في 20 جانفي القادم، ستتسلم الإدارة الأمريكيةالجديدة بقيادة باراك حسين أوباما السلطة في واشنطن، سيرحل بوش رفقة لورا إلى إقامة جديدة بدالاس بولاية تكساس، مخلفا وراءه إرثا ثقيلا ومشهدا دراميا مهينا مع حادثة فردتي الحذاء اللتان صوبهما نحوه صحفي عراقي. فمنتظر اختار هذه الوسيلة للتعبير عن مقته لبوش وسياسته التي دمرت بلده تحت شعار "الحرية للعراقيين"!. قريبا سيحل مكان بوش وصقور البيت الأبيض "فريق التغيير"، الذي وعد بأن يصنع السياسة في واشنطن بكيفية أخرى. لكن: ما الجديد الذي يحمله أوباما لمنطقة الشرق الأوسط؟ * أكيد أن ثماني سنوات من "البوشية" قد انتهت ولا مجال لتكرار نفس السياسة في عهد الإدارة الجديدة، ليس فقط لأن بوش وفريقه من المحافظين الجدد والإنجيليين المتشددين قد رحل، ولكن لأن نتائج تلك السياسة مكلفة جدا لأمريكا وهي خطر على مصالحها ومكانتها في العالم. فأمريكا غارقة اليوم في حربين مكلفتين ماليا وبشريا (أفغانستان والعراق)، دمقرطة الشرق الأوسط قادته إلى وضع هش قابل للانفجار في أية لحظة، وفي الداخل أزمة اقتصادية شبيهة بأزمة نهاية عشرينيات القرن الماضي. * لم نر بعد من فريق أوباما تحديدا دقيقا لسياسته الشرق أوسطية اللهم تلك الأفكار العامة التي ظهرت خلال الحملة الانتخابية، لكن ثمة تلميحات بدأت تظهر من النقاشات السياسية التي تحتضنها بعض المؤسسات في واشنطن وفي وسائل الإعلام. فهناك مؤشرات يستشف منها الكيفية التي ستكون عليها السياسة الأمريكية لما بعد 20 جانفي، من ذلك أن أوباما يتسلم مفاتيح البيت الأبيض في ظل أعقد أزمة اقتصادية يعيشها البلد، وعليه ستبقى الملف رقم واحد الذي سيهيمن على اهتمامات فريقه إلى غاية إرجاع الاقتصاد الأمريكية إلى السكة مجددا؛ فالبطالة في أعلى مستوياتها منذ أكثر من عشرين عاما حيث فقد 2 مليون أمريكي مناصب عملهم هذه السنة، والمنظومة المالية شبه مشلولة، وقطاعات صناعية، منها السيارات، على شفى الاختناق. وعليه، سيستحوذ هذا الملف على اهتماما فريق أوباما. * من جانب آخر، ليس سهلا على رئيس شاب، رغم ذكائه وشجاعته السياسية وقوة أفكاره، أن يفرض تغييرات جوهرية على الآلة السياسية التي صنعته، وهي ذات الآلة السياسية التي قيدت لنفسها مصالح استراتيجية معينه لا تتغير بتغير الإدارات، سيما في المنطقة العربية. فانسياق أوباما وراء خيارات "نبيلة ومثالية" قد يحرك ضده الأطراف التي اتهمته مرارا بنقص الخبرة وبأنه لن يصلح لمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. زد على ذاك أن هذا الوضع صنعه تفرد الولاياتالمتحدة بمركز القوة الكونية الأولى وحيرة إدارة بوش في اختيار أساليب ملائمة لتمتين هذه القوة. * كما أن هناك ما يوحي بأن أوباما يريد الحصول على نفس ما أراده بوش لكن بوسائل مختلفة، فالأول اعتمد القوة العسكرية المدمرة دون الحاجة لتفويض دولي، بينما يحبذ الثاني الوسائل الديبلوماسية والعمل مع الحلفاء. لكن النتيجة واحدة؛ لا التفاتة جدية لمشاكل الشرق الأوسط من شأنها أن تجلب له الاستقرار وتنهي معاناة شعوبه سيما في فلسطين ولبنان والعراق. وفي هذه الحالة أين التغيير المنشود؟ * اللمحة التي أعطاها أوباما عن أجندته هو أنه سيركز الاهتمام على أفغانستان وباكستان أين سيلاحق أسامة بن لادن في مغارات جبالها، وسيباشر مباحثات مع إيران. وهكذا، سيهيمن الموضوعان المشار إليهما على الأجندة الأمريكية خلال الأربع سنوات القادمة بعدما هيمن العراق على أجندة الإدارة الراحلة على حساب قضايا مركزية كالقضية الفلسطينية ومفاوضات السلام مع إسرائيل. * وهذا ما لمح إليه مقال هام نشرته "فورين أفرز" مؤخرا بعنوان: "ما بعد العراق.. استراتيجية جديدة للشرق الأوسط" ووقعه كل من ريتشارد هاس ومارتن أندك (*). يحاول هاس وأندك تصور أجندة مواتية للإدارة الجديدة بقيادة باراك أوباما، فيشيران في البداية إلى أن الرجل "سيواجه تحديات حرجة، معقدة ومتداخلة في الشرق الأوسط تتطلب معالجة مستعجلة: عراق يعيش هدوءا هشا لأعمال العنف التي، لا تزال، مع ذلك، تجهد القوات الأمريكية، إيران تقترب من العتبة النووية، مسار سلام متعثر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حكومة ضعيفة في لبنان، وتحدي فرضته مجموعات إسلامية متطرفة في الأراضي الفلسطينية (حماس)، وموقف أمريكي ضعيف بسبب سنوات من الفشل والانحراف. سيكتشف كذلك أن الوقت ليس في صالحه". * ويشير المقال إلى أن موضوع العراق هيمن على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، و"هذا يجب ألا يستمر"؛ إذ سيكون بإمكان إدارة أوباما "تخفيض عدد القوات في العراق تدريجيا، لكن "يجب أن يكون الانسحاب حذرا ومدروسا، بالشكل الذي لا يؤدي إلى تهديم التقدم الذي تم تحقيقه مؤخرا". ثم إن تحسن الوضع في العراق سيسمح للإدارة الأمريكيةالجديدة بتحويل تركيزها نحو إيران، حسب هاس وأندك، اللذان يدعوان أوباما لعرض "التزامات رسمية مباشرة مع الحكومة الإيرانية، من دون أدنى شروط"، موازاة مع تحفيزات أخرى مع مجهود دولي لفرض عقوبات جد قاسية على إيران "إذا تبين أنها لا ترغب في تغيير توجهاتها". * ولا تزال الأوساط السياسية الأمريكية تطرح العمل العسكري ضد إيران كخيار على أجندة أوباما: "إن القيام بعملية عسكرية وقائية ضد إيران من قبل الولاياتالمتحدة أو إسرائيل هو خيار غير جذاب في الوقت الراهن، بالنظر لمخاطره العملية ولتكلفته، لكنه يحتاج لدراسة متأنية كآخر خيار لمواجهة أخطار التعايش مع قنبلة (نووية) إيرانية"، حسب تصور هاس وأندك. * في ذات الوقت، يدعو الرجلان أوباما لبذل مجهودات قصد إنجاح مسار السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب، سيما سوريا، ويتصوران أن احتواء إيران وحصول اتفاق سوري اسرائيلي سيضعف الدعم الخارجي لحماس وحزب الله، وسيساعد على الاستقرار في لبنان. أما في فلسطين فيتصوران أن هناك ضرورة مستعجلة للقيام بمجهودات دبلوماسية لإنجاح المفاوضات "على أساس دولتين". وهذا في حد ذاته استمرار للوعود التي دأبت على ترديدها الإدارات السابقة والتي كانت محصلتها ربح الوقت وترك اليد الطولى لإسرائيل لتغيير الوقائع على الأرض تحت شعار: "مزيدا من الأرض وقليلا من العرب" كما يقول الشاعر سميح القاسم. * لكن هناك مشكلا جوهريا آخر يجب أن نلتفت إليه، وهو عجز الجهة المقابلة، وأعني أساسا الأنظمة العربية، عن بلورة سياسة عربية مشتركة تطرح مصالح المنطقة وتحاول بناء علاقات جديدة مع واشنطن على أساس "ربح متكافئ للطرفين". * * * يشغل الأول منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية وكان مشرفا على سياسة التخطيط بكتابة الدولة، كما عمل مستشارا لكاتب الدولة السابق كولن باول. أما الثاني فهو السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، شغل منصب مساعد كاتب الدولة لشؤون الشرق الأدنى، ويدير حاليا مركز سابان للشرق الأوسط بمؤسسة بروكينز. *