رغم ما تخلفه من دماء ودمار ودموع فإن الحرب تعتبر من طرف علماء السياسة استمرارا للحوار لكن بأدوات أخرى أكثر عنفا، يلجأ إليها المتناقرون عندما تتصلب إراداتهم ويصل الخلاف بينهم إلى ذروته، وبمجرد أن تفلح الحرب في تليين الإرادات سواء بالهزيمة أو فداحة الحصيلة أو غيرهما يعود المتحاورون إلى الأدوات السلمية كالمفاوضات أو الوساطة أو المساعي الحميدة وغيرها من طرق التواصل السلمي.. وإذا كانت الحرب كذلك فإن المقاطعة السياسية هي ممارسة من صلب تعاطي الديمقراطية لكن بطريقة أخرى غير المشاركة، طريقة تقوم على التشكيك في النوايا أو فضح التلاعب بالديمقراطية، وتزوير الاستحقاقات، وعدم قدرة الشركاء الحيلولة دون وقوع ذلك غير الاحتجاج بالانسحاب وعدم تزكية المسار الموسوم بالتزوير.. المعارضة في الجزائر ورغم وصفها للسلطة بكل المساوئ السياسية، واقتناعها بأن الديمقراطية في حد ذاتها مزورة ومشوهة ومغتصبة، وأنها مجرد ديمقرطية شكلية، وبأن صوتها لن يصل مسامع الحكام، ولن يكون لها دور في الحياة السياسية إلا إذا رضيت بأداء الدور الذي تحدده لها هذه السلطة، وفي الإطار الذي تضعه لها لا غير، إلا أنها لا تزال تصر على المشاركة السياسية في العملية السياسية وتكتفي في بعض الأحيان بمقاطعة بعض الاستحقاقات.. لقد وقعت المعارضة ضحية ممارستها، فقبولها الانخراط في العملية السياسية، ثم رفضها لبعض تفاصيلها وإن كانت محورية أوقعها في تخبط كبير، رهن مواقفها وأفقدها الفعالية وقدرة التأثير في الساحة السياسية. ومن هذا المنطلق لم تعد مقاطعة بعض أحزاب المعارضة ومهما كان وزنها ذات معنى أو تأثير يقلق السلطة أو يثنيها عن قراراتها أو يفشل استحقاقا أو يلغي تزويرا... فقد أصبحت المقاطعة مجرد تسجيل موقف لا غير يصل "مسامع" السلطة لكنها لا تلقي إليه بالا ولا توليه اهتماما.. والمشكل الأكبر من هذا وذاك أن الجزائريين أنفسهم لم يعودوا يؤمنوا ولا يكترثوا بهذا الشعار الذي أصبح أجوفا في نظر العديد منهم، بل لم يعد الكثير منهم يثق حتى بهذه المعارضة "التي تأكل في موائد السلطة ثم ترفع هذا الشعار بين الفينة والأخرى".. الظاهر أن المقاطعة أصبحت مغامرة تكبد المقاطعين خسارة مزدوجة، فلا هم كسبوا الشعب ولا هم استفادوا مما تغدق عليهم السلطة كلما زكوا المسعى وواكبوا الركب.. وعليه فإن المقاطعة أصبحت مأزقا يخلط أوراق المقاطعين، ويفرض عليهم البحث عن آليات أخرى إن كانوا حقا صادقين في معارضتهم الاستحقاق الرئاسي، وجادين في اتهاماتهم بأن العملية محسومة سلفا وبأن النتيجة معروفة.. ذلك لأن الاكتفاء برفع شعار "المقاطعة" على ضوء التجارب السابقة، واليقين الراسخ بعدم جدواها، أصبح عبثا سياسيا حتى لا أقول مجرد كلام فارغ..