تمنيت على الله، وما أكثر ما أتمنى، أن لو آتاني شيئا من بيان أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ولا أكتمكم فأنا أغار من هذا الرجل وأحسده، وقد تعجبون ممن يغار ويحسد كاتبا مضى على موته قرون طويلة.. وأنا لا ألوم المتعجبين، لكن أستسمحهم وأطلب منهم أن يتسع صدرهم حتى يعرفوا وجهة نظري، فقد يزول عجبهم، وربما انحاز لرأيي بعض الكتاب، وعندها قد نفكر في تأسيس جمعية "حساد الجاحظ"، تضاف إلى الواحد وثمانين ألف جمعية التي قال السيد وزير الداخلية أنها تنشط في البلاد، لكنني أتعهد أمامكم للسيد الوزير بأن ألتزم بإرسال التقرير المالي والأدبي في وقته، وبأن يكون شفافا لا ضباب فيه.. وأعود إلى شيخنا الجاحظ، لأقول أن ما يسحرني في كتاباته، إضافة إلى سلاسة أسلوبه وحسن اختيار ألفاظه، هو قدرته على الكتابة في موضوع يبدو لغيره محدودا، فتجده يسترسل فيه طولا وعرضا، ومن أمثلة ذلك، رسالة في "تفضيل البطن على الظهر" ورسالة "الشارب والمشروب" ورسالة "مفاخرة البيضان على السودان" و "كتاب البغال" ورسالة في "التدوير والتربيع"، كل هذه الرسائل تبدو محدودة، فيمدها الجاحظ من عذب بيانه وأناقة أسلوبه، فتخرج وفيها من المتعة العقلية واللذة الأدبية ما لا يتيسر لغير الجاحظ.. ولا أخفيكم أن الأهم من كل ذلك، هو أن الكتابة في البغال والدوائر والمربعات والمشروبات لا تجلب العدوات، فهي خير من الكتابة عن لصوص السر ولصوص العلانية، وأقصد بهم اللصوص الصغار الذين يتسترون لسرقة الشيء الصغير، وبين كبار اللصوص من مسؤولين وسياسيين وهم يحتالون على الناس في كل شيء، فالكتابة في هؤلاء تجذب الشرور، والكلام عليهم "ذو سجون" أي يدخل السجن ! أما الكلام في البغال والحمير، فلا خطر يحذر من بين يديه ولا من خلفه، وقديما فضل بعضهم الكلاب على بعض الآدميين، وكتب كتابا سماه "فضل الكلاب عن بعض من لبس الثياب"، ومن قبله فضل الشاعر الشنفرى العيش مع الحيوانات، واعتبرهم أهله وعلل ذلك بقوله: هم الأهل لا مستودع السر ذائع لديهم ولا الجاني بما جر يخذل ! هذه الأيام جاءتني في فكرة كتابة مقال في "تفضيل الأقدام على الأدمغة"، وأنسف فيها المثل الشعبي المعروف، والذي يقول: "كبر الرؤؤس للتدبير وكبر الأقدام للتخسير"، هذا المثل غير صحيح، ألم تقرؤوا في الأيام الماضية، خبر انتقال المعلق الرياضي حفيظ دراجي إلى قناة "الجزيرة الرياضية" وأن أجره الشهري يفوق أجر خمسين طبيب (اللهم لا حسد)، ولو سألتم دراجي لقال أن أجره ذلك ليس شيئا مذكورا أمام أجر المدربين والفنيين واللاعبين، وهؤلاء لا قيمة لهم دون إشهار المعلقين والإعلاميين، وعليه لا وجه للمقارنة، فالأطباء يقارنوا بالإعلاميين في الشؤون العلمية والطبية، فهل سمعتم بنجم في هذا المجال؟ وفي شتاء 1992 التقيت في سطيف الشاعر عز الدين ميهوبي، كلن عائدا من تجربة رئاسة تحرير صحيفة "الشعب"، وسألته عما ينوي فعله، فقال أنه يحضر لبعث أسبوعية رياضية، ولا أخفيكم لقد تعجبت من هذه النقلة من مطاردة القوافي وتتبع أجواء السياسة إلى رصد حركة أقدام اللاعبين.. وبعد صدور الأعداد الأولى من "صدى الملاعب"، أدركت أن ميهوبي كان كربان السفينة الحاذق، يرصد حركة اتجاه الرياح، ويغير وضعية شراع سفينته بحسب مقتضى الحال، وسأله غيري السؤال نفسه، فقال بالأمس سياسة، واليوم رياضة، وغدا ترابندو.. والحقيقة أن أسبوعية "صدى الملاعب" نجحت، وحققت لصاحبها دخلا محترما، وقدمته لجمهور ما كان ليصل إليه لو قال ألف قصيدة أو كتب ألف مقالة.. وحاول الكاتب أنيس منصور أن يضايق الأديب توفيق الحكيم، فنشر مقالا جاء فيه أن سكان العمارة التي يسكنها الحكيم، لا يعرفون من هو توفيق الحكيم، واحد السكان قال عندما سئل عنه: انه دكتور؟ وآخر قال: ممثل معروف.. وواحد قال: صاحب عمارة لا يهتم بنظافة عمارته. وقال أنيس منصور لم نجد ساكنا واحدا يعرف من هو توفيق الحكيم.. وكان الحكيم قد قرأ أن لاعبا دون العشرين يعطونه مليونين من الجنيهات وثلاثة.. فقال: إن هذا اللاعب الصغير اخذ في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون، وقال عبارته المشهورة: انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم! ولو عاش توفيق الحكيم ليسمع عن"دافيد بيكهام"، و"رونالدو" و"رونالدينو" الذين يتقاضون مئات الملايين بأحذيتهم لصعق، و لو علم بما يذهب من ميزانيات للكرة واهتمام السياسيين بها، لترسخ لديه انطباع الأول بأن عصر القلم قد ولى وجاء عصر القدم! [email protected]