لن أفلسف هذا الموضوع، ولن أعرض عليكم ما جاء به ميشيل فوكو في كتابه عن التاريخ الكلاسيكي للجنون، ولن أحاول أن أعرض أمامكم مفاهيم معقدة جاء بها فرويد في كتاباته الكثيرة والمعقدة عن الجنون والمرضى العصبيين، ولن أغوص معكم في مقولات فرانتز فانون... ولا حتى في ما قاله الجاحظ عن المجانين، ولكني سأقص عليكم ما رأيت وما سمعت مما روي لي من حكايات مجنون قرية كانت شهيرة بسوقها الأسبوعي وأعني بها قرية "سوق الثلاثا دي ودان". وتقع قرية "الثلاثا دي ودان" هذه، وهي واحدة من قرى امسيردة افاقة، بأقصى الغرب الجزائري، عند سفوح جبل زندل العظيم. يعد وجود مجنون القرية، أومجنون المدينة ظاهرة تكاد تكون عامة، فلكل قرية ولكل مدينة أحمقها المركزي، الذي حوله تركب الخطابات وتنسج شتى القصص، وعنه تنقل الأقاويل التي تصبح سيارة بمثابة الأمثال أو الحكم، ولا تكاد تخلو مدينة أو قرية ذات تقاليد عريقة من مجنون يمثل فيها ظاهرة إنسانية واجتماعية وثقافية ومرات دينية، فلتلمسان "حمو" ولعزابة "الريش" ولمستغانم "عفان" و.... فالأحمق الذي نعنيه هنا هو ذاك الشخص القادر، من حيث لا يدري، على جمع أهالي القرية أو المدينة حول سياق من الخطابات والانشغالات والرؤى، فهو الذي يلاقي بين أحاديثهم ويصنع جزءا منها، ويكون القاسم المشترك لكثير من موضوعاتها وأحداثها وحوادثها. فالأحمق هنا ليس الأحمق المرضي (المختل عقليا) بل هو العنصر الذي يشكل عمادا متينا بهشاشة »جنونه« في تأسيس القرية والمدينة ويشكل ويبني جزءا من ذاكرتها الجماعية ويبني في الوقت نفسه كثيرا من مشتركات ناس هذا الفضاء المديني أو القروي. فأجزاء كبيرة وكثيرة من تواريخ القرى والمدن مؤسسة على التاريخ الشخصي لمجانينها، فالحكايات الغريبة الشعبية، الحقيقية منها أو المختلقة، التي نسمعها عن مجانين بعض القرى ليست حكايات فارغة أو مجانية بل هي جزء أساسي من البنية المخيالية التي عليها يؤسس القرويون أو المدينيون فضاءهم الاجتماعي والثقافي والديني الشعبي. وفي كثير من المدن يتمتع المجانين المركزيون بسلطة كبيرة غير مفسرة، فهم يرتبون من قبل العامة في خانة الحكماء والدراويش (ومفهوم الدرويش هنا مفهوم صوفي) وذوي الكرامات، وهم الذين يشرفون على تنظيم سير مواكب الجنازات وتراهم يشاركون في صلاة الجنازة. وكثيرا ما تحوّل العامة من أهالي القرى والمدن بعض مجانينهم بعد وفاتهم إلى أولياء تزار أضرحتهم علاجا لبعض الأمراض النفسية أو الجسدية، وتقام لهم الأيام والصلوات ويقام لهم الذكرى والتعظيم. الحكاية: كان لنا في تلك القرية، قرية "الثلاثا دي ودان" أحمقنا والذي كان يسمى "الحسن دا التلاثا"، وهو رجل عاش عمره يرتدي لباس النساء. هكذا وجد مجنون هذه القرية، ذات يوم، بلباس نسوي في القرية، وهكذا قبل به الجميع رجالا ونساء ولم يسألوا لماذا وكيف ومن أين جاء؟، قبلوا به كما هو، بشكله ولغته وهندامه ونوباته العنيفة تجاه الأطفال الذين كانوا لا يترددون بين الحين والآخر من التهكم عليه والسخرية من لباسه. لا أحد كان يستطيع أن يسبق هذا الحسن دا الثلاثا إلى السوق الأسبوعي، يكون أول من يصل رحبة السوق، فخطواته الأولى وهرولته هي التي تفتتح السوق الأسبوعي الذي كان يقام كل يوم ثلاثاء. كان هذا الموعد الأسبوعي الذي ينتظره الجميع، من الفلاحين والمربيين والتجار والفضوليين، انتظارا خاصا يشبه الاحتفال، بل كان السوق احتفالا حقيقيا، بهجة للرجال والنساء ولنا نحن الأطفال. المتسوقون الذين يجيئون هذا الموعد بشغف لم يكونوا ليشعروا بمراسيم السوق وبهائه بيعا وشراء ولقاء إلا إذا كان "الحسن دا التلاثا" موجودا هناك. كان أحمقنا لا يخطئ الموعد، كانت له عباراته التي يكررها في السوق، يرددها عاليا فيتناقلها الناس كعلامة أو رؤيا أو تنبؤ، كانت عباراته تفسر كإشارات من السماء، فهي التي قد تعلن عن سقوط المطر إذا ما جفت الأرض ويبس الضرع وأبدى الناس من الفلاحين والقرويين معاناة وقنوطا من الجفاف، وكانت تقرأ كبشارة معافاة للمرضى إذا كان للمتسوق مريض عزيز، وكانت تفسر كرسالة خير لمن له غريب في الأقاصي وخلف البحار وما أكثرهم، الجميع كان يجيء السوق الأسبوعي للتسوق، للبيع والشراء، ولكنهم كانوا يجيئون هذا الفضاء الأسبوعي أيضا بقصد أو بغير قصد للاطمئنان على وجود هذا المجنون الذي يعد وجوده سببا من أسباب قيام السوق، قيام لقاء الناس بعضهم ببعض. كان "الحسن دا التلاثا" يرتدي لباس النساء ولم يكن يثير حفيظة الرجال ولا النساء، كانوا يعتبرون ذلك من مقتضيات الحال، ومن خصوصيات سلوكيات هذا الشخص، إنه في اختلافه عن الجميع ينتمي لهم جميعا، وهم ينتمون جميعا إليه، كان مقبولا في اختلافه عن الجميع، كان الناس يؤقتون دخولهم السوق وخروجهم منه أو مغادرتهم له على حركات وأصوات هذا "الحسن دا التلاثا" فيقول الواحد: كنت أول من وصل رحبة السوق بعد وصول الحسن دا التلاثا ، وغادرت السوق وقد سمعت الحسن دا التلاثا يقول كذا وكذا.. اشتريت كذا وكذا ونقدت الحسن ذا التلاثا أربع دورو من ثمنها. كان الناس جميعا من أهل قرية "التلاثا دي ودان" أو جميع من كانوا يجيئون هذا السوق الذي كان شهيرا في بداية الستينات لا يسألون عن مبيت "الحسن دا التلاثا"، ولكنهم كانوا مطمئنين بأن له مبيتا يرتاح فيه دون أن يسألوا كيف وأين؟ ولا عمن يوفر له ذلك؟ ولم يكن أحد لا والدي ولا الآخرون يحدثوننا عن نومه أو عن مسكنه، فهذا الحسن دا التلاثا يسكن فقط في أحاديث الناس وقصصهم وكأن وجوده لا يحتاج إلى مكان للنوم أو للاستراحة. أنا أيضا كنت أعتقد أن من هم من أمثال هذا الحسن دا التلاثا، إن وجدوا في أماكن أخرى، لا ينامون ولا يأكلون ولا يمرضون، بل إنهم لا يملكون الوقت للمرض أو الموت أو الأكل أو النوم لأن لديهم سرا في لسانهم وحركاتهم هم قادرون بواسطته على إسقاط الخير على هؤلاء وقادرون أيضا على إسقاط اللعنة على أولئك. كم كنت أتمنى وأنا طفل صغير أن أرافق يوما والدي إلى هذا السوق، لم تكن رغبتي في أي شيء بقدر ما كنت أريد وأرغب رؤية هذا الرجل الذي يرتدي لباس امرأة ويمشي في الأسواق، يطعمه الناس ويكسونه دون شح أو نسيان. لم تسمح لي الظروف لرؤية هذا الحسن دا التلاثا في سوق قريتنا "الثلاثا دي ودان" ولم يتسن لي معرفة هذا السوق أصلا ولكني عرفت عنه الكثير من خلال ما كان يروى عن هذا المجنون. وحين تغيرت موازين الحركة العمرانية في المنطقة، في نهاية السبعينات، وقف ذات يوم الحسن دا التلاثا ونادى بأعلى صوته في المتسوقين قائلا: سيغلق السوق، سيغلق باب سوق التلاثا دي ودان... وظل يردد هذه العبارة حتى غادر الناس السوق مع منتصف النهار. تعجب الناس في كلامه واعتبروا ذلك إيذان شؤم على القرية وسوقها الشهير. وهو بالفعل ما حدث، فلم تمض أسابيع قليلة حتى خفتت أهمية سوق التلاثا دي ودان ولم يعد له ألقه الأسبوعي الذي كان يسحب إليه آلاف الناس من كل الجهات، الذين كانوا يجيئونه من مغنية والرمشي وندرومة والغزوات وغيرها، ثم ما فتئ أن توقف نهائيا ولم يعد يجيئه أحد. صارخا كان: أغلق السوق، أغلق السوق... بهذه العبارة المعلقة في حنجرته خرج الحسن دا التلاثا من قريته، غادرها، وبمغادرته لها ماتت القرية أيضا بعد موت سوقها الأسبوعي. وسحبت منها قرى أخرى بهجة السوق الأسبوعي. وحين شوهد الحسن دا التلاثا في اليوم التالي في الساحة الرئيسية لمدينة مغنية، التي تبعد عن قريته أزيد من خمسين كيلومترا. وصلها راجلا أو كما يقول البعض راكبا بغلة بجناحين، لم يعرف أحد كيف وصل إلى هذه المدينة وبأية وسيلة، لكن الجميع أدرك أنه وصل. وشاهدته، أنا الذي لطالما تمنيت رؤيته، لأول مرة في حياتي شاهدته، لمحته من خلف زجاج نافذة حافلة الركاب العمومية البرتقالية التي كانت تنقلني إلى مدرستي الداخلية بمدينة تلمسان، كان الحسن دا التلاثا متكوما عند باب متجر مغلق أمام ساحة المحطة الرئيسية للحافلات بمغنية. حزنت وتمنيت لو أنني لم أره، ما كنت أعتقد أن ذاك الذي شغل الجميع يكون هكذا، وعلى هذه الصورة، لقد سقط فجأة من سماء حكاياته التي ملأت رأسي الصغير آنذاك، لقد شاهدته وقد غير من لباسه النسوي الذي عاش فيه أزيد من أربعين سنة ليسكن لباس الرجال، وحين غيّر من لباسه ومن مكانه ضاع في رأسي وضاع في شوارع مدينة مغنية ثم مات ولم يلتفت إليه أحد من المارة.