وأفكار الكتاب التي اعتبرناها مواجهة لسايكس-بيكو2، الذي كان محتملا وتحول إلى واقع، قد شرحها الأستاذ مالك في طروحاته بإسهاب هي أو على الأقل أهمها هي: 1. أن الغرب يحمل منظومة فكرية واحدة وإن تعددت وجوهها، مدارس فكرية متنوعة، ونظم سياسية مختلفة، ومصالح آنية متباينة، ولكنها ممتدة الجذور إلى أصل واحد هو "الديكارتية الممتدة الجذور إلى أثينا وروما وإلى عصر النهضة"، وهي منظومة متحضرة لأنها امتلكت أسباب الحضارة، ولكن جذبيتها تلك تمنع صلاحيتها لقيادة العالم قيادة رشيدة. 2. لا بد من إيجاد الفكرة الموازية، وهي الفكرة الشرقية ذات البعد الأخلاقي، والأخلاق عادة هي دين أو بقايا دين، ويرى بن نبي رحمه الله أن التقاء الهندوسية والإسلام يعتبره مخرج مهما للعالم الإفريقي الآسيوي، لأن الديانتين الإسلام والهندوسي لهما ثقل معتبر في المنطقة الإفريقية الآسيوية، ويستطيعان بما يحملان من قيم دينية بأبعادها الأخلاقية مواجهة الفكر الغربي الخالي من البعد الأخلاقي أصلا في سياسته لقضايا الإنسان، وقد كان معجبا بتجربة الزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي قاد ثورة شعبه على الاستعمار بشكل نضالي مختلف عن كل العالم، بالسلام باللاعنف. لا شك أن هذه الفكرة بالنسبة إلينا نحن المسلمون، فيها إشكال؛ لأن ثقافتنا المتوارثة لا تسعفنا على فهم هذه الفكرة بشكل جيد رغم أنها من صميم الفكر الإسلامي الصحيح، حيث أن مبدأ التحالف بين الشعوب والنظم في أطر تعاقدية معينة خدمة للإنسان والدفاع عن مصالحة من مبادئ الإسلام المقررة شرعا، أما عندما تكون في إطار تحالفات بين ضعفاء في مواجهة الأقوياء المستبدين، فإن الأمر يصبح آكد وألزم؛ بل إن بن نبي يستبعد في ذلك كل خطر على الإسلام كما قد يتوهم البعض، وإنما هو يرى أن الإسلام في المنطقة الإفريقية الآسيوية، هو الوعاء الأجمع لشعوب المنطقة، لما تتضمن مبادئه من استجابة طبيعية لحاجات هذه الشعوب الدينية والدنيوية، بل يرى بن نبي أن الإسلام كما قال محمد إقبال رحمه الله هو الانتقال من العالم القديم إلى العالم الجديد، بكل ما تعني كلمة انتقال من معنى، فقد جاء الإسلام بالأجوبة الكاملة على تساؤلات الإنساني الوجودية، فأمد الإنسان بالتصور الكامل لله والإنسان والكون والحياة، وزود البشرية بمناهج جديدة في التفاعل الإيجابي مع الكون والإنسان والحياة، ومن ثم فإن منطق الإسلام التعاقدي يقتضي التعاون على البر مع أي جهة كانت وفي أي إطار كان، ومن البر مواجهة الغرب الاستعماري، بالتعاون مع خصومه الطبيعيين، وهم هنا المجتمعات الإريقية والآسيوية عموما، اما في مطلق علاقة الشعوب الإسلامية وقياداتها، مع غيرها من المجتمعات غير الإسلامية، فإن الغلبة الفكرية للإسلام دائما؛ لأنه وحده من يحمل التصور الكامل عن الله والإنسان والحياة والكون، والثقافات الشرقية في عمومها تحمل قواسم مشتركة مع الإسلام في الكثير من القضايا، ومن ثم فهي أقرب لروح الإسلام من الثقافة الغربية. 3. إن التاريخ متجه إلى العالمية، فالغرب بصورته الآن –أي 1955- في اتجاهه إلى التكتل، فأمريكا قارة والاتحاد السفييتي شبه قارة، والتكتلات الأوروبية التي تحولت إلى سوق أوروبية مشتركة، لمواجهة الاتحاد السوفييتي واليابان والولايات المتحدةالأمريكية، ولكنه دائما غرب بمحتويات واحدة كما أسلفنا، ولمواجهة هذا الواقع، لا بد من ميلاد هذا التكتل الإفريقي الآسيوية، لما يحمل من مقومات البقاء والمقاومة، ككتل بشرية هامة، وكمخزومات طاقوية وإمكانات مالية هائلة. وعندما نتكلم عن أن توجه الإنسانية برمتها إلى العالمية، فمعنى ذلك أنه لم يعد ينفع معها التعامل بالأجزاء والتكتلات الصغيرة والضعفية، فلا الدولة الوطنية وحدها تكفي، ولا التكتلات القومية وحدها تستطيع، ولا الثقافة الواحدة بمفردها تقدر على فعل شيء مهم في أي أمر تريد؛ لأن العصر عصر تكتلات وتحالفات وتبادل مصالح وخبرات. وإذا كان الغرب الغني الذي يمكن أن يستغني عن بعضه البعض في الكثير من الأمور بما تملك أطرافه من مقومات البقاء لم يعد قادرا على هذا الاستغناء الممكن؛ بل يرى أن عدم استغنائه أقوى له وانفع وأجدى، فكيف بمن دونه من دول العالم الثالث، الذي يعجز عن فعل شيء مجتمعا، لكونه مفصول القدرة على الإرادة كما يقول بن نبي رحمه الله. ولم يكتف مالك بن نبي بإبراز نقاط القوة الكامنة في المنطقة وثقافتها وكثافتها السكانية وغنى أرضها، التي استفاد منها الشعب الهندي وحرم منها الشعب الباكستاني على سبيل المثال، الشعبان اللذان كانا شعبا واحدا. لماذا استفاد الشعب الهندي وحرم الشعب الباكستاني؟ لأن القيادة الهندسة استثمرت في العلاقة مع الغرب، والقيادة الباكستانية استثمرت فيها العلاقات مع الغرب.. فهي تملك قنبلة نووية ولكن هذه القنبلة لا توقظ نائما وتشغل منتبها.. ذهب مالك بن نبي في بحثه في أساسيات المشكلة الإفريقية الآسيوية، التي رشحها لأن تقود معركة الثلث الأخير من القرن العشرين مع الذات القابلية للإستعمار والآخر الإستعمار، والدخول إلى الألفية الثالثة، إلى تحليل الكليات التي تتشكل منها فاعلية هذه الشعوب ولافعاليتها، ومستوياتها وقدراتها، بإعادتها إلى عناصرها الأولية المتكونة منها، والتي إذا لم يحسن استعمالها في مكانها وزمانها الصحيحين، فإنها لا تنتج إلا الخراب، فتحدث عن الإنسان كعنصر رئيسي في حركة التحرر والمقاومة والتنموية والبناء، شارحا في ذلك مفهوم المعادلة الإجتماعية في العملية، ومدى تأثيرها -إيجابية كانت أو سلبية-، على جملة الحراك الاجتماعي العام، وعلى المنتوج العرمي والثقافي والتربوي قبل الإنتاج المادي، وكثيرا ما كان يضرب المثال في ذلك بمشروع شاخت الألماني الذي نجح في ألمانيا وفشل في أندونيسيا؛ فيقول مالك؛ لأن ذلك المشروع وضع للرجل الألماني وليس للرجل الأندونيسي، أي أن المشروع وضع وفق المعادلة الاجتماعية الألمانية، وليست المعادلة الاجتماعية الأندونيسية، وذلك يعني أن هناك شروط مادية ومعنوية في عملية التحرر والمقاومة والبناء متعلقة بالإنسان أساسا، فعاليته ثقافته مستوى تعليمه وتكوينه وعلاقاته بغيره القريب والغريب، كل ذلك يؤثر سلبا وإيجابا على النهوض والنكوص، فإذا كانت البلاد العربية مثلا تتفنن في إبداع الأساليب لدفع الناس إلى العمل والإنتاج ولم تفلح بالقدر الكافي، لأن أشخاصها غير فعالين -هذه معادلة اجتماعية-، فإن بلدا مثل اليابان يبحث في أساليب من أجل تعطيل الناس عن العمل؛ لأن أشخاصها فعالين، بحيث هناك نسبة لا بأس بها من المواطنين تموت سنويا بسبب الإفراط في العمل، -وهذه معادلة-. وإلى تحليل واقع الإنسان في هذه البقعة من العالم، لم يهمل بن نبي تحليل الثروة التي تتمتع بها المنطقة، فهناك ثروة مالية وطاقوية هامة، وهناك طاقة بشرية وكثافة سكانية هائلة، وهناك دافعية نفسية قوية، كل قسم من هذه الثروة موجود في بقعة من هذه البقاع، ولا يجمع بينها إلا هذا النفس الإفريقي الآسيوي الذي يجمع الكل لمصلحة الجميع، ومن ثم لن يكون الأثر لسياسات الغرب في المنطقة بعد الفوز بمكسب تقرير المصير، إذا ما آمنت قيادات هذه المنطقة بالمشروع، بعد الذي تحقق بفضل الجهد التحرري المبذول مع شيء من نضج الغرب الذي شعر بتهديد مصالحه، إن لم يساهم بالاعتراف لهذه الشعوب بحقها أو ببعضه. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن بن نبي رحمه الله قد شرع في نفس الفترة في تأسيس مجلة فكرية خدمة لمثل هذه المشاريع الرائدة بعنوان "البناء الجديد" وقد أسند إدارتها إلى الأستاذ عمر مسقاوي وعبد السلام الهراس وزملائهما من الطلبة الذين كانوا معه في القاهرة وقد جمعت بينهم روابط فكرية قوية، ولكن المشروع لم ينطلق، رغم أنه وضع مخططه ومشروعه، بحيث لم يبق إلا الشروع في العمل، كما ذكر ذلك الأستاذ مسقاوي في كتابه "في صحبة مالك بن نبي". واستطراد آخر ذو صلة، استسمح القراء في إيراده هنا، ونحن نتكلم عن مشروع بن نبي الاستباقي "لمنع سايكس-بيكو2"، فإن الأستاذ بن نبي رحمه الله كان ضد تقسيم الهند وتأسيس دولة باكستان؛ لأن ذلك رآه من مكائد بريطانيا على الشعب الهندي الذي أراد منه أن يكون درعا واقيا للمنطقة من المد الشيوعي، ولكن من غير أن يتأثر هذا الشعب بالإسلام، والهند إذا بقيت موحدة، فإن شعبها قادر على حماية المنطقة من المد الشيوعي، ولكنه لا يستطيع حماية الهندوس والسيخ من تأثير الإسلام عليهم، وللإبقاء على الهند هندوسية، وحمايتها من التأثير الإسلامي لا بد من استبعاد الإسلام من الهند، لأن تحول الهند إلى كتلة إسلامية كما كانت قبل الاستعمار الأنجليزي تعد بمثابة القنبلة الموقوتة. ولكن مع كل هذه الاحتياطات، والاقتراحات والقراءات، التي تقدم بها بن نبي لشعوب العالم الثالث عموما وللعالم الإسلامي خصوصا، حتى لا تبقى للغرب قوته الاستعمارية الفاعلة والمعرقلة للقوى النامية، وأراد لها أن تصل إلى قيادات ونخب الشعوب الإفريقية الآسيوية، لم يسمع بها عالمنا وكأنه صوت مبحوح، وربما لم يقرأ الكثير من نخب العالم العربي والإسلامي هذا الكتاب... والدليل على ذلك ها هو برنامج "سايكس*بيكو2" يسير بخطى ثابتة ومتأنية، بلا حرج ولا مرج؛ لأن قياداتنا ونخبنا لا تقرأ وإذا قرأت لا تفهم وإذا فهمت لا تحسن التطبيق؛ لأنها منشغلة بالتطبيل. فلله الأمر من قبل ومن بعد