كل عام وأنتم بخير ندلف من ليلة القدْر إلى بوابة العيد، ومن يوم القدس إلى دوامة سياسية فيها البؤس، دربنا زَلِق، وخطونا توجّس، وأنفاسنا توهّج، وفضاؤنا وعيد، ومن حولنا المنذرات تترى واحدة بعد أخرى..اقتصادية وسياسية واجتماعية، داخلية وخارجية، فردية وجماعية..إلخ، وما تجره هذه وتلك والأخريات يصب في حوضنا ويكوّن ماءنا ومزاجنا ويصنع لحظتنا الراهنة، ويكاد يلون أرواحنا وزماننا.. فنحن في كثير من بقاع أرضنا ومفاصل قضايانا وتوجهات نفوسنا نقع تحت رحمة من هو أشدّ منا وألدّ في الخصام، سواء أوَفَد علينا من خارج الجغرافية والتاريخ أو نبت بين لحمنا وعظمنا، يهب في بيئتنا المادية والروحية أعاصير ويستبد ما شاء له أن يستبد، وينقلنا على هواه من نار إلى حصار إلى شجار إلى فساد إلى إلحاد.. ويدمغنا بما شاء من الصفات، ويأخذ منا تكاليف تعبه علينا ومعنا، فله الغنم وعلينا الغرم. ومن يصنع صورتنا يضع في عيوننا اللون الذي يشاء، ويحدد لنا زاوية النظر وآلية الإبصار وقراءة ما نرى وفهم ما نقرأ.. "انظر ولا ترَ، وره ولا تنظر، وافهم ما نشاء، ونفذ ما نقول.. وحوقل حتى ترضى."، وفي كل الأحوال أنت أعمى يُرسَم لك دربك وتلاوين رؤاك.. ويُراد لك أن تبقى كذلك محاصراً بما صُنع لك وصُنع فيك. مسكين من يثمِّر أرض الآخرين ويأكل ذاته، من يغرق في دمعه ولا يستنقذ عينيه، من يدمن اليأس والبؤس ويراهما حماية وكفاية.. من ينام على ظلم ويستيقظ على ضيم ويفقد الفرق بينه وبين الأشياء. عند عتبة عيد الفطر ويوم القدس سال دمنا ومُنعنا من الصلاة في الأقصى المبارك فوضعت بعض فضائياتنا العتيدة أخبار تشكيل وزارة الإرهابية ابنة الإرهابي "تسيبورا ليفني" على رأس نشرات أخبارها، واستمعنا إلى مجرمين يتكلمون عن الأبرياء والبراءة من فوق منبر الأمم، وإلى وحوش ضارية تنصح بعدم افتراس الناس وهي تلغ في دمهم وتمضغ لحمهم وتتلذذ بألمهم، وإلى ألسنة تنطق باسم الجياع وأصحابها هم وجع الإنسانية وعريها وعارها وسرطانها المزمن، ورأينا فجاراً وتجار سياسة وتعاسة يعربدون في هيئة الأممالمتحدة وفي أسواق البورصات يحذرون من الخطر الذي صنعوه بأيدهم وهم الخطر المقيم، ويتباكون على المستقبل وهم من دمر الحاضر ويهدد المستقبل.. يعظون الناس وعظاً ممجوجاً، ويعتلون منبر الأمم الذي احتقروه حين كان احتقاره في مصلحتهم ليقولوا إن هذه الهيئة العتيدة ضرورة ويجب أن تبقى، ويتكلمون عن السلم الأخلاق وهم أساس الإجرام والفتن وتفتيت الأمن وبؤس الأخلاق وسبب تردي أوضاع العالم في زمن الحرب وزمن السلم.. وقرأنا في صحف عربية مغتربة غرائب طالما اجترحتها، قرأنا لأشخاص تغرّبت ضمائرهم ورؤاهم قبل أجسادهم عقولهم، قرأنا إشادات بيهود يوظفون الفنون لخدمة سياسة الاحتلال والإذلال والاستيطان ويطالبوننا بنسيان الماضي وتجاوز ما أنتجه الاستعمار الصهيوني والإقبال عليهم إقبال المحبين المعجَبين لأنهم من نور ونار ونحن من ظلمة وطين، لأنهم ملائكة العصر وأبرياءه المضطهدين وحن إرهابه وترابه، ولأنهم قهرونا يوماً يجب أن يبقى أبداً فنحن نستلذ وضع المقهورين! قرأنا لهم ما كتبوه واستنطقوه اليهودَ الصهاينةَ ومن يرعى إجرامهم، إنهم يشيدون بهم ويقدمونهم رموز "إخاء وسلام وفرح"، ويرفسون في بطوننا لنستيقظ من وهم فلسطين عربية والقدس محررة والأقصى مباركاً مصوناً ومن حق العودة على الخصوص، وأن نمجد المجرمين ونعلي شأن العملاء ونقبل إقبال الهيم على سلام المهزومين.. في ليلة القدر، عند عتبة عيد الفطر وفي غمرة يوم القدس العالمي، تماوج أمامي الأمل واليأس، الفرح والحزن، العزم والتخاذل، الرضا والغضب.. وبلغت في حالات حد التشظي حين تداخلت أمشاج الصراعات والمساومات والمصالحات في هذا الركن أو ذاك من أركان أرض العرب على الخصوص، مع مساحات من الخداع والنفاق لا نهاية لها، وفكرت في من يرفع نفسه دولة فوق الدولة ملغياً الشعب والدولة ويرى القانون مكثفاً في رأيه وإرادته ومصلحته وهواه، وفي من يلغي الآخرين من موقع التعالي عليهم معتبراً نفسه بداية التاريخ ونهايته والمخول، باسم أي شيء يقرره ويراه أو يتخيله، بالحسم والرسم اللذين يشملان مصير الآخرين وأموراً تخص البلاد والعباد.. وفكرت في مثقفين يبيعون أنفسهم للشيطان ويزوّرون ما شاءت لهم أنفسهم، يكذبون ملء الرئتين مع كل شهيق وزفير، ويصدّرون خواءهم "ثقافة" تطيل عمر الجهل والعنجهية والباطل، فترفعهم صحف ومجلات وفضائيات وإذاعات تعيش على الإشاعات وتنشرها وتؤسس عليه مواقف ومعرفة وعلماً، ترفعهم مبدعين وعلماء وأعلاماً، وتطبل لهم سياسات لا تقرأ وأيديولوجيات محنطة تجاوزها الزمن، يزعم أتباعها الذين يتنفسون هواء غرف مغلقة في أجواء متعفنة يسكرون يمكرون، أنهم الثقافة والعلم والحكمة والعصمة وهم خارج دوائر كل ذلك ولكن لا يفقهون.. ويفتكون بكل فضيلة ولا تعني لهم الفضيلة شيئاً. فكرت في بعض هذا الخداع الذي يكتسح عقولاً فيحيلها حقول عصف مأكول، وفي أفواه وألسنة تباعد ما بينها وبين عقل يجدّيها ويلجمها ويحكمها ويلهمها فاشتطت وذهب بها الغي كل مذهب، فأخذت تلهج بالباطل تصنعه وتلوك الادعاء الفارغ وتفرغه بحمية وجاهلية وجهل، وتنشر ذلك " حقائق" ملء فضاءات ومساحات، ليسجلها التاريخ الظالم المظلم وقائع، وترفعها بعض السياسات "منارات"، ويُزجى إليها التكريم وتنسب لها الكرامات والمكرمات.. فيرتد كل ذلك على الناس والقيم والثقافات وبالاً.. وفكرت في أجيال تُساق سوق القطعان على حداء شهواتها وغرائزها ونزواتها فتبلغ غايات ومشارب ومآرب فيها من تدني الهمم والتطلعات ما فيها، فيفرح لذلك من يريدون لها ذلك من أعداء الأمة ومن يرتبطون بهم ويعملون لمصلحتهم، وهذا الذي يفتك بالأجيال لا يكاد يعرفه أو يهتم به حكام يتولون زمام أمور الأنام ولا يصل إليهم من شؤونهم إلا ما شاءت عيون وقول وألسنة تحاصرهم ويفتك بها الإغراض والهوى والنفاق والانتهاز فتكاً ذريعاً فيبقي منها القامات الفارعات الفارغات والمظهر اللافت لسطح النظر.. هناك أوقات يقيم معك فيها السهد والقلق اللذان قد يزورانك على ظهور خيل التأمل فلا تكاد تتخلص من نفسك ومما يلاحقك ليلك ونهارك ويشدك إليه شد اللجَّام للفرس.. وحين تجد نفسك مع حزمة مشكلات تحاصرك وتسد عليك منافذ التفكير في سواها فإنك تدخل مداخل حرجة قد لا تخرج منها إلا بحشف الرأي حين تعرضه على بساط التنفيذ مع من لا يهمه ما يهمك ويغرق فيما لا تغرق فيه.. في أيام وقفات شهر رمضان الكريم وجدتني أقف عند عتبة العيد ويوم القدس العالمي في خضم ما يفترس النفس والأمة، وأفكر في أمر من يريدنا كما يشاء ومن يعجبه أن تكون أعنّتنا بأيدي سوانا ولا يهمه أن نجد نقوم بمعالجات خاصة تقوم على الاستقلالية والحكمة والمصلحة لمشكلاتنا العربية المتشابكة، ونصل إلى مخارج خاصة لمشكلاتنا الخاصة والعامة، وفي أمر من يحولون الناس إلى مناهل لألسنة لا تحكمها عقول وضمائر، وتدور بحياتهم وأفعالهم وإنجازاهم وخصوصياتهم ألسنة تشيع ما تشاء وتصنع وجوهاً وسيراً وإنجازات لمن تشاء كما تشاء، يصنف على أساسها الأشخاص والأفعال والسلوك ولا يُحتكم فيها لمعيار من أي نوع ولا يتبع فيها منهج معتبر من أي نوع، وتشرها قوة "التبشير" اللفظي لفئات غدت مساحات قول متدحرج من دون وعي ولا محاكمة ولا ضمير، تفعل ما تفعل من دون مراعاة لأي ظل ولو بعيد من ظلال الحقيقة والمنطق والمسؤولية. فكرت في أهمية التصدي لهذا النوع من الأشخاص والفئات والمهام، ومواجهة زيف وتزييف وتضليل يجتاحنا من الدخل والخارج، وفي أن يكون ثبات على مبدأ ومواقف عقلانية تحاكم وتمحص وتناقش وتتخذ الموقف المنصفة البناءة، وفي أن تكون هناك مبادرة ومسؤولية وحيوية توصلنا إلى بداية طريق البناء السليم.. وفكر في أنه من حقنا أن يكون لنا يوم حرية وحكمة وفرح!! ورأيت أن هذا مما يم كثيرين غيري فأردت أن أشركهم فيه.. فهل تراني ألقيت عبئاً على م لا يريد حمله، وأقحمت نفسي ويري فيما لا يقبله الصر ولا يجوز الخوض فيه؟.. ربما .. وربما كان هذا مدخلي لفرح في يد قادم.. قادم.. وكل عام وأنتم بخير. دمشق في 26/9/2008