"مسرحة التاريخ" لا تزال مهمة مستعصية على المخرجين في الجزائر.. وبين "الملحمية" و"الخيال" يسقط بن عيسى في فخ سيطرة النص والسينوغرافيا. وإن سلمنا بأن رحموني قيد فريق العمل ركحيا وقلل من حظوظ الجماليات، فإن الالتزام بالنص حرفيا كان خيار المخرج، وهو خيار مشروع في الأعمال الملحمية الكبرى التي ترصد لها الإمكانات الضخمة، وليس في ورشة تكوينية. "الحب المفقود" في انتظار أن يصل وكل الأعمال المسرحية التي أنتجت في إطار التظاهرة إلى مختلف ولايات الوطن وإلى الجنوب الكبير. عاد الملك النوميدي ماسينيسا إلى قلعته المنيعة "قيرطا" عبر تأشيرة "الحب المفقود" إنتاج المسرح الوطني محي الدين بشطارزي، ودخل صفاكس وصوفونيسبا عبر بوابة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015" إلى المسرح الجهوي الذي لا يزال من دون اسم يعرفه وما أكثر الأسماء في مدينة أحمد رضا حوحو. العودة من حيث نص الأستاذ بجامعة مستغانم عبد الكريم غريبي، كانت محاولة علمية وفنية جادة لتصحيح عدة مغالطات تاريخية أصبحت للأسف حقائق حتى في نظر المنظومة التربوية في الجزائر، وكذلك دعوة ضمنية إلى ضرورة أن تعيد الدولة النظر في التحالفات من منظور أن الاستعمار صراع حضاري وليس اقتصاديا فقط وأن الاستعمار لا يزال اليوم وبكل الطرق يفتت وحدة نوميديا بشركاته واستثماراته (بيجو ورونو وغيرهما كثير). استعان غريبي في عمله البحثي الذي أثث به النص المسرحي بمؤرخين معروفين على غرار عبد الله العروي وتوفيق المدني ومحفوظ قداش وعبد القادر جغلول. وقارن بين ما كتبه مؤرخو الغرب، أمثال جون ميري، الذي كان أكثر موضوعية، ونصير الأدب الكولونيالي "كورناي". وأهم المغالطات التي أشار إليها النص، قصة أن ماسينسن وتعني "سيدهم" أرسل السم إلى صوفينيسبا ثم نصب في بلاط روما وكثير من المحاولات، حسبه، لتصوير موحد نوميديا ورائد الإصلاح الإداري والزراعي على أنه شخص سلبي ووصولي تحالف مع الروم ضد عائلته ومملكته، تعطشا لاستعادة العرش المسلوب . ماسينسن في نظر المؤرخين الغرب هو أيضا "ابن العرافة"، وهو من عاش بجرح اضطراره إلى دفع الأموال لإخراج والدته من السجن بدل إخراجها بالسيف. وأشار في نفس السياق إلى أنه، خلال رحلة بحثه، توصل إلى أن الموسيقى النوميدية غير موجودة في الموسوعة العالمية وأنه تم القفز على المرحلة وكأنها لم تكن موجودة أصلا. رحموني يحتجز بن عيسى في قصر ماسينيسا اختار المخرج أحمد بن عيسى الذي تخلف عن العرض الشرفي أن يكون العمل في إطار ورشة تكوينية مفتوحة للشباب الهاوي والمحترف في مختلف ولايات الوطن. ورفض، كعادته، أن يكون العمل "عاصميا" فقط. ونجح في الوصول إلى شباب من مغنية وتلمسان وسيدي بلعباس ووهران تم توزيع الأدوار عليهم بعد عملية كاستينغ، حسب مساعد المخرج علي عبدون الذي ناب عنه. رفع الستار عن ديكور ثابت لطالما عودنا عليه السينوغرافي عبد الحليم رحموني، دعمه بما يلزم ليوحي بفضائين داخل القصر وخارج القصر. وألبس القصر اللون الأحمر البرجوازي "ستائر وزرابي" إضافة إلى مجسمي رأسي أسد عند مدخل القصر. الخيار السينوغرافي حاصر المخرج والممثلين ما اضطرهم إلى إحداث تغييرات في الوقت بدل الضائع بالاستعانة بالإضاءة.
شباب من الجزائر العميقة في تربص "مهن العرض" دافع مساعد المخرج عن خيار بن عيسى في الالتزام بالنص كاملا. وأوضح في رد على أسئلة الصحفيين، خلال لقاء جمعهم بفريق العمل بعد العرض، بفندق "الرفيع" بالمدينة الجديدة علي منجلي، أن الممثلين التزموا بالحوار وأن الورشة كسبت سفيان مختار كمساعد مخرج متربص وأيضا بوراي نذير في الكوريغرافيا، الذي نجح في تحويل لغة الحوار وموضوعه التاريخي إلى حركات جسمانية وتعبيرية مدروسة ومضبوطة مع إيقاع العرض فحققت الإضافة ولم يكن توظيفها مجانيا أو بغرض إخراج الجمهور في فسحة "صخب". تجاوب الجمهور مع أداء الممثلين كريم حمزاوي الذي عبر عن أنفة وكبرياء وضعف ماسينسن ونسيمة زابشي، التي قدمت صوفينيسبا بأنوثتها وجمالها وانكساراتها وتضحياتها بكل رقي. عبد الله نميش بدوره حاول أن يجمع بين صفاكس المولع بحب صوفينيسبا وصفاكس المسكون بلعنة الحكم. وتألق كل من الممثلة وهيبة باعلي في دور "أزلان" والممثل حسين بن سميشة في دور "أمغار"، رغم قلة ظهورهما ومحدودية دوريهما. بذل فريق العمل سفيان مختار "فرمينا" وعادل ترباجي "قائد الحرس" وطارق فقير وعبد الخالق قناد "فارسان" وعبد الحق سبع "سيبيون" وفتح الله مالك "الرواي" وياسين جوزي "لايوس" وأمين بوري "مارسيلوس"، إضافة إلى كل من شارك في الكوريغرافيا "يوسف وهراني وياسر مرزاق وطاهر حفص وعثمان بوعناني وبونوار لعيدوني وعبد الوهاب مرجي.
وللإشارة، فقد كشف مدير الاتصال بالمسرح الوطني محي الدين بشطارزي، فتح النور بن إبراهيم، على هامش عرض المسرحية، عن مشروع تنظيم أيام مسرحية تعرض فيها ثمانية أعمال تناولت تاريخ الجزائر برؤى مختلفة قريبا.