لغة التهديد والوعيد ليست من السياسة في شيء، فهي مناقِضة تماما لفلسفة المصالحة والوئام المدني وأسلوب الحوار والتشاور. كيف ندعو المتصارعين بالسلاح في بلدان شقيقة وصديقة لإصلاح ذات البين من خلال الحوار وتغليب الحكمة، ونفعل عكس ذلك بيننا؟ هل اعتقد طرفٌ في لحظة ما أنه امتلك زمام كل شيء ليهدد ويتوعد؟ ألم نتعظ من تهديدات بداية التسعينات التي أوصلتنا إلى ما لا يُحمد عقباه؟ ألم نفهم بعد أن في بلادنا بالذات لم يوجد ولن يوجد طرفٌ يمكنه الادّعاء بامتلاك كل الحقيقة أو العصمة من الخطأ؟ ليس بهذه الطريقة نرسم لأنفسنا طريق المستقبل. إننا نريد أن ننتقل قبل غيرنا إلى بناء دولة ديمقراطية حقيقية تقوم على الرأي والرأي الآخر، الحكم والمعارضة، السياسة والسياسة البديلة.. نختلف فيها حول الغاز الصخري، وحول كيفية صرف المال العام، وكيفية بناء الأسرة وإصلاح المنظومة التربوية وغيرها من المسائل بشرط واحد: أن يكون ذلك بلا تهديد أو وعيد أو تخوين أو ادّعاء بامتلاك كل الحقيقة. بلادنا اليوم تمر بمرحلة حرجة، الكل يتربّص بنا فلا نتربص ببعضنا البعض. لقد أثبتت تجربة الشعوب القريبة منا كيف انقلب حالها يوم تربصت ببعضها البعض، وحاولت أن تستقوي بالأجنبي لحسم المعركة لهذا ضدّ الآخر. الجميع يعرف النتيجة وما آلت إليه تلك الشعوب. ونحن لا نريد أن نسير في ذات الطريق، كفانا ما عرفنا من صراع في العشرية السوداء. نحن في حاجة إلى حكمة وحكماء لا لسبّ أو شتم، في حاجة إلى أناس يقدّمون النصيحة ويقبلونها، يعترفون بخطئهم إن أخطؤوا ويقومون بإصلاحه بلا مَنٍّ أو عزة بالإثم. لا يُعقل أن يعتدّ أي كان بقوته على من هو أقل منه قوة، أو أقل منه نفوذا أو مالا، ولا يُعقل أن يتم اللجوء إلى غير الحكمة والحوار لإذابة الجليد بين الفرقاء. لم تنفعنا بالأمس لغة التهديد والوعيد وأدخلتنا في نفق مظلم، وليس علينا أن نكرّرها اليوم. بل وجب علينا أن نحذفها تماما من قاموسنا السياسي، إذا أردنا أن ننتقل حقيقة إلى حال أفضل مما نحن عليها الآن، وإذا أردنا أن نُبقي الأمل قائما في أننا يمكن أن ننفرد اليوم بريادة الإصلاح السياسي كما انفردنا في القرن الماضي بثورة التحرر من الاستعمار. لقد صنع شهداء الأمس نصرهم بحبهم لبلدهم ووحدة شعبهم وعلينا أن نفعل ذات الشيء، من غير تهديد أو وعيد...