلب أن يخلص نفسه يهلكها ومن أهلكها...«، وهكذا تدعو النصرانية لهلاك الجنس البشري. * * * المرأة منبع الخطيئة وأصل الشر * * لما كانت المرأة حسب رواية سِفْر التكوين هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته لاسيما الشهوة الغريزية. * ومن ناحية أخرى، تولّد عن الشعور المستمر بالخطيئة أن قنط كثيرون من رحمة الله، فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة حتى تظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والمترهبين فيه. * * اليهود عبدوا الدنيا والنصارى عبدوا الضياع * * بعث الله عبده ورسوله المسيح بين فئتين يربطهما رباط التكالب على الدنيا، والتفاني في سبيل ملذاتها، والعبودية الخانعة لشهواتها، هما قومه اليهود أجشع بني الإنسان وأشدهم تعلقا وتشبّثا بالحياة، ومستعمروهم الروم الغارقون إلى آذانهم في مستنقع الحياة البهيمية وأوكار الشهوات، فكان المسيح عليه السلام بأمر الله يعظهم بأبلغ المواعظ، ويذكرهم بالآخرة أعظم تذكير، ويضرب لهم الأمثال المتنوعة، ويقص عليهم القصص المؤثرة، كل ذلك لكي يرفعهم من عبودية الدنيا إلى عبادة الله، ويفتح عيونهم على ما ينتظرهم في العالم الآخر من الأهوال، فيحسبوا له الحساب، وآمن بالمسيح قوم تأثرت أنفسهم، واتعظت قلوبهم بما سمعوا منه، لكنهم مع مرور الزمن ورد فعل منهم للضغط المادي عليهم، غلوا واشتطوا حتى خرجوا عن حدود ما يأمرهم به الوحي وتمليه الفطرة السوية، ونسبوا إلى المسيح أنه أمر الغني أن يتجرد من أمواله، ويحمل الصليب ويتبعه، فالإنجيل يقول: »مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله«، ويقول: »لا تقتنوا ذهبا ولا فضةً ولا نحاسا في مناطقكم، ولا مزودا للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصا«. * * محرف الإنجيل يأخذ الرهبانية من الديانات الوثنية * * كان العالم في العصر الواقع بين وفاة المسيح (ع) ومبعث محمد (ص) يعيش فترة من انقطاع الوحي، والمتعطش إلى دين حقيقي لم تستطع المسيحية أن تسدها، فاستبدت الحيرة والضلال بالكثيرين، فابتكروا أو اعتنقوا فلسفات تنمّ عن التذمر والتهرب من الحياة، وتقوم على التأمل والاستغراق في عالم ما وراء المادة، وخير مثال لذلك الفلسفة الرواقية، وكان إلى جانب ذلك وثنيات قاتلة تقهر الجسد على حساب الروح وتقدس اليأس والتقشف، كالبوذية والبرهمية. * ولما كان بولس محرف المسيحية الأكبر مطلعا على هذه الفلسفات والوثنيات ومتأثرا بآرائها، فقد لقح بها ديانته الوضعية، وأدخلها في صلب مسيحيته، ثم توارثها الأتباع من بعده، ومن اقتباسات بولس النظرة المتشائمة إلى الحياة الدنيا ومتاعها، وقد أثرت هذه الاعتقادات وما اقتبسته المسيحية المحرفة منها في رواج الرهبانية وشيوعها في القرون التي تلت المسيح. * * طقوس الرهبنة... عذاب وجلد بالسياط * * أهم شروط الرهبانية العزوبية، إذ لا معنى للرهبانية مع وجود زوجة، ومعلوم أن المسيح عليه السلام، لم يتزوج، وينسب إنجيل متى إلى المسيح قوله: »يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل«. * على أن التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالا، من أساسيات المسيحية، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول »سان بونافنتور« أحد رجال الكنيسة: »إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشريا، بل ولا كائنا حيّا وحشيا، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان«. * ويعيش الرهبان في عزلة نهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة، والرضا من الرزق بالكفاف، وعدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة، وإذا كانت المسيحية المحرفة تأمر الأفراد العاديين باحتقار الحياة وتعده من أولى الواجبات، فبديهي أن تكون معاملة الراهب أقسى وأعتى. * فيجب على الراهب أن يصلي ويصوم كل يوم ويكد حتى يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق، وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو نسي أن يقص أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء »العشاء الرباني«. وكانت اثنا عشر سوطا عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة. * * * تعذيب النفس والجسد أساس الرهبانية * * لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجاوزه إلى تصرفات غريبة ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم، وروى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر، وقد تعبّد راهب ثلاث سنين قائما على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جدا أسند ظهره إلى صخرة، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار والمقابر، ويأكل كثير منهم الكل والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب اتهينس: »إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاما، وهناك راهب منعزل اخترع درجة جديدة من الورع يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق، وأما القديس كولمبان فكانت السناجب تجثم على كتفيه، فتدخل في قلنسوته وتخرج منها وهو ساكن«.