بين جميلة بوحيرد وسوزان مبارك لماذا يتلذذ المثقف العربي بتعذيب الذات؟ لماذا ينظر إلى الجزء الفارغ من الكأس دائما ولا يعنيه ما هو مملوء؟ هل المحيط سوداوي إلى هذه الدرجة ليجعلنا نأكل لحم بعضنا بعض حيا؟ * * دارت في خاطري هذه الأسئلة والأفكار وأنا أتابع كما يتابع جميع المثقفين العرب مشروع "مكتبة الأسرة" الذي تشرف عليه وتتابعه وترعاه السيدة سوزان مبارك. * التقيت عشرات المثقفين من المشرق والمغرب، من اليسار ومن اليمين، من الليبراليين والإسلاميين، وفي كل نقاش يذكر فيه حال الكتاب والمكتبات والقارئ والمطالعة إلا وذكر مشروع "مكتبة الأسرة" للسيدة سوزان مبارك، يذكر دائما بخير وبترحيب ومدح مع اختلاف الصيغ وحجم التعقيبات والملاحظات بين هذا وذاك، لكن الإجماع على نبل المشروع قائم ولا غبار عليه ولا تشوبه شائبة كما يقول القدامى. * صحيح أن مشروع "مكتبة الأسرة" هو مشروع استراتيجي من حيث أنه يهتم بقضية مركزية وهي "المصالحة ما بين الأسرة والكتاب". وصحيح أيضا أن المشروع يثير بعض التحفظات المتولدة عن القراءات السياسية لدى بعضهم لأن من تشرف عليه محسوبة على كتلة سياسية محددة وهي جزء من السلطة بل مركز قرارها، ربما. * لا أحد ينكر أنه كلما تحققت المصالحة ما بين الكتاب والأسرة تتحقق معها ضمنيا المصالحة ما بين الذات وذاتها. ولا يمكن بناء أية مصالحة صلبة في غياب المصالحة مع الكتاب والثقافة بشكل عام. * إن نبل مشروع "مكتبة الأسرة" يكمن أيضا في نقل هاجس الحديث عن الكتاب الجاد من دائرة حديث النخب إلى نقاشات وحوارات المواطنين العاديين. * إن فكرة "مكتبة الأسرة" هي طريق لإنقاذ الكتاب من نخبوية الصالونات والمجموعات والإلقاء به داخل حيز وفضاء التعايش اليومي للمواطن، أي الأسرة. * لقد تناسينا وأهملنا كثيرا دور الأسرة في تثبيت المواطنة وتأكيد الذات، ولن تزرع تعمر ثقافة المواطنة الصلبة إلا إذا نبتت في تربة بالأسرة. فلا وطن دون أسرة، لا وطن سعيد دون أسرة سعيدة. لا مواطن سعيد دون أسرة سعيدة. لقد كانت ثورة ماي 1968 بفرنسا على كل ما حملته من تغييرات وتصورات جديدة للحرية إلا أنها كانت الحدث الأكبر الذي هدد مفهوم الأسرة. وانطلاقا من ذلك خلفت ثورة الطلاب هذه ثقافة "هدم الأسرة" توارثها أجيال على مدى أربعين سنة (وهو سن الرشد). وأعتقد الآن أن هناك عودة واضحة في الغرب كما في الشرق إلى الأسرة كبنية أساسية للمواطنة. وإذا ما أردنا بالفعل المحافظة على هذه الأسرة فلا بد من رابط قوي بين أفرادها أولا، بين الوالدين والأولاد وبين الأبناء أنفسهم وبين الوالدين أيضا، وهذا الرابط لن يكون قويا إلا إذا كان "الكتاب" بشكل خاص والثقافة العميقة على وجه العموم. انطلاقا من ذلك بدا لي مشروع "مكتبة الأسرة" للسيدة سوزان مبارك فكرة نبيلة، جاءت في وقتها استجابة لما بدأت تعرفه الأسرة العربية والشرقية من تفكك وتفتت. * فقد نشرت ضمن قائمة منشورات "مكتبة الأسرة" غالبية الأسماء العربية الكبيرة والمعاصرة في الرواية والقصة والشعر والدراسة دون تحفظ بل إن هناك أسماء نشرت ضمن هذه القائمة كانت قد أثارت كثيرا من ردود الفعل وصل إلى حد الاستنكار والمحاكم الثقافية من قبل المتطرفين في المجتمع كما هو حال كتب للشاعر أحمد الشهاوي وهناك أيضا كتاب من ممثلي الحداثة الشعرية بامتياز في جيل السبعينات مثل الشاعر العماني سيف الرحبي. كما أن نشر وإعادة نشر كتب التراث المعاصر أو القديم ووضعه في مكتبة الأسرة هو إعادة التواصل بين الأسرة وماضيها دون الاغتراب عنه أو البقاء فيه، وهو ما يجعل سياسة المشرع سياسة شمولية دون إقصاء أو حكم مسبق وهو ما يدل على أن المشرفين على النشر فيه يحملون هما ثقافيا نبيلا وألما لما وصل إليه حال الكتاب في بلداننا العربية. * إن مشروع "مكتبة الأسرة" هو أيضا طريق آخر لإنقاذ القوة الشرائية المنهارة في مصر (المشروع موجه للأسرة المصرية) في ظل انهيار الطبقة الوسطى والتي تحولت إلى طبقة فقيرة غير قادرة على اقتناء الكتاب لثمنه وهو الموجه أصلا إليها، لأن استهلاك الكتاب يكون وبالدرجة الأولى من قبل الطبقة الوسطى التي تتشكل من المهندسين والأطباء والإطارات الوسطى والمعلمين وأساتذة الجامعات والإداريين وأعوان الدولة بشكل عام وهم في غالبيتهم خريجو الجامعات أو معاهد التكوين وعلاقتهم بالمطالعة والكتاب علاقة مبكرة وعضوية. * إن مشروع "مكتبة الأسرة" إضافة إلى كونه شمل من حيث خط النشر جميع فئات الكتاب المعاصرين والحداثيين وعلى أجيال متلاحقة ومن بلدان عربية مختلفة إلا أنه أيضا قدم هذه المنشورات في طبعات جميلة محترمة وبسيطة وبأسعار رمزية وهو ما رفع عن المواطن المصري فاتورة الكتاب خاصة في بلد كمصر حيث مستوى الفقر تجاوز كل التوقعات ووصل إلى أعلى نسبة له. وإذا ما كان هذا المشروع قد احترم القدرة الشرائية للمواطن وحماها فإنه أيضا حمى حقوق المؤلف. * إن الكتاب المقدم من خلال منشورات مشروع "مكتبة الأسرة" استطاع وبهذا السعر البسيط والرمزي أن يحقق إلى حد ما حلم قارئ لطالما سمعناه وشاهدناه يصرخ على شاشات التلفزيونات العربية وفي المعارض الدولية التي تقام هنا وهنا منددا ومشتكيا أسعار الكتاب المرتفعة. * أعتقد أن تجربة مشروع "مكتبة الأسرة" أولا بهذه الكتب المحترمة التي ترفض أن تكون للزينة ولا تصلح لذلك، كتب يحترم فيها الكتاب من حيث أنه أخرج للقراءة. بهذه المنشورات قضى المشروع على ما كنا نلاحظه من مظاهر غريبة عندنا في السبعينات ولا تزال ربما حتى اليوم حيث يذهب " الواحد" إلى معرض الكتب بمقاسات في جيبه تناسب طول فيترينات خزانة الصالون التي يريد أن يزوقها بمجلدات ترعب ولا تقرأ أبدا. * وأنا أفكر في مشروع "مكتبة الأسرة" تساءلت أما كان بإمكان امرأة عظيمة في بلادنا وهن كثيرات أن تقوم بمثل ذلك أو بصورة أخرى وربما أعمق. * إن قيادة مشاريع نبيلة مثل هذه، مشاريع مرتبطة بالكتاب أساسا والهادفة إلى "المصالحة" الكبرى، مصالحة بين المواطن وذاته، بينه وبين تاريخه، بينه وبين أسرته، قيادة مثل هذه المشاريع تتطلب شخصية رمزية قادرة على أن تحقق الإجماع ولا غبار على ماضيها ولا ندوب في سيرتها النضالية التاريخية. لست أدري لماذا فكرت مباشرة في شخصية المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد، فهي إضافة إلى كل هذه الرموزية التي تحويها شخصيتها التاريخية فإنها قارئة تعرف الكتاب وتعرف مراميه. وتعرف الواقع الجزائري جيدا الذي لم تغادره منذ الاستقلال. إن عودة المناضلة الأولى إلى الحياة العامة والعمومية وبهذا الحضور الذي بدأ يتكثف قليلا قليلا يجعلنا نتساءل أما كان عليها أن تعود ونحن في حاجة إليها، تعود بمشروع ثقافي سام وكبير وهي أهل لذلك، وهي أفضل من يمكنه أن يقود المشاريع الكبرى النبيلة إلى بر الأمان. * أنا متيقن أن الجميع سيكون معها وإلى جانبها من المثقفين الذين يرون فيها صورة المرأة المناضلة وصورة الجزائر التي لا تنبطح أمام الصعاب. وأنا متأكد أيضا بأن قيادة المناضلة الأولى السيدة جميلة بوحيرد لمشروع ثقافي كبير سيجعل من أصحاب المال أيضا متعاطفين ومتورطين في مثل هذا المشروع بدعمه وبذلك يكون هناك تخفيف العبء على ميزانية الدولة، وأنا متأكد أيضا ومن خلال ما تحمله صورة السيدة جميلة بوحيرد من رأسمال من التقدير والاحترام لدى العرب جميعا شعوبا وأنظمة (على اختلافها) فإن مشروعا ثقافيا غير ربحي تقوده المناضلة العربية الأولى سيجد دون شك الدعم الكافي من كل الأقطار العربية. * إن العرب اليوم يحتاجون إلى إعادة بعث الثقة في مواطنيهم ولن يكون ذلك ممكنا إلا بتزويج الثقافة بالنظافة، تزويج الثقافة بالنضال، وأعتقد أن صورة السيدة جميلة بوحيرد قادرة على مد جسر متين من الطمأنينة ما بين المواطن البسيط والمثقف العربي * وإذا كانت السيدة الأولى سوزان مبارك قد نجحت لظروف سياسية قطرية في قيادة هذا المشروع المصري فإننا نعتقد أن المناضلة الأولى قادرة على أن ترفع التحدي بقيادة مشروع عربي ونجاحه مضمون لما في شخصية جميلة بوحيرد من مزايا وأحلام العدالة والحرية. * يعرف الجميع أن المناضلة من طينة جميلة بوحيرد لا تقاعد لها، وأمنيتنا وفي مثل هذه الظروف المفصلية أن تعود السيدة المناضلة الأولى إلى قيادة مشروع ثقافي تربوي كبير يمس التربية والتعليم والكتاب والقارئ. والمناضلة الأولى تعرف أن كل ما حققه جيلها من حرية وشهامة يظل مبتورا في غياب إنسان غير ثقافي، لأن "الإنسان اللاثقافي" هو إنسان مشوش المواطنة. * فإذا كانت السيدة الأولى في مصر سوزان مبارك تعتمد في مشروعها هذا على دعم خزينة الدولة ولكن أيضا على الخواص وعلى المساعدات التي تجيئها من أوروبا وجهات كثيرة، إن موقعها كسيدة أولى يسهل لها المهمة دون شك، إلا أن المناضلة الأولى السيدة جميلة بوحيرد قادرة على قيادة مشروع كهذا بل وأكبر بكل حرية لأن رأسمالها هو تاريخها الذي يتكلم في السياسة وفي الشعر وفي الفن التشكيلي وفي السينما في جميع أقطار العالم العربي. فالمواطن البسيط مثل السياسي المحترف والمثقف والمبدع، جميعهم يعرفون أن هذه السيدةالمناضلة التي وقفت ذات يوم في وجه الاستعمار وهي في ريعان شبابها قادرة اليوم أن تقوم في وجه الجهل والأمية. إن من أنجحت ثورة نموذجية قادرة على إنجاح مشروع ثقافي تربوي بعيدا عن كل شعبوية أو فروسية دونكيشوطية.